ليس العراق سوى مركب سكران

2022-06-25

ليس العراق سوى مركب سكران

مدة القراءة 4 د.

توقّع محتجّو تشرين 2019 أنّ العراق بعد كلّ ما شهده من أحداث مأساويّة عبر سنوات الاحتلال وبعده سيكون قريباً من قيامته. والعراقيون غالباً ما يفكّرون في ظهور المهدي المنتظر بطريقة مجازية. ولأنّه لم يرَه أحد فإنّ مصيرهم سيكون دائماً في طيّ الكتمان.

كان الأميركيون على قدر عالٍ من الخبث حين صمتوا عن قانون اجتثاث حزب البعث، فمن خلاله أنهوا آخر مظاهر الحياة الحزبية الوطنية وأحلّوا بدلاً منها حياة حزبية غير متشبّثة بالأرض بسبب أنّ مكوّناتها لم تعُد تملك جذوراً راسخة في الوطن.

فالحزب الشيوعي العراقي، وهو الأكثر تاريخيّة، كان أعضاؤه قد تشتّتوا بين جهات الأرض وعاشوا في ماضٍ حزبي صاروا يستحضرونه عبر أغانيهم كما لو أنّه زمن أبديّ لا يتغيّر من غير أن يلتفتوا إلى ما يُحدثه الزمن من تحوّلات عميقة في المعاني.

لم يكن أفراد الطبقة السياسية التي سلّمها الأميركيون السلطة ومقاليد الحكم عملاء للدول التي منحتهم جنسيّاتها ولا للمخابرات البريطانية والأميركية التي أشرفت على تجنيدهم وتثقيفهم بما يتناسب مع مشروع الاحتلال الطويل الأمد، بل كانوا على استعداد أصلاً للقيام بالدور المطلوب منهم من غير أن يرتبطوا بتلك الأجهزة.

تكن إيران في حاجة إلى استئجار عملاء لها في العراق. لقد جلبت الولايات المتحدة عملاء عقائديين يوالون إيران ضدّ العراق من مختلف أنحاء الأرض

صارت الخيانة طبعاً بحكم سوء النيّة الذي تطوّر إلى رغبة في الانتقام، ليس من نظام البعث وحسب، بل ومن الشعب الذي ذاق مرارة البقاء في ظلّ حكم البعث وقاوم من خلال بقائه حيّاً في ظروف نادرة بمأساويّتها في التاريخ البشري.

في ذلك السياق لم تكن إيران في حاجة إلى استئجار عملاء لها في العراق. لقد جلبت الولايات المتحدة عملاء عقائديين يوالون إيران ضدّ العراق من مختلف أنحاء الأرض، ومن ضمنها إيران، لتضعهم على رأس السلطة وتفتح لهم خزائن الأموال العراقية وتجعلهم يحكمون من غير رقابة أو مساءلة أو خوف من عقاب.  

كانت الديمقراطية الأميركية فكرة مضلِّلة في عراق تحكمه تنظيمات دينية التحق الشيوعيون بأحدها بعدما تمّ حرق مقرّاتهم بمَن فيها في محاولة لدفعهم إلى الانتحار السياسي الذي سيُنهي سيرتهم التاريخية باعتبارهم قوّة يسارية تقدّمية ظلّت متمسّكة بشعارات الشيوعية التي تخلّت عنها الأحزاب الشيوعية في مختلف أنحاء العالم. اقتنع الشيوعيون منذ البدء بضرورة ألّا يتأخّروا عن الحافلة التي أقلّت المتعاونين مع الاحتلال، فكان زعيم حزبهم عضواً مناوباً في مجلس الحكم، وهو السلطة الأولى التي أسّسها بول بريمير الحاكم المدني الممثّل لسلطة الاحتلال لتكون نموذجاً لدولة الطوائف التي ستحلّ محلّ ما سُمّي بدولة البعث، والمقصود بها دولة العراق التاريخي.

يومئذ انتهى العراق بدولته القوية ومجتمعه الموحّد والمتماسك.

ما بعد ذلك فإنّ الانهيار العظيم لا يمكن البناء عليه. فالحديث عن البدء بتأسيس جمهورية جديدة كان نوعاً من اللغو الفارغ الذي تداوله المثقّفون الذين تبنّوا ثقافة الاحتلال أو تسمّموا بمفرداتها من غير أن يجري على ألسن أفراد الطبقة السياسية الذين هم في حقيقة أمرهم محتالون ومهرِّبون ومزوِّرون وأمّيون وقطّاع طرق وخدم حسينيّات ومرشدو حملات دينية وحسب. كان مشروعهم الوحيد في العراق بعد تحريره حسب زلماي خليل زاده أن يتمّ السماح للعراقيين باللطم والنحيب والسير في المسيرات الجنائزية.

إقرأ أيضاً: الصدر ينسحب.. ويحضّر “لانتفاضة شعبية”

أمّا حين دخل المرجع السيستاني على الخط السياسي فإنّه دعا أتباعه إلى التوقيع على الدستور الجديد الذي محا عروبة العراق حين اعتبر العرب جزءاً من مكوّنات العراق. ولم يُفْتِ المرجع الشيعي الأعلى بمقاومة الاحتلال، بل على العكس من ذلك أفتى بحرمة الامتناع عن المشاركة في الانتخابات التي أُجريت في ظلّ الاحتلال. أمّا فتواه في ما يتعلّق بتفجير ضريحَيْ سامرّاء فكانت سبباً في نشوب حرب أهليّة استمرّت عامين قُضي فيها على الكثير من الأبرياء.

ليس العراق في ظلّ تلك المعطيات سوى مركب سكران.  

إقرأ أيضاً

عراضة “الجماعة” في عكّار.. ومرحلة ما بعد حرب غزّة

بعد العراضة المسلّحة لـ”الجماعة الإسلاميّة” في منطقة عكار الشمالية، بدأت تظهر ملامح مرحلة ما بعد حرب غزّة في لبنان. تبدو الحاجة أكثر من أيّ وقت…

لا عزاء للمساكين

“لم أغسل دمي من خبز أعدائي  ولكن كُلّما مرّت خُطَايَ على طريقٍ فرّتِ الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ   كلّما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبةِ فالتجأتُ إلى رصيف الحلم…

“أخوة يوسف”* أمام معضلة خط الحرير العراقيّ

عاديّ أن يقلق البعض على هامش زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخيرة للعراق، أمام مشهد توقيع مذكّرة تفاهم رباعية للتنسيق والتعاون ذات طابع استراتيجي…

الجماعة الإسلامية إلى أين؟

عندما أنشئت الجماعة الإسلامية في ستينات القرن الماضي (وتمّ وقتها الترخيص للحزب الشيوعي وكان وزير الداخلية كمال جنبلاط)، كانت تهدف إلى المحبة والتسامح والعيش المشترك…