قصّة موسى وهارون.. قراءة جديدة في الدين والدولة

2022-05-03

قصّة موسى وهارون.. قراءة جديدة في الدين والدولة

مدة القراءة 6 د.

شيخ الأزهر من جديد

إنّ الفرقة والتنازع والاختلاف أشدُّ ضرراً، وأسرع تأثيراً في تدمير المجتمعات، وتقويض بنيان الجماعات من تأثير الوثنية والشرك.

جاء هذا النصّ المهمّ في كتاب “هكذا تحدّث الإمام الأكبر.. الإسلام في القرن الحادي والعشرين”، الذي تشرّفت بتحريره وتقديمه. وقد صدر الكتاب عن مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية بالتعاون مع دار بتانة في 208 صفحات.

وجدتُ أنّ العودة إلى صفحات الكتاب لاستعراض القراءة الجديدة التي قدّمها الإمام الأكبر لقصّة نبيَّيْ الله موسى وهارون في القرآن الكريم، هي عودة مهمّة وواجبة.

 

الاختلاف في القرآن

يقول الإمام الأكبر إنّ الإسلام قليل التكاليف، وإنّ قلّة التكاليف في الإسلام هي دعوة للاتحاد والقوة في كلّ ‏المجتمعات الإسلامية، وهما مقصدان أساسيّان من‎ ‎مقاصد ‏الإسلام. فقلّة التكاليف تفتح الباب للتنوّع والتكامل ‏والاجتهاد والرأي، وفي الوقت ذاته تضيّق ‏مساحات الاختلاف‎ المؤدّي إلى التعصّب‎ ‎والتشدّد، وما يتبع ذلك من ‏انقسامات تبدو معها الأمّة ‏وكأنّها أمّة ذات دينين أو أديان مختلفة.

يحتاج العالم الإسلامي الذي تصدّعت العديد من دوله ومجتمعاته إلى أن يتجاوز حقبة التطرّف والإرهاب إلى عصر جديد من الأمن والاقتصاد

هذا ما حثّنا عليه رسولنا الكريم حيث قال: “اقرؤوا ‏القرآن ما ‏ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفت فقوموا عنه”، وكأنّه (صلّى الله عليه وسلّم) يفضّل‎‏ إلغاء تلاوة القرآن، ‏‎‎مع عظيم ‏فضلها ومنزلتها‎ ‎عند الله، إذا أدّت هذه التلاوة إلى نزاع واختلاف في‎ ‎القراءة أو في ‏التفسير.

وقد أكّد‎  هذا المعنى ‏في حديث آخر يقول فيه: “إنّما هلك من‎ ‎كان قبلكم بالاختلاف ‏في‎ ‎الكتاب”، وأصل ذلك كلّه في‎ ‎قوله تعالى: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَ?ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{ )سورة آل عمران، الآية 105(.‏

 

موسى وهارون

يواصل الإمام الأكبر شيخ الأزهر: إنّ القارىء ‏والمتأمّل في قصّة موسى وأخيه هارون، يجد أنّ أولويّة الألفة والاجتماع قد تسبق، في بعض ‏الأحوال،‏‎ ‎أولويّة الإيمان ‏بالله تعالى.‎ ‎وقد قصَّ علينا القرآن الكريم أنّ موسى عليه السلام حين ‏ذهب لمناجاة ربه، وترك أخاه هارون مع قومه، ‏حدث أن ارتدّ هؤلاء القوم عن دين التوحيد.

فلمّا رجع موسى إليهم غضبان أسفاً، ممّا‎ ‎أحدثوا من الردّة ومن عبادة ‏الأصنام، ألقى الألواح ‏من الغضب، وأخذ برأس‎‎‏ هارون يجرّه إليه، ووجّه إليه اللوم والعتاب‏ لبقائه‏ مع هؤلاء‎ ‎المرتدّين وما ‏الذي منعه‎ ‎من أن يتركهم ويلحق به.‎ ‎

وكان جواب هارون لموسى، عليهما ‏السلام: خشيت‏‎ ‎إن تركتهم أن يتفرّقوا. ‏وكأنّ هارون عليه السلام وازن بين ضررين، بقائه‎ ‎مع ‏قومه على شركهم،‎ ‎أو فراقه للمشركين‎ ‎وما يترتّب عليه من تفرّقهم ‏وتبدّدهم إن هو تركهم‎ ‎والتحق بأخيه.‎

إنّ سيّدنا هارون، عليه السلام،‏ آثر الأولى على الثانية، بما يعني أنّ الفرقة‎ ‎والتنازع والاختلاف أشدُّ ضرراً، وأسرع تأثيراً في‎ ‎تدمير المجتمعات وتقويض‎ ‎بنيان الجماعات من تأثير‎ ‎الوثنيّة ‏والشرك.

هنا ‏مقايسة بين ضرر‎ ‎الشرك وما ينشأ من الاختلاف‎ ‎والتفرّق، ‏وما قرّره العلماء‎ ‎من أنّ الضرر الأوّل “الشرك” أهون من ‏الثاني “الاختلاف والفرقة”.

إنّ العلّة في ذلك أنّ الشرك وإن كان شرّاً ‏مستطيراً، إلا أنّه لا يستعصي على‎ ‎الهداية، ‏والعودة إلى الإيمان‎ ‎بالله تعالى، بدليل أنّ كثيراً من‎ ‎الأمم والشعوب تحوّلت‎ ‎على أيدي الأنبياء من‎ ‎ظلمات الشرك‎ ‎إلى نور ‏الإيمان، وذلك بخلاف ‏مرض الفرقة والتنازع، وما ينتهيان إليه من فشل لا يُرجى معه أيّ أمل في علاج أو إصلاح.

أفشوا السلام بينكم

يذهب الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر إلى أنّ المحبّة من شروط الإيمان. يقول الإمام الأكبر في كتابه “الإسلام في القرن الحادي والعشرين”: يقول الرسول (صلّى الله عليه‎ ‎وسلّم): “دبّ إليكم داء‎ ‎الأمم قبلكم. الحسد والبغضاء، هي ‏الحالقة، لا أقول تحلق‎ ‎الشعر، ‏ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنّة حتى ‏تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، فلا أنبئكم بما يثبت ذلك ‏لكم؟‎ ‎أفشوا السلام بينكم‎”‎‏.‏‎ ‎

إنّ الاختلاف في المسائل الدينيَّة في حياة المسلمين المعاصرة خطر كبير، ليس على وحدة مجتمع أو ‏مجتمعين، بل على وحدتهم في العالم كلّه.

إنّ المتدبّر فيما أصابنا في قرننا يدرك أنّ هذا كان بسبب استغلال البعض لخلافات بين ‏المسلمين والموجودة منذ أن ظهر الإسلام، وهكذا اتّسعت فجأةً هذه الخلافات، وأصبح كلّ أتباع مذهب يكفّر ويريد أن ‏يريق دماء المذهب الآخر.

إنّ الباحث عن أسباب إراقة الدماء في أيّ بلد عربي لن تجد وراءه سبباً ظاهراً إلا ‏أنّ هذا على مذهب كذا وهذا على مذهب كذا، مع العلم أنّ هذين المذهبين عاشا في كنف الإسلام خمسة عشر قرناً.‏

لقد كان معروفاً تاريخياً وعلمياً أنّ الخلاف قديماً كان على المسائل السياسية، وهذا المعيار لا ‏يصلح أبداً أن يكون فتنة يوقظها الأعداء بين المسلمين، لكنّهم للأسف نجحوا في استغلال هذا المعيار، وبسبب ‏الخلاف استطاع أعداء الإسلام أن ينفذوا إلى الوحدة الإسلامية ويضربوها في مقتل.

إنّ النبيّ حين قال: ‏”لا يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح أوّلها”، ليس المقصود به أن نعود إلى ما كان عليه أوّل هذه الأمّة شكلاً وموضوعاً، فهذا ‏كلام غير معقول ولا يمكن أن يحدث، لكنّ هذه الأمّة في أوّلها انتصرت بالوحدة والاتحاد.‏

 

وبعد…

لقد أدّت جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، وتدهور النظام العالمي إلى تفاقم الأزمات وتضاعف الأعباء.

إقرأ أيضاً: هكذا تحدّث شيخ الأزهر.. الإسلام في القرن الـ21

يحتاج العالم الإسلامي الذي تصدّعت العديد من دوله ومجتمعاته إلى أن يتجاوز حقبة التطرّف والإرهاب إلى عصر جديد من الأمن والاقتصاد.

إنّ المعركة مع الخوارج الجُدد ومع أعوانهم هي معركة وجود لها حدود، إمّا أن تلملم هذه الأمّة ذاتها وتنهض من جديد لتعاود منحنى الصعود أو أنّها بداية النهاية والمشهد الأخير.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

 

إقرأ أيضاً

عراضة “الجماعة” في عكّار.. ومرحلة ما بعد حرب غزّة

بعد العراضة المسلّحة لـ”الجماعة الإسلاميّة” في منطقة عكار الشمالية، بدأت تظهر ملامح مرحلة ما بعد حرب غزّة في لبنان. تبدو الحاجة أكثر من أيّ وقت…

لا عزاء للمساكين

“لم أغسل دمي من خبز أعدائي  ولكن كُلّما مرّت خُطَايَ على طريقٍ فرّتِ الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ   كلّما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبةِ فالتجأتُ إلى رصيف الحلم…

“أخوة يوسف”* أمام معضلة خط الحرير العراقيّ

عاديّ أن يقلق البعض على هامش زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخيرة للعراق، أمام مشهد توقيع مذكّرة تفاهم رباعية للتنسيق والتعاون ذات طابع استراتيجي…

الجماعة الإسلامية إلى أين؟

عندما أنشئت الجماعة الإسلامية في ستينات القرن الماضي (وتمّ وقتها الترخيص للحزب الشيوعي وكان وزير الداخلية كمال جنبلاط)، كانت تهدف إلى المحبة والتسامح والعيش المشترك…