إيلاف الموارنة.. أبعد من الشتاء والصيف

2023-03-28

إيلاف الموارنة.. أبعد من الشتاء والصيف

مدة القراءة 6 د.

كانت الكنيسة المارونية صريحة في توصيف اعتراضها على إرجاء التوقيت الصيفي على حقيقته، بوصفه قراراً اتُّخذ “من دون التشاور مع سائر المكوّنات اللبنانية”. إذاً هي مسألة سياسية ذات بعد طائفي، وأيّ نقاش اقتصادي أو تقني، على أهمّيته، ليس إلا تغليفاً لجوهرها الذي أكسبها هذا الحيّز الكبير.

في الشكل، لا شكّ أنّ في لبنان مشكلة كبرى في آليّات اتخاذ القرار. والكنيسة المارونية محقّة في أنّ إرجاء التوقيت الصيفي كان قراراً “ارتجاليّاً”. ولو صحّ ما قاله رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من أنّه عقد اجتماعات مكثّفة على مدى أشهر للإعداد للقرار لكانت المشكلة أكبر. إذ كيف يُتّخذ قرار كهذا من دون استشارة الهيئات الاقتصادية والمؤسّسات التربوية والدينية؟

في كلّ الأحوال، كانت البلاد في غنى عن الخوض في هذه المعمعة، فرمضان يحلّ في أطول أيام الصيف كما في أقصر أيام الشتاء، ولا يُلام المسيحيون في ذلك.

مشهد الدردشة بين الرئيسين برّي وميقاتي، بما يمثّلان طائفياً في السلطة، يتخطّى في رمزيّته الموضوع “الصغير” الذي كان محلّ النقاش

القلق.. والرياح الإقليميّة

لكنّ القضية هذه المرّة تتجاوز الحساسية المعتادة لدى المسيحيين والمسلمين من أيّ قرار يرتبط بالصبغة الدينية للوطن اللبناني، كمثل ذلك الجدل التاريخي حول العطلة الأسبوعية بين الجمعة والأحد. فردّ الفعل الماروني الشامل كان ينضح بمنسوب إضافي من التوتّر والقلق في ظلّ رياح محلّية وإقليمية غير مؤاتية، حتى بدا كأنّ بيان البطريركية يتصدّى لتهديد وجودي.

مشكلة القرار ليست فقط أنّه أتى بالاتفاق بين رئيسين شيعي وسنّي وفي ظلّ فراغ الرئاسة المسيحية، (على نحو الاتفاق بينهما على عقد جلسات الحكومة)، بل إنّه يأتي في ظلّ تغيّر في المشهد الإقليمي يمكن أن يغيّر الأساسيات التي قامت عليها صناعة السياسة في لبنان منذ اغتيال الحريري عام 2005.

كانت ركيزة صناعة السياسة تقوم على الصراع السنّي الشيعي، الممتدّ من العراق المتفجّر بعد الغزو الأميركي إلى كلّ دولة تتحرّك فيها الميليشيات الإيرانية على الأرض. ولذلك كان أساس اللعبة التنافس بين السُّنّة والشيعة على تحالفٍ مرجِّح في الساحة المسيحية. أحدث محور الممانعة خرقاً تاريخياً بعقد الصفقة مع ميشال عون قبل وصوله إلى بيروت عام 2005، ثمّ في تفاهم مار مخايل في 2006. ولأنّ المسيحيين كانوا بيضة القبّان المرجِّحة، قبض ميشال عون ثمناً كبيراً في تكوين الحكومات والإدارة العامّة، وتُوّج بانتخابه رئيساً للجمهورية.

وصل الأمر بـ “حزب الله” ألّا يمانع (علناً على الأقلّ) ما اصطُلح على تسميته “القانون الأرثوذكسي” عام 2013، وما ذلك إلا لحاجته إلى الحليف المسيحي المرجِّح.

تغيّر المزاج السنّيّ

ثمّة رياح مختلفة الآن. لم يعد في الساحة السنّيّة حالة متأهّبة للمواجهة، بل بات العدد الأكبر من ممثّلي الطائفة موزّعاً بين التحالف مع “حزب الله” أو القرب من حركة أمل، بمن فيهم قدامى تيار المستقبل. وفي المشهد الإقليمي تغيّر مماثل. هدأ الصراع إلى حدّ بعيد، ونشأ واقع جديد من الاتفاق السعودي الإيراني والانفتاح العربي الجزئي على دمشق. والحال كذلك، تلاشى الاصطفاف الذي دمغ الحياة السياسية اللبنانية منذ عقدين.

ليس ثمّة توقيت عالمي، ولا “توقيت معترف به عالمياً”، وليس التوقيت الصيفي ما يفصل بين التقدّم والرجعية، كما يزعم جبران باسيل. لكنّ المشكلة عند المسيحيين في مكان آخر

يتّفق أن يتزامن ذلك مع عودة هواجس “العدد”، بعد التلميح الذي ورد في مقابلة ميقاتي مع الزميل سامي كليب إلى دراسة وردت إلى بكركي تقدّر أعداد المسيحيين بأقلّ من 20%.

مشهد الدردشة بين الرئيسين برّي وميقاتي، بما يمثّلان طائفياً في السلطة، يتخطّى في رمزيّته الموضوع “الصغير” الذي كان محلّ النقاش. ليس التوقيت الصيفي موضوعاً حسّاساً في الظروف الطبيعية لولا أنّه ارتبط بمناسبة إسلامية في هذا الظرف بالذات.

لا يوجد “توقيت عالميّ”

كان يمكن لموضوع التوقيت أن يكون تقنيّاً بحتاً مهما اختلفت الآراء فيه. يكفي أنّ موعد تطبيقه ليس موحّداً بين أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، بل إنّ العديد من الولايات والمقاطعات في أميركا وكندا لا يطبِّق التوقيت الصيفي أصلاً، ومنها أونتاريو في كندا وأريزونا في أميركا. وأوروبا نفسها تدرس منذ سنوات التخلّي عنه تماماً. وأمّا الصين، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فقد تخلّت عن التوقيت الصيفي منذ عام 1991 ولم تعُد إليه. وفي المحصّلة، هناك أكثر من 130 دولة لا تغيّر توقيتها بين الشتاء والصيف، من بينها اليابان والهند وروسيا والسعودية وعموم دول الخليج.

إذاً ليس ثمّة توقيت عالمي، ولا “توقيت معترف به عالمياً”، وليس التوقيت الصيفي ما يفصل بين التقدّم والرجعية، كما يزعم جبران باسيل. لكنّ المشكلة عند المسيحيين في مكان آخر. هل كان بالإمكان معالجة الموقف بمقاربة مختلفة؟

لا حاجة للحديث إلى النسخة اللبنانية من إيريك زمور بعدما أفصح عن أنّ جذر موقفه في موضوع التوقيت الصيفي يستند إلى تقسيم اللبنانيين بين “رجعيين” و”متخلّفين”، وبين مسلمين وتقدّميين من حزبه. ولا حاجة للحديث إلى القوات، فهم غارقون في وحل المزايدة مع زمور اللبناني.

البطريرك… كان يمكن

وحده كرسي صاحب الغبطة يبقى فوق الوحل وفوق اليمين واليسار. حريٌّ به أن يلجأ إليه وجدان المسيحيين من دون أن يعتريهم الشكّ في أنّ ما يسمعونه يمينية متطرّفة أو مزايدة أو تكسّب للأصوات.

إقرأ أيضاً: “عقارب” الساعة.. “لدغت” حظوظ فرنجيّة

وحريٌّ به حين يشغر كرسي الرئاسة وتتعطّل الدولة أن يخاطب الرعيّة كلّها، بمسلميها ومسيحيّيها، بصفته الأمين على الفكرة اللبنانية. كان يمكن للبطريرك أن يذكر رمضان مرّة واحدة في بيانه، ولو لم يوافق على تأجيل التوقيت الصيفي لأجله. كانت فرصة ليقول للمسلمين إنّهم رعايا في هذا الوطن الذي أسّسته بكركي. كانت كلمة واحدة منه تكفي لإطفاء هذا الانفلات الطائفي من الجانبين.

في تبدّلات المناخ الإقليمي بين شتاء وصيف، لم يكن الموارنة في حاجة إلى ربح معركة التوقيت، بل ربّما يكونون أكثر حاجة من أيّ وقت مضى إلى “إيلافٍ”* لبناني يتجاوز دعوات باسيل إلى الاصطفاف الماروني، بعدما توجّس من انتهاء حاجة “حزب الله” إليه.

* سورة قريش في القرآن الكريم تتألّف من 4 آيات: “لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ” (صدق الله العظيم).

من معاني هذه السورة أنّ الإيلاف هو الأمن في الرحلة. ورحلة المسيحيين تحتاج إلى “الإيلاف” والتآلف مع محيطهم.

*إيريك زمور : كاتب وسياسي فرنسي. في كانون الأول 2014، أنهت قناة i-Télé تعاملها معه إثر قوله في صحيفة “ديلا سيرا” الإيطالية: “للمسلمين قانونهم المدني وهو القرآن، والمسلمون يعيشون منغلقين على أنفسهم في الضواحي…التي أرغم الفرنسيون على مغادرتها”. ثم ترشّح إلى الرئاسة وحصل على 7% من الأصوات.

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

إقرأ أيضاً

التصعيد ضدّ أذرع إيران… تقابله مرونة لإنقاذ رفح؟

تسابق الضغوط من أجل إحياء مفاوضات الهدنة في غزة قرار الحكومة الإسرائيلية اقتحام رفح. يترافق ذلك مع رصد جدّية الليونة التي أبدتها قيادة “حماس” الداخل…

تفشّي وباء الصراعات.. هل يشعل حرباً عالميّة؟

العالم ليس بخير. مشهد العلاقات الدولية في ظلّ الحروب الصغيرة المتنقّلة هنا وهناك والصراع على النفوذ والتناحرات الإقليمية أشدّ تعقيداً ممّا كانت عليه الصورة عشيّة…

قادة غزّة: أزمة مكان أم خيارات؟

كثر الحديث “غير الموثّق بأدلّة رسمية” عن أنّ قطر بصدد الاعتذار عن عدم مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث كانت ولا تزال حتى الآن المكان الأكثر…

العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا…