زلزال تركيا.. طبيعي أو مؤامرة وفساد؟

2023-02-22

زلزال تركيا.. طبيعي أو مؤامرة وفساد؟

مدة القراءة 6 د.

لو وقف المرء في أرض غير مبنيّة (صحراوية أو زراعية) فلن يكون الزلزال قاتلاً لو ضربها. ويقال إنّ الزلازل لا تقتل البشر، بل إنّ الأبنية التي بناها البشر، هي التي تقتلهم. ومنذ قدم الزمان هناك علاقة عدائية بين المعماريّين والزلازل. وغالباً ما يحاول المهندسون التغلّب على الكوارث الطبيعية التي تسبقهم بخطوة، فيتعلّمون منها لتطوير مشاريع البناء.

 

المؤامرة وخرافاتها

المأساة كبيرة اليوم والحزن أكبر في تركيا وسوريا. لكن أن يصل البعض (وما أكثرهم) إلى ربط ما حصل بنظريّة المؤامرة، لا بدّ من أن يستوقف برهة لدحض كلّ هذه الترويجات اللامنطقية.

بعد ساعات قليلة من الزلزال الهائل الذي دمّر عدّة مدن في جنوب تركيا وشرقها وشمال سوريا، وخلّف 40 ألف قتيل (لحظة كتابة هذه المقالة)، خرجت نظريّات متشعّبة بين فلسفية وإيديولوجية وجيولوجية، تعطي تفسيراتها لِما حصل وتربط الواقع بأسباب غيبية أو علمية خاطئة. غير أنّ الأدهى كان ما تناقلته وسائل التواصل عن المؤامرة الحاضرة دائماً في عقول أبناء الشرق. فسخّر بعض الكتّاب أقلامهم بكلّ أريحيّة لربط الزلزال بـ”مؤامرة أميركية” للنيل من تركيا والشعب السوري، وصولاً حتى إدخال روسيا بالموضوع، وبأنّ هدف واشنطن ضرب إمكانيات موسكو وتلطيخها بالعيوب، ردّاً على حربها في أوكرانيا.

المأساة كبيرة اليوم والحزن أكبر في تركيا وسوريا. لكن أن يصل البعض (وما أكثرهم) إلى ربط ما حصل بنظريّة المؤامرة، لا بدّ من أن يستوقف برهة لدحض كلّ هذه الترويجات اللامنطقية

وصلت مخيّلة البعض الهوليووديّة إلى ردّ سبب الزلزال المدمّر إلى مشروع “هارب”: الشفق النشط العالي التردّد في ولاية آلاسكا (لصناعة كوارث مناخية وطبيعية وجيولوجية).

تشعّبت المخيّلة السينمائية لاعتبار أنّ “الأخطر والأهمّ هو ما لم تتناقله وسائل الإعلام العالمية” حول قيام قيادة القوات الأميركية في أوروبا (EUCOM) بمناورات عسكرية قبل أيام مع قبرص واليونان للتدريب على عمليات إجلاء بعد زلزال خطير يضرب تركيا ويقترب من ثمانية درجات على مقياس ريختر. وبرزت تساؤلات عن توقّع المخابرات الأميركية الزلزال قبل حدوثه: “وها هم الآن يتحرّكون بحرّية على الأرض التركية والسورية بأعمال مخابراتية لوجستية”، قال المنظّرون. وظهر غيرها الكثير من النظريات التي تربط المسألة بصراع تركي – قبرصي، وصولاً إلى القول إنّ موسكو دخلت على الخطّ عبر وكالة AVIA – PRO الروسية القريبة من جهاز المخابرات الروسي. وروّج البعض أنّ زلزال تركيا ناتج عن قنبلة نووية صغيرة في القاعدة الأميركية النووية (إنترلخت) في تركيا.

 

العارض التركيّ

في الإثر دخلت الصحافة التركية الشعبية على خط “المؤامرة” فعنونت صحيفة “حرّييت” (غير الرصينة) التركية إصدارها بسؤال خطير: “هل زلزال تركيا ارتدادي أم هو الزلزال الأوّل؟ وهل كان نتيجة استخدام سلاح من سفينة أميركية؟”.

واعتبرت الصحيفة أنّ السفينة الأميركية التي يبلغ طولها 150 متراً وعبرت مضيق البوسفور قبل الزلزال، هي المسبّبة له. والحاصل هو تعبير عن رفض دولي لتطوّرات المشروع النووي التركي – الروسي (مفاعل أكويو) وإنذار لأيّ مشروع إقليمي آخر، بغية السيطرة بالتهديد على غاز شرق المتوسّط.

ذهب هذا العقل “المختلّ” لأصحاب تلك النظريّات باتجاه “المؤامرة”، على الرغم من أنّ للزلازل تاريخاً طويلاً في هذه المنطقة. فمدينة بيروت مثلاً دُمّرت 6 مرّات بسبب الزلازل ولم تكن التجارب النووية قد رأت النور بعد. وسهل عكار وسهل البقاع وغور الأردن تكوّنت عبر التاريخ لوقوعها على الصفيحة الشرقية للفالق الزلزالي المعروف باسم فالق اليمّونة. كما أنّه بتاريخ 16 آذار من عام 1956 ضرب منطقة الشوف في جبل لبنان، وتحديداً بلدة شحيم، زلزال مدمّر (صدع البحر الميّت) نجم عنه قتلى وتشريد السكّان وتهديم منازل، وما زال الشعب اللبناني لتاريخه يسدّد ضريبة سنوية لإعادة الإعمار ولم تُلغَ حتى اليوم. 

وتعاني اليابان كما ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة من تعدّد الهزّات الأرضية ومن شدّة الزلازل، غير أنّ الخسائر البشرية والمادّية في العمارات والأبنية هي أقلّ بكثير ممّا وقع في تركيا وشمال سوريا، لأنّ الرقابة على الأعمال الهندسية والبناء متشدّدة، ومعايير تلافي الكوارث أكثر حداثة. ففي هاتين المنطقتين تُبنى ناطحات السحاب والأبنية الشاهقة بمعايير سلامة محترمة إلى أقصى حدّ، فيستعمل الكاوتشوك والمطّاط فوق الأساسات وبين الطوابق، لكي تمتصّ الارتجاجات القويّة، فتسلم المباني، وإن لم تسلم يسعى المهندسون إلى أن يسلم قاطنوها.

تكشّفت مشاهد ما بعد الزلزال عن مجمّعات منهارة، وعمارات صامدة في محاذاتها. أمّا من يتبنّى نظرية المؤامرة، فيتغاضى عن المسؤولية السياسية للسلطتين الحاكمتين في كلّ من سوريا وتركيا

التغاضي عن الفساد

أمّا من ذهب مذهب المؤامرة فلأسباب سياسيّة. لكنّه لم ينتقد الفساد والقيادات الفاسدة التي سهّلته ومرّرت رخص بناء لا تستوفي الشروط المطلوبة. فبعد نشوب الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 كثرت الهجرة السورية إلى جنوب تركيا، ومن نتائجها:

– تزايد الطلب على السكن.

– جشع المقاولين الذين راحوا يبنون بسرعة من دون احترام معايير السلامة المطلوبة.

لذلك تكشّفت مشاهد ما بعد الزلزال عن مجمّعات منهارة، وعمارات صامدة في محاذاتها. أمّا من يتبنّى نظرية المؤامرة، حتى في أفعال الطبيعة، فيتغاضى عن المسؤولية السياسية للسلطتين الحاكمتين في كلّ من سوريا وتركيا. ولا يرغب في المساءلة والمحاسبة، تاركاً لانتخابات أيار المقبلة أن تفعل فعلها كما حدث مع الرئيس بولنت أجاويد إثر زلزال عام 1999، حينما فقد موقعه نتيجة سوء إدارة عمليّات الإنقاذ.

ذكرت الكتب السماوية الزلازل وأعمال الطبيعة من فيضانات وانزياحات طين وتشقّقات، غير أنّ “التسييس” يصرّ على نسبتها إلى المؤامرات. وكما كتب ثيربانتس في رواية “دون كيشوت”، فإنّ “للخوف عيوناً كثيرة، وبوسعه أن يرى الأشياء الخفيّة” التي يتخيّلها الإنسان. ومن هذه التخيّلات بالطبع الرواية القديمة التي تحكي أنّ الزلازل تقع بعد أن تطير البعّوضة وتتسلّط على أنف الثور الذي يحمل على قرونه الأرض فيغضب ويسبّب الزلازل.

إقرأ أيضاً: زلزال أنطاكية وحلب: مدن معطوبة.. وسقوط عميم

تحرير العقل الإنسانيّ

الإنسانية في صراع مستمرّ لتحرير عقل الإنسان من الخرافات والشعوذة والمعتقدات الخاطئة، ولتوفير الأمان اللازم له بعد أن يتمّ تعميق إدراكه للعالم الحقيقي. غير أنّ هذا المخلوق يقف ضعيفاً أمام أفعال الطبيعة وكوارثها، وعند خوفه تنتهي كلّ النظريّات مهما كانت عبقريّة، فلا مزاح مع الطبيعة وشرّها.

لو توقّفنا لبرهة وحيّدنا نظريات المؤامرة وبحثنا أقلّه في أسباب الكوارث وكيفيّة مواجهتها. فنظريّة المؤامرة على الدول التي يروّج لها الحكّام ما هي إلا شمّاعة لتغطية تقصيرهم وفسادهم في غالب الأحيان ومعظمها.

 

*كاتب لبناني مقيم في دبي

لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@

إقرأ أيضاً

التصعيد ضدّ أذرع إيران… تقابله مرونة لإنقاذ رفح؟

تسابق الضغوط من أجل إحياء مفاوضات الهدنة في غزة قرار الحكومة الإسرائيلية اقتحام رفح. يترافق ذلك مع رصد جدّية الليونة التي أبدتها قيادة “حماس” الداخل…

تفشّي وباء الصراعات.. هل يشعل حرباً عالميّة؟

العالم ليس بخير. مشهد العلاقات الدولية في ظلّ الحروب الصغيرة المتنقّلة هنا وهناك والصراع على النفوذ والتناحرات الإقليمية أشدّ تعقيداً ممّا كانت عليه الصورة عشيّة…

قادة غزّة: أزمة مكان أم خيارات؟

كثر الحديث “غير الموثّق بأدلّة رسمية” عن أنّ قطر بصدد الاعتذار عن عدم مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث كانت ولا تزال حتى الآن المكان الأكثر…

العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا…