في الحرب والسلم: لبنان ضحيّة..

2023-12-15

في الحرب والسلم: لبنان ضحيّة..

مدة القراءة 6 د.


عاش لبنان أهوال حرب تموز عام 2006، وما زال اللبناني يتذكّر قصف محطات الكهرباء، وتدمير الجسور من شمال لبنان إلى جنوبه، ومن بيروت حتى الحدود الشرقية، وكيف دمّرت إسرائيل أحياء بكاملها، وهدَّمَت البنية التحتية، ولم تميّز بين مدني وغيره أو بين طفل وراشد. نالت من المدارس والمساجد والكنائس والمخيّمات. وها هي اليوم بعد سبعة عشر عاماً تعيد الكرّة إنّما بواسطة تكنولوجيا أكثر تطوّراً وبسلاح أكثر فتكاً.
يستعيد اللبناني الصورة البشعة ذاتها وهو يشاهد أهوال حرب غزة. يفكّر عميقاً في مصير لبنان وفي ما سيصيب مطاره الوحيد. يتفحّص جيّداً ما ينصح به أبناءه المنتشرين في العالم والراغبين بقضاء الأعياد في ربوع الوطن من دون أن يقعوا في فخّ الحصار.
ما يزيد من أرق اللبناني وقلقه هو ما يجري من عمليات عسكرية في جنوب لبنان وردود الفعل عليها، ومحاولة توريط لبنان في حرب لا دخل له فيها. فلا معتقل أو رهينة في السجون الإسرائيلية. إنّما جلّ ما في الأمر هو إثبات التضامن بين قوى الممانعة الدائرة بفلك طهران ومشاريعها الخاصّة وأجنداتها الذاتية.

“الإشغال” بات إشعالاً
إنّ شعار “إشغال” الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان لإبعاد جزء من قواته عن قطاع غزة وعن الضفة الغربية ثبُت عقمه. فها هي القوات الإسرائيلية تقاتل على جبهات متعدّدة، منها مجموعة من الجبهات في القطاع، وعمليات يومية على مدار الساعة في قرى ومدن وبلدات الضفة، إضافة إلى الجولان ودمشق ومطارها ومطار حلب ومحافظات سوريا عامة، كما جنوب لبنان.
تحوّل شعار إشغال القوة الإسرائيلية في جنوب لبنان إلى إشعال لهذه الجبهة. تطوّر شعار “جنوب لبنان ليس إلا جبهة مساندة” ليصبح “جبهة فعليّة أساسية” يسقط فيها قتلى أغلبهم من المدنيين الأبرياء ومن العاملين في الإعلام والصحافة.

أسندت تل أبيب تهديداتها بتدمير بيروت والضاحية الجنوبية ولبنان إلى ضغط المستوطنين وتمنّعهم عن العودة إلى المستوطنات الشمالية لمزاولة حياتهم اليومية وإعادة عجلة الحياة

إزاء الأخطار الداهمة التي تلوح بأفق لبنان، تحرّكت دول خارجية تخشى أن تتوسّع الحرب فتشمله وتدمّره وتزيد من مآسيه ومصائبه وأزماته المتناسلة. نقلت كلّ من الإدارة الأميركية ودوائر فرنسا تهديدات إسرائيلية جدّية إذا استمرّت العمليات من جنوب لبنان، سواء أكانت بالقصف البعيد أو بالتعدّي على السياج الحدودي والتسلّل منه. تعلم تل أبيب ونقلت هذه المعطيات إلى واشنطن وباريس أن “لا فصيل لبنانياً (قوات الفجر) أو فلسطينياً مسلّحاً (حماس والجهاد) يقوى على التحرّش بالحدود والمستوطنات والمستوطنين من دون رغبة الحزب ونيل الضوء الأخضر منه”، وأنّ “إسرائيل ستتعامل مع كلّ تهديد على أنّ الحزب وراءه”.

التهديد بتدمير بيروت
أسندت تل أبيب تهديداتها بتدمير بيروت والضاحية الجنوبية ولبنان إلى ضغط المستوطنين وتمنّعهم عن العودة إلى المستوطنات الشمالية لمزاولة حياتهم اليومية وإعادة عجلة الحياة الزراعية والصناعية والتجارية والسياحية إلى هذه المناطق ذات التأثير على الاقتصاد الإسرائيلي غير المتعافي في هذه الفترة.
اشتراط أهالي المستوطنات للعودة فسّره خوفهم من عمليات تسلّل يقوم بها الحزب شبيهة بطوفان الأقصى، لا سيما أنّ استعراضات ومناورات عرمتى في منطقة جزين كانت تحاكي عمليات تسلّل إلى مدن وبلدات الجليل كان ينوي الحزب تنفيذها. هذا ما قاد كلّ من الولايات المتحدة وفرنسا إلى الإسراع والتحرّك لمنع توسّع الحرب لفرض التراجع عن الحدود وإرساء تفاهمات لدرء مخاطر توسّع الحرب إلى لبنان. فنقل موفدو البلدين صيغاً لتطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1701 الصادر بنهاية حرب تموز 2006.
من فحوى هذه الصيغ التي كشفت عنها قناة “الحدث” والتي قد تصل إلى اتفاق بالمستقبل القريب، إبقاء عناصر الحزب بمن فيهم فرقة الرضوان في منطقة جنوبي الليطاني بحجّة أنّهم أبناء هذه القرى وسكّانها. إلا أنّه على الحزب سحب كلّ الأسلحة الثقيلة (صواريخ ومدفعية) إلى شمالي النهر وعدم استعمالها. بالموازاة، يسيّر الجيش اللبناني والقوة الفرنسية المنضوية ضمن اليونيفيل دوريات دائمة على طول الحدود لمنع أيّ تسلّل ولضمان عدم حصول خروقات من جهات فلسطينية أو غيرها.

تحوّل شعار إشغال القوة الإسرائيلية في جنوب لبنان إلى إشعال لهذه الجبهة

أمّا في الجهة المقابلة فيسيّر الجيش الأميركي (الموجود داخل إسرائيل) مع الجيش الإسرائيلي دوريات لمراقبة التنفيذ وضمان عدم الإخلال بالاتفاق “إن حصل”.
من المؤكّد أنّ للفريقين معاً مصلحة بالصيغة المتداولة. فإسرائيل تؤمّن عودة المستوطنين إلى المستوطنات الشمالية وترسي نوعاً من الهدوء والاستقرار يشبه ذاك الذي استمرّ منذ عام 2006 حتى عملية طوفان الأقصى.
بالمقابل هناك مصلحة للحزب بالاتفاق تطميناً لأبناء الجنوب ولبيئته وعدم هجرتهم ونزوحهم كما بعدم تدمير مناطقهم والضاحية وبيروت ولبنان، ولا سيّما أنّ المساعدات العربية لإعادة البناء والإعمار لن تكون متوافرة من جرّاء مواقف الحزب المعادية لكلّ ما هو عربي الهويّة والاتّجاه.
كما يتشجّع الحزب على الانخراط بالاتفاق لنيله ثمناً سياسياً مليئاً بالإغراءات الموعودة، ونيله المنافع السياسية التي لا تمانع كلّ من واشنطن وباريس منحه إيّاها، والتعامل معه مباشرة بدلاً من المرور بالحكومة الشرعية المستقيلة الضعيفة، واعتباره المقرّر في الحياة السياسية اللبنانية، وجزءاً من قوى الشرق الأوسط المؤثّرة. وقد تمنحه هذه الأثمان السياسية إيصال مرشّحه إلى رئاسة الجمهورية، كما تعزيز مكانته في الأسلاك الأمنيّة والعسكرية وفي الإدارة والقضاء، وهو ما يمكّنه أكثر من السيطرة على مؤسّسات وسلطات الدولة العميقة.
تشجّع طهران اتفاقاً كهذا لافتقارها إلى أيّ بديل آخر، لأنّها لا ترغب بنشوب أيّ حرب تقع على أراضيها، أو بحرب قد تطيح بقوة الحزب.

إقرأ أيضاً: 2023 استكمال لتفكيك لبنان نهائيّاً!

بدورها تضغط إسرائيل عسكرياً للوصول إلى اتفاق دبلوماسي كهذا لأنّ البديل لديها لتطمين سكّان المستوطنات هو شنّ حرب شبيهة بتلك الدائرة في قطاع غزة.
تأتي حركة الموفدين الفرنسيين والأميركيين سعياً إلى بلوغ صيغة الاتفاق المنشود نهايتها. بينما لبنان في سباق بين بلورة الاتفاق دبلوماسياً أو شنّ حرب ضروس على أراضيه تدمّر البشر والحجر. في الحالتين يبقى لبنان ضحيّة: فعدم الاتفاق يوقعه تحت سندان “حرب” إسرائيل، والسير بالاتفاق يوقعه تحت مطرقة الحزب، وليس بينهما ما هو أرحم.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@

إقرأ أيضاً

التصعيد ضدّ أذرع إيران… تقابله مرونة لإنقاذ رفح؟

تسابق الضغوط من أجل إحياء مفاوضات الهدنة في غزة قرار الحكومة الإسرائيلية اقتحام رفح. يترافق ذلك مع رصد جدّية الليونة التي أبدتها قيادة “حماس” الداخل…

تفشّي وباء الصراعات.. هل يشعل حرباً عالميّة؟

العالم ليس بخير. مشهد العلاقات الدولية في ظلّ الحروب الصغيرة المتنقّلة هنا وهناك والصراع على النفوذ والتناحرات الإقليمية أشدّ تعقيداً ممّا كانت عليه الصورة عشيّة…

قادة غزّة: أزمة مكان أم خيارات؟

كثر الحديث “غير الموثّق بأدلّة رسمية” عن أنّ قطر بصدد الاعتذار عن عدم مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث كانت ولا تزال حتى الآن المكان الأكثر…

العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا…