صيدا أسيرة المخيّم.. والأهالي: “إرحموا لقمة عيشنا”

2023-09-18

صيدا أسيرة المخيّم.. والأهالي: “إرحموا لقمة عيشنا”


يجلس الحاجّ أبو أحمد (68 عاماً) عند باب محلّه (محلّ لبيع الأحذية والحقائب في سوق صيدا) واضعاً يده على رأسه، مثقلاً بالهموم وكأنّ الكون أوشك على الانتهاء، أو ربّما انتهى للتوّ. أمّا يده الثانية فهو فعليّاً يطبّق بها المثل الشعبي “عم يكشّ دبّان”. هذه هي حال السوق التجاري في صيدا، بعد جولات الاقتتال في مخيم عين الحلوة ومبادرات وقف النار المهترئة المفعول من وقت لآخر وآخرها قبل أيام.
لم تعد الحياة بعد إلى سوق صيدا على الرغم من سريان هدنة وقف إطلاق النار الأخيرة منذ يوم الخميس الماضي، لا ثقة لدى الأهالي بجدّية هذه المبادرة، ولأنّ كثيرين على ثقة بأنّ ما يحدث هو أكبر من مبادرات محلية مؤقّتة، ويحتاج إلى حلّ جذري يريح المدينة وأهلها من جولات النار والرماد التي فاقمت معاناتهم وتجاوزت حدّ التخوّف الأمني والقلق إلى قطع الأرزاق وتهديد لقمة العيش.
زار “أساس” المدينة ليقف عند مخاوف أهلها وهمومهم، وكانت الحركة ما تزال خجولة في المدينة حتى إنّها شبه معدومة في بعض الأوقات، ووحدهم المضطرّون إلى التنقّل يفعلون ذلك، لا سيما من لديه أوراق رسمية يجب عليه أن ينجزها قبل عودة شبح الاشتباكات من جديد. أسامة، طالب جامعي يعمل في أحد المقاهي في بيروت، يؤكّد أنّه لم يزُر المدينة منذ حوالي شهر ونصف، أي منذ اندلاع المواجهات المسلّحة نهاية تموز الماضي، وذلك ليس حرصاً على نفسه على حدّ تعبيره، بل لأنّ والدته تعيش هذا الهاجس، وتمنعه من زيارة المدينة قبل أن تهدأ الأجواء بشكل جذري.

يشدّد البزري في حديثه إلى “أساس” على أنّه عندما يقول أبناء صيدا، فهو يقصد اللبنانيين والفلسطينيين الذين يعيشون بشكلٍ متناغم في هذه المدينة المعروف عنها تاريخيّاً أنّها الحاضن الرئيسي للقضية الفلسطينية

البزري: غضب لبناني – فلسطيني
ليس الأهالي وحدهم من لديهم هذا الشعور السلبي، بل حتى الفعّاليات السياسية والتجارية لديها التخوّف نفسه. يقول نائب المدينة عبد الرحمن البزري: “يبدو أنّ الاشتباكات في عين الحلوة تتكرّر دائماً، ومن الواضح أنّ كلّ الحلول التي كان يتمّ اللجوء إليها لم تصل إلى النتيجة المرجوّة، فإطلاق النّار كان يتوقّف لعدّة أسابيع ثمّ ينتكس مجدّداً”. يؤثّر تكرار الاشتباكات سلباً على مدينة صيدا، سواء من ناحية تعرّض أبنائها لخطر الإصابات المباشرة أو بالشظايا أو القذائف التي تطال المدينة بشكلٍ عشوائي، أو تعرّضهم للخطر غير المباشر بسبب قطع أرزاقهم نتيجة توقّف العمل في المدينة وتعطيله. يضيف البزري: “بات المواطنون عاجزين عن الذهاب إلى أعمالهم، وهو ما يحول دون قدرتهم على كسب لقمة عيشهم، لا سيما في ظلّ الظروف الصّعبة… فمَن لا يعمل لا يأكل”.
يشدّد البزري في حديثه إلى “أساس” على أنّه عندما يقول أبناء صيدا، فهو يقصد اللبنانيين والفلسطينيين الذين يعيشون بشكلٍ متناغم في هذه المدينة المعروف عنها تاريخيّاً أنّها الحاضن الرئيسي للقضية الفلسطينية، “ولذلك أدّى تكرار هذه الأحداث إلى شعور الصيداويين بحالة غضب شديد وقناعة بوجوب وضع حدّ لها، لأنّ الاشتباكات لا تتوقّف، والرأي العامّ يُنادي بضرورة وقف هذه الحرب العبثيّة بأيّ ثمن، ومن الواضح أنّ الخيارات المُتاحة لتثبيت وقف إطلاق النار في عين الحلوة ومنع تكرار مثل هذه الأحداث مرتبطة بإيجاد حلّ يُعيد الثقة بين الأطراف الموجودة في المخيّم”، مشدّداً على “ضرورة وقف المعارك بشكل طويل الأمد، وأهميّة أن تكون الدولة بأجهزتها وقواها السياسيّة جزءاً من الحلّ لأنّ استمرارها يضرّ القضية الفلسطينية ويضرّ مدينة صيدا الحاضنة الأساسية للفلسطينيين، وهو ما يُنذر بتداعيات إنسانية واجتماعية خطرة”.
مصطفى كنعان، شيف فلسطيني يعمل في أحد مطاعم صيدا، مثله مثل باقي أهالي المدينة من اللبنانيين قطعت الاشتباكات رزقه ولقمة عائلته، ويحاول تدبير أمور عائلته المؤلّفة من 5 أفراد بـ 200 دولار يرسلها إليه شقيقه المغترب كلّ شهر أو شهرين، لكن يواجه “كسوراً لا تُعدّ ولا تحصى في الفواتير” المترتّبة عليه، على حدّ تعبيره، “فالاشتباكات تقتلنا جميعاً لبنانيين وفلسطينيين على حدّ سواء. لقد ولدنا في هذه المدينة وربّينا أولادنا على حبّها ولا نريد مغادرتها”.

رئيس جمعية تجار صيدا علي الشريف يصف صيدا بـ”مدينة الأشباح”، ويشير إلى حالة الشلل التي أصابت المدينة من جرّاء الاشتباكات المتجدّدة بين الحين والآخر

مدينة أشباح
رئيس جمعية تجار صيدا علي الشريف يصف صيدا بـ”مدينة الأشباح”، ويشير إلى حالة الشلل التي أصابت المدينة من جرّاء الاشتباكات المتجدّدة بين الحين والآخر، ويؤكّد أنّ الوضع على حاله منذ أواخر تموز وأوائل آب الماضيين، وحتى عندما تتوقّف الاشتباكات تبقى المدينة في حالة ترقّب حذر خوفاً من تجدّدها في أيّ لحظة، وهو ما يمدّد حالة الشلل في المدينة “حتى بات الأهالي يخافون السير في الشوارع وكأنّ المقصود شلّ المدينة وضربها”.
يرى الشّريف أنّ “الوضع معقّد والأمر خارجيّ أكثر ممّا هو محلّي”، مشدّداً على أنّ “مدينة صيدا تحت القانون، وهي مع الدولة ومؤسّساتها. فالخوف كبير والموضوع أكبر من الجميع، وعلى الدولة اللبنانيّة أن تعرف مَن يُمسك بزمام البلد والمنطقة وأن تُساعد المواطنين وتضع حدّاً لِما يحصل، فنحن تحت راية الدولة ولم نحمل السلاح يوماً ولن نحمل”، مؤكّداً أنّ “الألم كبير لأنّنا نعتبر أنّ الفلسطينيين إخوتنا ونعتبر مخيّم عين الحلوة جزءاً من المدينة، ولم يكن يوماً منفصلاً عنها”.
يؤكّد الشريف أنّ الحركة في السوق التجاري متوقّفة بشكلٍ نهائي بعد الضربات القاضية التي أصابت السوق بسبب انخفاض القدرة الشرائيّة للمواطنين في ظلّ الوضع السيّئ، الأمر الذي يهدّد لقمة عيش أكثر من 300 عائلة صيداوية تعتاش بشكل يومي من سوقها التجاري، متمنّياً على المُقاتلين “أن يتّقوا الله ويأخذوا في الاعتبار أنّ صيدا حاضنة لهم وأنّ مخيّم عين الحلوة جزءٌ من المدينة”.

مبادرة جدّيّة
في ما يتّصل بجدّية المبادرات التي تقوم بها الفعّاليات الصيداوية، يؤكّد القيادي في التنظيم الشعبي الناصري ناصيف عيسى أنّ ما يعيد الأوضاع إلى نقطة الصفر أحياناً هو عدم التزام الفصائل تسليم المتّهمين بقتل العرموشي، فيتجدّد التوتّر من فترة لأخرى ويُخرق وقف إطلاق النار. ويُشير عيسى في حديث إلى “أساس” إلى أنّ “التحالف قائم بين القوى الأساسيّة، ونتواصل معها بشكل دائم، وأعتقد أنّنا ذاهبون إلى طريقة جدّية للمعالجة تثبِّت وقف إطلاق النار بشكلٍ نهائي من دون أيّ تراجع، ثمّ نذهب إلى المعالجة الميدانيّة لاحقاً لضمان وقف إطلاق النار ولتعود الناس إلى المخيّم ويتمّ تعزيز القوة الأمنيّة المشتركة”.

إقرأ أيضاً: إسلاميّو عين الحلوة (2/2): “إسلاميّو” لبنان يتبرّأون منهم

ويوضح عيسى شارحاً الأجواء المحيطة بالاتصالات: “من ناحيتنا، قمنا بالعديد من الاتصالات مع كلّ القوى الموجودة على الساحتين الفلسطينيّة واللبنانيّة، وكان الجوّ إيجابيّاً من حيث الضّغط لأجل تحمّل المسؤوليّة لبنانيّاً وفلسطينيّاً أو من جهة تحمّل الدولة مسؤوليّتها بصفة رسميّة وحلّ هذا الموضوع لأنّ ما يحصل في مخيّم عين الحلوة ويطال مدينة صيدا كلّها، لم يعد يُطاق”. ويضيف متفائلاً: “ما يطمئننا اليوم أنّ المعالجة تأخذ طابعاً جدّياً وتتّجه نحو حلّ المواضيع لا تعقيدها”.
هل يصمد وقف إطلاق النار هذه المرّة، أم تطول معاناة الصيداويين في انتظار أمرٍ غير معلوم؟

مواضيع ذات صلة

الرّئاسة بين “ديل” برّي و”تهريبة” باسيل

يُقال إنّه في خضمّ المعارك لا يتمّ تبديل الضبّاط المشرفين على العمليات. فهل يمكن انتخاب رئيس، بين جولة قتالية وأخرى، على وقع الصواريخ والقذائف؟ على…

الرّئاسة من خرم الحرب: صفر نتيجة

لا تزال لغة الميدان تطغى على أيّ مسعى خارجي أو داخلي للجم كرة نار الحرب الكبرى، وأجّجتها أكثر تصفية الحسابات الإيرانية-الإسرائيلية التي باتت جزءاً أساسيّاً…

1701+… ولجنة رباعيّة لمراقبة التّطبيق

حتى الآن لا صوت يعلو فوق صوت المدفع، أو بالأحرى صوت طائرات F35 والصواريخ البالستية، وبقيّة الأسلحة التدميرية التي لا توفّرها إسرائيل في عدوانها الوحشي…

تباين بين برّي والحزب على “اليوم التّالي”؟

لم تَعُد الحرب البريّة مجرّد توقّع. وَقَع المحظور واكتملت عناصر “الانفجار الكبير” بإعلان العدوّ الإسرائيلي تنفيذه “عملية بريّة محدودة وموضعية ومحدّدة الهدف” ضمن مسار عسكري…