حرب غزّة.. تحدّث الأزهر فاختفت جماعات الإسلام السياسيّ

2023-11-16

حرب غزّة.. تحدّث الأزهر فاختفت جماعات الإسلام السياسيّ

مدة القراءة 8 د.


مستشفى الشفاء في شمال غزّة أكبر عمراً من إسرائيل بعامَيْن كامليْن. واليوم، بعد 77 عاماً، فإنّ المستشفى أكبر من إسرائيل أخلاقياً بألف عام.
كان مشهد الحرب بين الجنرالات والأطبّاء مذهلاً للغاية. جنرالات الاحتلال الإسرائيلي يتباهون بالانتصار على المرضى، وحصار 700 سرير. والأطبّاء الفلسطينيون يواصلون العمل على الرغم من تمدّد الموت في كلّ مكان. خسر الجنرالات وربح الأطبّاء.. العار للدبّابات والمجد للممرّضات.

كييف أهدأ من تل أبيب
حين اندلعت الحرب الروسية – الأوكرانية استقبلت أوروبا عدداً من اللاجئين، وبدورها استقبلت إسرائيل الآلاف منهم. وبعد اندلاع حرب غزّة غادر الأوكران إسرائيل وعادوا إلى بلادهم.
تحدّث بعض الأوكران، الذين هربوا من حرب أوكرانيا ثمّ عادوا إليها، إلى وسائل الإعلام قائلين: إنّنا في حالة فزع، صفّارات الإنذار متكرّرة، والخوف في كلّ لحظة، لقد هربنا من الحرب إلى الحرب، والآن نعود من الحرب إلى الحرب، لكنّ الحرب عندنا أفضل، كييف أهدأ من تل أبيب.
لا يُقارَن الوضع في غزّة بالوضع في إسرائيل، لكنّ الدم في غزة يوازيه الذُّعر في إسرائيل. وعلى الرغم من أنّ الذين قُتلوا في غزّة في الأسابيع الخمسة الأولى يعادل عدد الذين قتلوا في أوكرانيا في 18 شهراً، وحجم الخراب في غزّة لم تشهده أيّ مدينة في أوكرانيا، إلاّ أنّ كلّ هذه المأساة الإنسانية تقابلها في الجانب الإسرائيلي حالة غير مسبوقة من اليأس والخوف.
إنّ واحداً من أسباب الخوف هو تراجع صورة إسرائيل في الغرب، وإفاقة قطاعات واسعة من النخب الثقافية والدوائر الشبابية على “إسرائيل جديدة” لم يسمعوا عنها من قبل. وسوف تعاني إسرائيل طويلاً من تحطّم أطروحتها التقليدية على الصخرة الحقوقية والنزعة الإنسانية. وقد تخفق كلّ دعايات إسرائيل في مواجهة هذا الإحياء الأخلاقي العالمي المناصر للشعب الفلسطيني، وقد لا تعود عجلة التاريخ إلى الوراء أبداً.

لا يُقارَن الوضع في غزّة بالوضع في إسرائيل، لكنّ الدم في غزة يوازيه الذُّعر في إسرائيل

لم يحدث في تاريخ نيويورك أن كانت تظاهرة يهودية ضدّ سياسات إسرائيل بهذا الحجم، ولم يحدث في تاريخ الكونغرس أن تلقّى الأعضاء حشداً من الرسائل والإيميلات والاتصالات الداعمة لفلسطين والناقدة لإسرائيل بهذا الكمّ، ولم يحدث في تاريخ الخارجية الفرنسية أن وقّع سفراء في 10 دول مذكّرة جماعية إلى قصر الإليزيه تنتقد سياسات فرنسا التي أفقدتها مصداقيتها في العالم العربي، وجعلتها متّهمة بالتواطؤ في أعمال الإبادة التي تقوم بها إسرائيل، كما لم يحدث في تاريخ أوروبا أن هاجم مسؤولون كبار إسرائيل على هذا النحو، أو أن وصلت انتقادات ساسة القارّة العجوز إلى حدّ المطالبة بالمحاكمة أو توقيع عقوبات.

لماذا لا يحارب المصريّون؟
في الوقت الذي ينتقد فيه الأمين العام للأمم المتحدة جرائم إسرائيل، وتؤكّد الجمعية العامة ضرورة وقف إطلاق النار، ويتراجع العديد من ساسة الغرب بشأن الدعم اللامتناهي لإسرائيل، جاءت بعض جماعات الإسلام السياسي لتعمل لإسرائيل، فتحسّن صورتها، وتزيح مسؤوليتها، وتتّخذ من مصر هدفاً للمعركة، بعد تجنيب إسرائيل.
راح المتطرّفون الإسلاميون يكرّرون الخطاب الإسرائيلي بأنّ مصر هي التي تحاصر الفلسطينيين، وأنّ النظام المصري قد سجن غزّة من قبل، وها هو يسجنها من جديد.
المتطرّفون الإسلاميون ونتانياهو هما لغتان في خطابٍ واحد، كلاهما يريد تهجير الفلسطينيين، وإزاحة الشعب من أرضه ووطنه باتجاه سيناء. إنّهما يطرحان المنهج ذاته: فتح المعبر الحدودي مع مصر.. لأجل إخلاء فلسطين من الفلسطينيين، أي إلغاء القضية بتصفيتها.
بعضهم ذهب إلى منحى آخر: لماذا لا يحارب المصريون؟ ما الذي يفعله الجيش المصري القويّ إذا لم يستثمر قوّته في خوض الحرب ضدّ إسرائيل؟
هكذا تمضي جماعات الإسلام السياسي في ابتزاز القاهرة، من أجل تل أبيب، تارة بأنّ مصر تحاصر غزّة، وتارة أخرى بأنّ على مصر أن تحارب إسرائيل.

هكذا تحدّث الإمام الأكبر
في ظروف سابقة نجحت الجماعات المتطرّفة وإعلامها الصاخب في تحصيل مكاسب في كلّ جولة صراع، لكنّها هذه المرّة لم تنجح، ذلك لأنّ قوّة الخطاب الرسمي المصري والقيادة الأزهرية للشارع الإسلامي قد أضاعا الفرصة على المتطرّفين.

ما إن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزّة حتى توالتْ مواقف الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر لتعبِّر عن مشاعر نحو مليارَي مسلم في العالم. وفور بدء الحرب أصبحت صحيفة “صوت الأزهر” تُصدر عناوينها بالإنكليزية والفرنسية والعبرية، بالإضافة إلى اللغة العربية.
طرح الأزهر ذلك السؤال البسيط: من الطرف الذي يحتلّ الآخر منذ 75 عاماً؟ من الطرف الذي يرفض القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة منذ 75 عاماً؟
حين قصفت إسرائيل في فلسطين ثالث أقدم كنيسة في العالم، تحدّث الأزهر عن نهاية مزاعم الغرب الأخلاقي، وعن دفن كلّ القيم الغربية تحت أنقاض المستشفيات المقصوفة.
قال الأزهر: السلاح غربي، والدعم غربي، والحماية غربية، والعار غربي. لا مسيح في الغرب ليحيي كلّ هذه الضمائر الميّتة.
وجّه الإمام الأكبر رسالة إلى المرابطين في فلسطين: لا تتركوا وطنكم. إنّ ترك أراضيكم زوالٌ لقضيّتكم إلى الأبد، والشهادة فيها خيرٌ من تركها للمستعمرين الغاضبين. ثمّ قال الإمام: لن يرحم التاريخ كلّ الذين تخاذلوا في الدفاع عن الفلسطينيين الأبرياء.
أعادت صحيفة “صوت الأزهر” نشر المقال الذي نشره موقع أساس ميديا بعنوان “إنّه الاحتلال يا غبيّ”، وقالت الصحيفة مخاطبةً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن: “الدم الذي تتجاهل أن تراه ينزف في غزّة.. سوف يلاحقك إلى الأبد. البشر يقفون مع غزّة، والمجرمون العنصريون يقفون مع إسرائيل”.
نشر رئيس تحرير صحيفة “صوت الأزهر” مقالاً في الأهرام ويكلي بعنوان “ماذا لو كان جورج واشنطن فلسطينياً؟”. وفي هذا المقال تحدّث عن اعتبار الاحتلال البريطاني جورج واشنطن زعيم ميليشيا مخرّباً، وإصداره قراراً بعصيانه. وكان واشنطن بقيادته للمجموعات المسلّحة هو من صنع الاستقلال الأميركي.
أصدر “مجلس حكماء المسلمين” في أبوظبي، الذي يرأسه شيخ الأزهر، بياناً يدين العدوان الإسرائيلي، ويطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار، وإقامة دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية. وقد قال لي المستشار محمد عبد السلام الأمين العامّ لمجلس حكماء المسلمين: لقد كان بيان مجلس الحكماء سبّاقاً، كما كان حاسماً، ولقد عبّر بحقّ عن رؤية مسؤولة لواحدة من أهمّ المؤسّسات الإسلامية الدولية.

رسالة إلى الإمام
لاقتْ مواقف الإمام الأكبر والأزهر الشريف قبولاً واسعاً في أكثر من خمسين دولة إسلامية، وقام 31 من قادة المؤسسات الإسلامية في العالم بتوقيع بيان باسم علماء الأمّة، لمناشدة شيخ الأزهر مواصلة المواجهة.
كان من بين ما جاء في البيان العالمي: “فضيلة الإمام الأكبر.. إنّ الله يهيّئ الرجال الكبار للمواقف الكبيرة. لقد ساق الله إليك أرفع منصب علمي في عالم الإسلام، وقد رفعك إلى مرتبة ترنو إليها الأبصار والقلوب، ورضي لك الناس لقب الإمام الأكبر، وجلست على مقعدٍ تقلّده قبلك الخالدون الكبار”.. “وقد وفّقكم الله منذ بداية الحرب على غزّة بالموقف النبيل، والقول الشجاع الأصيل.. فتقدّم لعملٍ ليس له إلا أنت”.

إقرأ أيضاً: إنّه الاحتلال يا غبيّ

جامعة الأزهر في بريطانيا
قامت إسرائيل بالانتقام من الأزهر الشريف وشيخه بقصف جامعة الأزهر في غزّة، ولكم كان القدر مدهشاً في هذا الشأن، فما إن قُصِفت الجامعة، حتى كان هناك نجم يشرق من الغرب ويتولّى قيادة كلّية الجرّاحين الملكية البريطانية في غلاسكو، وهي المرّة الأولى التي يتولّى فيها رئاستها طبيب عربي منذ تأسيسها قبل 425 عاماً.
كان النجم الجديد هو الدكتور هاني عتيبة ابن جامعة الأزهر، والذي حصل على درجتَي البكالوريوس والماجستير من كلّية الطبّ بجامعة الأزهر. قمت بالتواصل مع الطبيب المصري العالمي بعد حصوله على منصبه المرموق، وتبادلنا الرسائل انتظاراً للقاء قريب. وقد عرفت أنّ الإمام الأكبر قد اتّصل برمز النجاح الجديد لتهنئته، ودعوته لاستقباله وتكريمه.
لن ينطفئ نور الأزهر حتى لو هدمت إسرائيل جامعته، وشنّت هجوماً على إمامه، ولن تصعد جماعات الإسلام السياسي على جثث الشهداء، ما دام المشايخ الأجلّاء والمؤسّسات العلمائية تصدح بالحقّ، وتضيء الطريق وتمنح الأمل.
تخوض إسرائيل حرب إبادة في غزّة بكلّ ثقةٍ وثبات، ويظنّ قادتها أنّ المنطقة إزاء لحظة إسرائيل، لكنّ التأمّل الأعمق في حقائق السياسة وحركة التاريخ يقول بغير ذلك.. وفي قولة واحدة: كلّ احتلال إلى زوال.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة، الأمين العامّ لاتّحاد كتّاب إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

إقرأ أيضاً

التصعيد ضدّ أذرع إيران… تقابله مرونة لإنقاذ رفح؟

تسابق الضغوط من أجل إحياء مفاوضات الهدنة في غزة قرار الحكومة الإسرائيلية اقتحام رفح. يترافق ذلك مع رصد جدّية الليونة التي أبدتها قيادة “حماس” الداخل…

تفشّي وباء الصراعات.. هل يشعل حرباً عالميّة؟

العالم ليس بخير. مشهد العلاقات الدولية في ظلّ الحروب الصغيرة المتنقّلة هنا وهناك والصراع على النفوذ والتناحرات الإقليمية أشدّ تعقيداً ممّا كانت عليه الصورة عشيّة…

قادة غزّة: أزمة مكان أم خيارات؟

كثر الحديث “غير الموثّق بأدلّة رسمية” عن أنّ قطر بصدد الاعتذار عن عدم مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث كانت ولا تزال حتى الآن المكان الأكثر…

العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا…