غزّة العظمى.. جاء المعلّم لينقذ الصبيّ

2023-11-05

غزّة العظمى.. جاء المعلّم لينقذ الصبيّ

مدة القراءة 7 د.


تحمّلت الولايات المتحدة تظاهرات جامعة هارفرد في حرب فيتنام ولم تتحمّلها في حرب غزّة. تقبّلت القوة العظمى أن تقِف الجامعة المرموقة ضدّ الجيش الأميركي في أصعب حروبه في التاريخ المعاصر، ولم تتقبّل أن تقف ضدّ جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
ما حدث في جامعة هارفرد صادمٌ وجديد، فما إنْ تظاهرت أعداد كبيرة من الطلاب ضدّ العدوان الإسرائيلي، وتمدّد المئات منهم على أرض الجامعة في محاكاة لجثث الشهداء في غزّة، وأصدر اتحاد طلاب كلّية كينيدي بالجامعة بياناً يطالب بوقف الحرب، حتى بدأت الحملة غير المسبوقة على هارفرد جامعةً وطلاباً.
لقد وصل الأمر في الحرب على حرّية التعبير في الجامعة التي تُعدّ درّة التاج في الجامعات الأميركية إلى حدّ إعلان عدد من كبار المليارديرات وقف تمويل المنح التعليمية، وإعداد قوائم بأسماء وصور جميع الطلاب الذين شاركوا في التظاهرات، من أجل منع توظيفهم في المستقبل في كلّ الشركات الأميركية المؤيّدة للحرب، ثمّ كانت المفاجأة في إعداد سيارة تطوف الجامعة وعليها أسماء وصور الطلاب المتظاهرين، ووصفهم بأنّهم “أعداء السامية” في حملة تشهير مهينة وغير مسبوقة، أعادت الأجواء المكارثية قبل عقود.

بؤس الديمقراطيّة
ما تزال الديمقراطية الغربية تواصل الهزائم الأخلاقية على أثر حرب غزّة 2023، فلقد تمّ فصل العديد من المذيعين والصحافيين وغيرهم ممّن أدانوا العدوان الإسرائيلي أو رفعوا علم فلسطين.
في بريطانيا قالت وزارة الداخلية إنّها تدرس تغيير القانون لمنع التظاهرات المؤيّدة لوقف الحرب، كما قام رئيس الوزراء ريشي سوناك بفصل النائب بول بريستو من وظيفته الحكومية سكرتيراً برلمانياً لوزيرة العلوم، لأنّه جرؤ وأرسل لرئيس الحكومة يطالب بوقف إطلاق النار.
في عواصم غربية عديدة جرى الخلط عمداً بين المطالب الإنسانية بوقف الإبادة الجماعية وإنقاذ المدنيين، وبين الاتهامات المتعلّقة بمعاداة السامية.

سوف تجني إسرائيل الثمار المرّة لهذا الانحدار الأخلاقي، ولقد بدأت بالفعل داخل الراعي الأكبر لها، في عقر الولايات المتحدة ذاتها

كان موقف هيلاري كلينتون هو الآخر بائساً للغاية. لقد سكتت هيلاري دهراً ثمّ نطقت دماً، وراحت تحذّر من عواقب وقف إطلاق النار.
لقد توازى ذلك مع بدء موسم الهجوم على الأمم المتحدة، وبمثل ما تمّ اغتيال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة داج همرشولد عام 1961 لمواقفه المعادية للاستعمار، راحت إسرائيل تواصل اغتيالاً معنوياً للأمين العام أنطونيو غوتيريش لمطالبته بإنهاء الاحتلال، وبينما نادى وزير الخارجية الإسرائيلي بإقالة الأمين العام قام سفير إسرائيل في الأمم المتحدة بارتداء نجمة صفراء كان هتلر يجبر اليهود على تعليقها على ملابسهم، احتجاجاً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بوقف إطلاق النار.

ليندسي غراهام وأنجلينا جولي
جاء موقف السيناتور الشهير ليندسي غراهام متطرّفاً كعادته، فقد راح يروّج لمزاعم قطع رؤوس الرضّع والأطفال، واغتصاب النساء أمام عائلاتهنّ، وهي المعلومات الخاطئة التي ردّدها الرئيس بايدن نقلاً عن مراسلة CNN.
اعتذرت مراسلة CNN ولم يعتذر الرئيس بايدن، ثمّ كرّر غراهام الأكاذيب وكأنّها حقائق ثابتة. ووصل الجنوح بالسيناتور غراهام إلى حدّ التقليل من بشاعة الهولوكوست، ووصف الفلسطينيين بأنّهم أكثر وحشية من النازيين!
وقفت الفنّانة العالمية أنجلينا جولي عند الضفّة الأخرى من ليندسي غراهام، حيث وصفت العدوان الإسرائيلي بأنّه عقاب جماعي متجرّد من الإنسانية، وأنّ الفلسطينيين ينتقلون من مرحلة “السجن المفتوح” إلى مرحلة “المقبرة الجماعية”، وحيث إنّ 40% من القتلى أطفال أبرياء، وعائلات بأكملها يتمّ قتلها، فإنّ زعماء العالم متواطئون في ارتكاب هذه الجرائم.
تعامل ليندسي غراهام مع الفلسطينيين باعتبارهم نازيين، وتعامل جو بايدن معهم باعتبارهم أرقاماً (numbers)، وتعاملت أنجلينا جولي مع الأمر وفق ما يجب أن يتعامل به الإنسان مع الإنسان.

الكفوف الحمر
لم تنجح محاولات الغرب اللاإنسانية لإلغاء غزّة أو حذف الفلسطينيين من أراضيهم، إذْ سرعان ما استيقظ الضمير العالمي.
في محطة “غراند سنترال” في نيويورك طالب آلاف اليهود، في أكبر حشد في نيويورك منذ 20 عاماً، بوقف الحرب، وفي الكونغرس قاطع أميركيون خطاباً لوزير الخارجية أنتوني بلينكن، وهم يرفعون كفوفهم الحمر، إشارة إلى تلطّخ يد أميركا بالدماء.
كان الدبلوماسي الباكستاني الأشهر السفير منير أكرم يطالب نظيره الكندي في الأمم المتحدة بالعدالة والتوازن، وإدانة 56 سنة من الاحتلال والقتل الممنهج، بينما احتشدت أعداد هائلة في تظاهرات بريطانيا واليونان وبولندا. وقال السفير: “حين تحشر الناس في الزاوية سوف يردّون عليك. يجب ألّا تنظر لبداية الأحداث في 2023، فالبداية كانت في 1967، واندلاع أحداث 2023 كان السبب القريب، لكنّ الاحتلال هو الخطيئة الأولى”.

غزّة الكبرى
قام الكونغرس الأميركي بتخصيص ميزانية كبيرة تتجاوز 100 مليار دولار لدعم إسرائيل وأوكرانيا وتايوان. وهكذا ساوت الولايات المتحدة بين غزّة وروسيا والصين، وأصبحت غزّة العظمى تحتاج إلى مليارات لمواجهتها كما تحتاج أوكرانيا في مواجهة موسكو، وتايوان في مواجهة بكين!
إنّ القطاع الصغير الذي يعاني “حصاراً بيولوجياً” من قبل إسرائيل، يواجه العدوان بصلابة مذهلة، فالذين تموت عائلاتهم وأبناؤهم، لا يذرفون الدموع طويلاً، بل يذهبون لإنقاذ من بقي فوق الأرض، ومن يحاول البقاء تحت الأنقاض. يدفن الفلسطينيون في غزّة شهداءهم ويعودون لمعركة الحياة من دون توقّف للبكاء أو استراحة للدموع.
يعمل الاحتلال الإسرائيلي على تجويع غزّة وتعطيشها، فمن لم يمُت بالصواريخ أو القنابل، أو في الشوارع وتحت المنازل، مات بسبب انعدام الغذاء والدواء. ويريد الفلسطينيون الحياة الكريمة أو الموت الكريم، الموت شهداءً لا الموت جوعاً.
لا بطولة في أداء الجيش الإسرائيلي، فلا أحد يمكنه أن يفخر بقتل المدنيين، أو يعلّق صورته ببزّته العسكرية على حائط منزله وقد قتل أطفالاً في عمر الياسمين. لا أوسمة أو نياشين لجنرالات يقصفون المستشفيات، ويحرقون النساء بأسلحتهم المحرّمة دولياً، ويعطون بيانات لمناطق آمنة ليتجمّع الأبرياء فيتمّ قتلهم جميعاً.

إقرأ أيضاً: غزّة: هل الحلّ في قتل كلّ فلسطينيّ؟

الشباب الأميركيّ
سوف تجني إسرائيل الثمار المرّة لهذا الانحدار الأخلاقي، ولقد بدأت بالفعل داخل الراعي الأكبر لها، في عقر الولايات المتحدة ذاتها.
في أحدث استطلاع للرأي نشرته محطة CNN جاءت نتائج تأييد الأميركيين لإسرائيل حسب الشرائح العمرية على النحو التالي:
في الشريحة العمرية من 65 عاماً فأكثر أيّد 81% من الأميركيين إسرائيل، وفي الشريحة العمرية بين 50 و64 عاماً هبط تأييد إسرائيل إلى 56%، ثمّ هبط ليصل إلى 44% في الشريحة العمرية بين 35 و50، ليصل التأييد إلى أدنى مستوياته في الشريحة العمرية بين 18 و34 عاماً، حيث هبط إلى 27% فقط.
هكذا فإنّ الشريحة الأكثر تأييداً لإسرائيل هي الأكبر سنّاً، وأمّا الشباب فهم الأقلّ تأييداً على الإطلاق. وهكذا فإنّ مستقبل إسرائيل في أميركا بات مهدّداً على نحو غير مسبوق.
في عام 2023 جاءت الولايات المتحدة لتحمي إسرائيل، لكن في عام 2053 قد لا يأتي المعلّم لينقذ الصبيّ.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

إقرأ أيضاً

التصعيد ضدّ أذرع إيران… تقابله مرونة لإنقاذ رفح؟

تسابق الضغوط من أجل إحياء مفاوضات الهدنة في غزة قرار الحكومة الإسرائيلية اقتحام رفح. يترافق ذلك مع رصد جدّية الليونة التي أبدتها قيادة “حماس” الداخل…

تفشّي وباء الصراعات.. هل يشعل حرباً عالميّة؟

العالم ليس بخير. مشهد العلاقات الدولية في ظلّ الحروب الصغيرة المتنقّلة هنا وهناك والصراع على النفوذ والتناحرات الإقليمية أشدّ تعقيداً ممّا كانت عليه الصورة عشيّة…

قادة غزّة: أزمة مكان أم خيارات؟

كثر الحديث “غير الموثّق بأدلّة رسمية” عن أنّ قطر بصدد الاعتذار عن عدم مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث كانت ولا تزال حتى الآن المكان الأكثر…

العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا…