جريمة تفجير مرفأ بيروت: الحقيقة الوحيدة المتاحة

2023-01-27

جريمة تفجير مرفأ بيروت: الحقيقة الوحيدة المتاحة

مدة القراءة 4 د.

قرار التدمير الذاتي أو الانتحار الجماعي قد اتُّخذ في لبنان، وإلّا فكيف يمكن فهم ما جرى في مؤسّسات السلطة القضائية بالأمس؟!!

يتوقّف أمام ما يجري في لبنان كلّ شغفٍ بحثيٍّ لمقاربة أيّ حدث أو متغيّر على الساحتين الدولية أو الإقليمية مهما بلغت أهميّته أو حراجته. يتفوّق الحدث اللبناني على كلّ ما عداه، سواء في أوكرانيا أو في الخليج العربي أو في بحر الصين، ويتحوّل الميْل إلى مواكبة الحدث الدولي إلى رهابٍ عند التفكير بما قد تحمل الأيام القليلة المقبلة من مستجدّات وويلات على لبنان. يشهد مسار الأحداث في دول العالم نماذج عديدة من سياسات خاطئة وقرارات اقتصادية قاصرة عن مواجهة تحدّيات أو خيارات لا تراعي المصالح الوطنية، وقد يؤدّي ذلك إلى أزمات معقّدة وطويلة، لكنّه لا يجد طريقه نحو التدمير الذاتي المتعمَّد لهياكل السلطة والدستور والقوانين.

لا حاجة إلى الدخول في النصوص وتفسيراتها واجتهادات من يريد الإجتهاد، ولا حاجة إلى البحث في صلاحيات المحقّق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار وعودته الذاتية إلى متابعة تحقيقاته، أو في كيفيّة استدعائه مدّعي عامّ التمييز القاضي غسان عويدات، أو التفتيش عن صلاحيات عويدات في نطاق عمل المحقّق العدلي. لا حاجة إلى كلّ ذلك للقول إنّ السلطة القضائية التي دأبت على تقديم نفسها للّبنانيين باعتبارها ملاذهم الأخير، والتي رفعت الصوت مراراً مطالبةً بإقرار قانون يكرّس استقلاليّتها، قد افتقدت بالأمس مناعتها المُدّعاة بعدما نشرت “غسيلها” فوق سطوح المنازل اللبنانية، وأصبحت جزءاً لا يتجزّأ من الدَرَك الذي سبقتها إليه سائر المؤسّسات اللبنانية.

تُضاف جريمة المرفأ إلى جرائم أخرى قضى فيها العديد من اللبنانيين استشهاداً أو ظلماً وبقيت ملفّاتها فارغة من الأوراق والتحقيقات

عدوى عجز مجلس النوّاب

كان منتظراً تسرُّب العجز الذي تعانيه أمُّ المؤسّسات، المؤسّسة التشريعية، إلى سائر المؤسّسات. هذا العجز لم يبدأ مع دخول مخاض الانتخابات الرئاسية والفشل في انتخاب رئيس جديد للبلاد، بل تسلّل قبل ذلك بسنوات مع انعدام الحوَكمة الرشيدة في كلّ الممارسات التشريعية والرقابية الملقاة على عاتقها، ومع تحوُّل المؤسّسة التشريعية إلى سلطة ضامنة لكلّ أنواع الزبائنية السياسية في التعيينات وتشكيل الحكومات وفي إقرار موازنات الهدر والفساد والسطو على المال العامّ، وتتويج كلّ ذلك بالاتّفاق على تعيين رئيس للجمهورية يقود من موقع الشراكة مسيرة الفساد والاعتداء على الدستور. هذا العجز، الذي كانت له تداعياته المدمّرة على كلّ الأداء الرسمي وعلى افتقار المرفق العامّ إلى ثقة المواطنين به، بلغ بالأمس ميدان السلطة القضائية بعدما تراشق قضاتها الادّعاءات المتبادلة وتصدّعت مؤسّساتها، وقد تكون أبسط نتائجه، في أكثر الحالات تفاؤلاً، طيّ صفحة التحقيق في تفجير مرفأ بيروت لأجل غير مسمّى.

هل يمكن القبول بأنّ ما جرى في القضاء حصل بقدرة قادر، وأنّ تلك الاستدعاءات المتبادلة والمزايدة في إخلاءات سبيل الموقوفين ليست إلّا من قبيل المبارزة القضائية بين المحقّق العدلي ومدّعي عامّ التمييز؟ أم ما جرى هو مقدّمة لمسار تمّ وضعه بكلّ عناية لإخراج بعض القوى السياسية من مأزق أضحى يؤرقها في حال استمرار التحقيق؟ وهل ذلك هو مقدّمة لتسوية رئاسية تبدأ بإقناع بعض القوى السياسية بتقديم تنازلات لقاء إقفال ملفّ التحقيق أو الاقتصار على ما يمكن تسميته بـ”الحقيقة الممكنة” أو “الحقيقة المتاحة”؟

 

التفجير “من الخارج”

استندت التحليلات التي تبعت جريمة تفجير مرفأ بيروت إلى تسريبات مستقاة من مصادر محلية ودولية أجمعت على الإشارة الى حقيقتين:

الأولى، هي غموض ظروف وصول النيترات إلى مرفأ بيروت والجهة المستفيدة من ذلك، بصرف النظر عن الرواية المستهلَكة لوصول السفينة عَرَضاً إلى المرفأ وتوقّفها وإغراقها بقرار قضائي فيما بعد.

إقرأ أيضاً: تسونامي يضرب القضاء: طارق البيطار في الإقامة الجبريّة

الثانية، وهي سبب التفجير الذي لا يمكن أن تبرّره كلّ الروايات المحلية البدائية التي تفتقر إلى الدليل العلمي والتي تميل إلى أنّه ناجم عن تفجير من الخارج. هذا ما يجعل الشبهات والاتّهامات تتجاوز مسؤوليّات الموقوفين أو المتخلّفين عن الاستدعاء لسماع شهاداتهم بما يفرض العزوف عن اتّهام الجهات الإقليمية الحقيقية المسؤولة عن التفجير، وهذا ما يضع المناورة القضائية، التي حصلت، في خانة الإخراج القسري لتحقيق يعجز الوطن الصغير عن تحمّل تداعياته؟

قد تُضاف جريمة المرفأ إلى جرائم أخرى قضى فيها العديد من اللبنانيين استشهاداً أو ظلماً وبقيت ملفّاتها فارغة من الأوراق والتحقيقات. فهل تكون الحقيقة المتاحة في جريمة المرفأ مقدّمة لانتخاب رئيس متاح تنتجه تسوية فوق جثامين ضحايا مرفأ بيروت؟

 

*مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات

إقرأ أيضاً

التصعيد ضدّ أذرع إيران… تقابله مرونة لإنقاذ رفح؟

تسابق الضغوط من أجل إحياء مفاوضات الهدنة في غزة قرار الحكومة الإسرائيلية اقتحام رفح. يترافق ذلك مع رصد جدّية الليونة التي أبدتها قيادة “حماس” الداخل…

تفشّي وباء الصراعات.. هل يشعل حرباً عالميّة؟

العالم ليس بخير. مشهد العلاقات الدولية في ظلّ الحروب الصغيرة المتنقّلة هنا وهناك والصراع على النفوذ والتناحرات الإقليمية أشدّ تعقيداً ممّا كانت عليه الصورة عشيّة…

قادة غزّة: أزمة مكان أم خيارات؟

كثر الحديث “غير الموثّق بأدلّة رسمية” عن أنّ قطر بصدد الاعتذار عن عدم مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث كانت ولا تزال حتى الآن المكان الأكثر…

العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا…