سحور جُدّة.. القاهرة والرياض وبينهما دمشق

2023-04-04

سحور جُدّة.. القاهرة والرياض وبينهما دمشق

مدة القراءة 7 د.

سعدتُ بلقاء شقيقي سمو الأمير محمد بن سلمان، وإنّني إذْ أعبّر عن امتناني وتقديري لحسن الاستقبال والضيافة، أؤكّد عمق ومتانة العلاقات الثنائية بين مصر والسعودية. هكذا كتب الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد عودته من جدّة.
كان “اجتماع السحور” مفاجئاً، وقد جاء بعد شهور من ثرثرات عديدة، بعضها علنيّ، وأغلبها سرّيّ، حول تفاقم الأزمة بين القاهرة والرياض، وحول تعدّد الإشارات بصدد ذلك التوتّر الذي بدأ مطلع عام 2023.

3 لقاءات في 6 شهور
في تشرين الثاني 2022 رأس الرئيس السيسي والأمير محمد بن سلمان “قمّة الشرق الأوسط الأخضر” التي انعقدت على هامش مؤتمر المناخ “كوب 27” في مدينة شرم الشيخ.
كانت العلاقات وقتئذ على ما يرام، وكانت الكلمات التي عبّر بها الأمير محمد بن سلمان بعد عودته إلى الرياض تمتلئ بالودّ والدفء.
في الشهر التالي كانون الأوّل من عام 2023 التقى الرئيس السيسي الأمير محمد بن سلمان مرّة أخرى على هامش القمّة العربية – الصينية في الرياض، وقد تكرّرت الكلمات الودودة، وتأكيد قوّة العلاقات بين البلدين.
ما بين “القمّة العربية – الصينية” و”اجتماع السحور” ثمّة مئة يوم من الصمت. في تلك المئة راح كثيرون يتحدّثون عن أزمة، وراح آخرون يناقشون أسبابها.

حسب البيانات الرسمية للقاء الرئيس السيسي والأمير محمد بن سلمان لم يقف النقاش عند حدود العلاقات الثنائية، ولا سيما الاقتصادية منها، لكنّها تجاوزت إلى بحث الأوضاع الإقليمية والدولية

لم يكن هناك أساس يمكن الاستناد إليه في تحليل ما يجري، لكنّ كتابات عديدة كانت تقول إنّ الأزمة أكبر من أن يتمّ استيعابها، وإنّ الخلاف بين الدولتين مرشّح لمزيد من التصعيد.
وبينما تتوالى هذه التحليلات غير المتفائلة، والمبنيّة على معلومات غير مؤكّدة، جاء لقاء جدّة مباغتاً للجميع. استقبل الأمير محمد بن سلمان الرئيس السيسي في المطار، وكذلك قام بوداعه، وأظهرت الصور متانة العلاقات وكأنّ شيئاً لم يكن.
على الصعيد الشعبي ساد ارتياح كبير في القاهرة والرياض، وفي الوقت الذي عبّر فيه المصريون عن سعادتهم باللقاء، كان هاشتاغ “البلدين الشقيقين” الذي دشّنه السعوديون في صدارة “تريندات” المملكة.

وبينهما دمشق
حسب البيانات الرسمية للقاء الرئيس السيسي والأمير محمد بن سلمان لم يقف النقاش عند حدود العلاقات الثنائية، ولا سيما الاقتصادية منها، لكنّها تجاوزت إلى بحث الأوضاع الإقليمية والدولية.
بالطبع كانت القضية السورية أبرز القضايا الإقليمية، فقبل قليل كان وزير الخارجية السوري في القاهرة، حيث جرى بحث عودة سوريا إلى الجامعة العربية كموضوع أوّل في جدول الأعمال.
تمضي مصر والسعودية والإمارات معاً على طريق واحد بشأن إعادة النظر في الملف السوري، وقد كانت أبوظبي السبّاقة في الطريق الجديد، وصولاً إلى أكثر من لقاء مع الرئيس بشار الأسد.
في آذار 2023 قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إنّ هناك إجماعاً بدأ يتشكّل في العالم العربي على أن لا جدوى من عزل سوريا، وإنّ الحوار مع دمشق سيكون مطلوباً في وقت ما. وفي نيسان 2023 أكّدت وكالة رويترز أنّ الوزير السعودي يرتّب لزيارة دمشق، من أجل تقديم دعوة رسمية للرئيس الأسد إلى حضور القمّة العربية في الرياض، وأنّ هناك استعدادات لإعادة فتح السفارتين بعد شهر رمضان.
بالتوازي مع ذلك تلقّى وزير الخارجية السعودي اتصالاً من وزير الخارجية الإيراني للبناء على الاتفاق الثلاثي. وحسب وكالة الأنباء الإيرانية يتمّ إعداد لقاء بين الوزيرين خلال شهر رمضان.
وهكذا شهدت “الدبلوماسية الرمضانية” لقاء جدّة بين مصر والسعودية، وتشهد الإعداد للقاء سعودي إيراني، ثمّ لقاء سعودي سوري.

حسابات جديدة
اتّخذت مصر في عهد الرئيس السيسي موقفاً هادئاً تجاه سوريا، وفي أعقاب الزلزال انفتحت مصر على دمشق، وجرى أول اتصال بين الرئيس السيسي والرئيس الأسد.
أرسلت مصر المساعدات إلى سوريا، وطلب الرئيس السيسي من الشيخ محمد بن زايد إرسال المزيد من المساعدات، ثمّ شرعت مصر تعمل على مشاركة سوريا في قمّة الرياض في أيار 2023.
لم تعد السعودية تربط رؤيتها للعلاقات مع إيران بالاتفاق النووي الإيراني، سواء عاد الاتفاق كما كان، أو عاد بشكل مختلف، أو لم يعد نهائياً. وإنّما أصبحت الحسابات متعلّقة بالأمن والاستقرار في المنطقة، بغضّ النظر عن مآلات الاتفاق النووي.
تُعدّ فرضية قدرة إسرائيل على كبح جماح إيران فرضية قويّة كما كانت قبل عام. ومن شأن أيّ هجوم إسرائيلي على إيران أن يلحق الأذى بالمشرق العربي الذي تريد إسرائيل أن يظهر كحليف لها في المواجهة العسكرية. وقد دخلت إسرائيل نفسها في حالةٍ غير مسبوقةٍ من الارتباك الداخلي، وهي حالة لا تتعلّق بأزمة القضاء فحسب، بل وبذلك الانقسام الديني الذي يهدّد إسرائيل، أكثر ممّا تهدّدها إيران.
امتداداً لذلك لم تعُد السعودية ودول الخليج ترى في الأزمة السورية ما كانت تراه سابقاً. فقد أثبتت المدرسة المثالية ضعفاً واضحاً، ولم يعُد ممكناً العمل إلا وفق المدرسة الواقعية، ولذلك لا بدّ من الحوار مع بشار. وعلى ذلك أصبحت المطالب الرئيسية للرياض هي حماية الحدود ومواجهة تهريب المخدّرات.
أجرت تركيا أيضاً حسابات جديدة مع سوريا. ففي عام 2022 التقى وزيرا الدفاع بحضور وزير الدفاع الروسي. وفي 2023 التقى نائبا وزيرَي الخارجية بحضور روسيا وإيران. ومن مفارقات تلك اللقاءات اشتراط دمشق خروج القوات التركية من الأراضي السورية قبل أن يلتقي بشار الأسد إردوغان، وهو ما اعتبرته أنقرة غير مقبول، وهي التي كانت لديها جملة واحدة من قبل: سقوط نظام الأسد.

غباء التاريخ
ما حدث في سوريا في العقد الفائت ليس إلا نموذجاً متكرّراً لحماقة التاريخ، ذلك أنّ كلّ الأخطاء التي ارتكبت في سوريا ستمرّ من دون حساب، ولن يكون هناك حقّ يؤخذ للشهداء والجرحي والنازحين واللاجئين، بل لن يعتذر أحد عمّا حدث.بالمقابل، تعني عدم الواقعية المزيد من الدماء، والمزيد من مشرّدي الداخل والخارج. فاستمرار المواجهة والمعاندة لن يأتي بأيّة عدالة أو شبه عدالة، بل سيقود إلى شهداء جدد ومصابين جدد وديار أخرى خاوية على عروشها.
يبدو قبول الوضع الراهن كما هو، وتجاوز المحاسبة والمحاكمة، حتى اللوم والعتاب، قاسياً للغاية، لكنّه قد يكون الحلّ. يا إلهي. هل ذهب كلّ هؤلاء من أجل لا شيء؟ هل كان كلّ هؤلاء الشهداء والمصابين والتائهين مجرّد جملة عارضة يعود الحديث بعدها إلى سياقه من دون تغيير واحد؟!

إقرأ أيضاً: الخيل والإعلام: السعوديّة “تسابق العالم”

السياسة فنّ الممكن، وفي بلد كسوريا تهاجمه إسرائيل من ناحية، وينهشه الإرهاب من ناحية أخرى، ويحتاج أكثر من تريليون دولار ليعود إلى الوراء اثني عشر عاماً، فإنّ مساحة الممكن محدودة للغاية.
انتهى العالم العربي إلى أنّ العدالة مهمّة، لكنّ منع المزيد من الظلم هو أيضاً عدالة، ووقف المزيد من الدماء هو بذاته انتصار.هكذا نحن إزاء الحماقة الدائمة للتاريخ، حيث تُصبح المواجهة أكثر خطراً من المداهنة، والعدالة أكثر ضرراً من السياسة، والقبول بالظلم أفضل من الاستعداد للمزيد من الظلم.
يحتاج العالم العربي إلى عودة سوريا، لكنّ سوريا تحتاج إلى العودة إلى ذاتها أوّلاً.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

إقرأ أيضاً

ما الذي يجمع بين أيمن نور المصري ووّهاب اللبناني؟

أيمن نور ووئام وهاب يقودان المعارضة السعودية الجديدة. في مشهد سوريالي يبين كيف أنّ هذه المنطقة العربية معقدة المصالح وأنها على بعد سنوات ضوئية في…

اجتماع معراب: إنهاكٌ فقط أم انقسام؟

دعت القوات اللبنانية إلى اجتماعٍ للنواب والفعّاليات لاستنكار إدخال الحزب للبنان في الحروب. وطالب المجتمعون بضرورة تطبيق القرار الدولي رقم 1701، وضرورة ضبط الحدود مع…

قمّة البحرين تستعيد القضيّة من الانحياز الأميركيّ والتوظيف الإيرانيّ؟

هل تقتنص المنظومة العربية فرصة القمّة المقبلة في البحرين من أجل استعادة القضية الفلسطينية إلى إطارها العربي؟ أم اختلال ميزان القوى مع أميركا سيدفع واقعيّاً…

لبنان بين ثنائيّتين وربط نزاع أميركي – فرنسي

ثلاث قناعات تحيط بالواقع اللبناني في هذه المرحلة: – الأولى: أميركية. تصارح الإدارة الأميركية نفسها، في اعتراف تامّ، بعدميّة تمكّنها من فرض أيّ حل بمفردها…