النصاب السياسيّ والنصاب الوطنيّ.. أين أهل السُنّة؟!

2022-12-12

النصاب السياسيّ والنصاب الوطنيّ.. أين أهل السُنّة؟!

مدة القراءة 7 د.

وسط الفوضى الضاربة أطنابها بسبب انشغال المواطنين باختلال نظام عيشهم، وضياع ودائعهم، يظلُّ السياسيون المنشغلون بالتنافس على رئاسة الجمهورية أو التنافس على التأثير فيها، مهتمّين باختراق النصاب السياسي، والإخلال بالنصاب الوطني.

ماذا أعني بذلك؟ النصاب الوطني هو نصاب المسلَّمات المتمثّلة بالدستور والطائف ووثيقة الوفاق الوطني، وهي الأمور التي من المفروض أنّ عليها اتّفاقاً أو إجماعاً أنتجه أو أدّى إليه العيش المشترك وتجربته أو تجاربه الطويلة. أمّا النصاب السياسي فينجُمُ عن ظهور قوى سياسية تستمدّ شرعيّتها من الاستناد إلى المسلَّمات الوطنية، وأمّا قوّتها فتظهر وتتزايد من جرّاء العمل السياسي والفعّاليّة، سواء أكانت ذات عصبية طائفية أو مناطقية أو عائلية أو خارجية أو نتاج تحالفات.

 

التنكر والاحتدام السياسي

الملاحظ أنّ كلا النصابين داخَلهُ الاختلالُ في لبنان. ففي المجال الوطنيّ العامّ هناك قوى سياسية تتنكّر للمسلَّمات وللإجماعات بحجّة الظلم الذي نزل بتلك القوّة أو القوى من خلال طرفٍ أو أطراف. وهذا الظلم يبلغ من شدّته أنّه يدفع تلك القوّة أو القوى إلى السعي إلى صنعٍ ميثاقٍ جديد، ومن أجل ذلك لا بدّ من نقض الميثاق الظالم القديم أو العمل على الخروج من الميثاق الوطني بتاتاً لمصلحة تصوّرٍ آخر للوطن والدولة القائمة.

كان السُنّة دائماً في الميزان الوطني والسياسي بيضة القبّان. وما عندهم أيديولوجية غير الدولة وتقاليدها وعيشها المشترك

الاختلال في النصاب السياسي سببه شدّة الصراع السياسي بين الأطراف، بحيث يتعذّر الاعتراف بالتعدّدية في القوى السياسية، ويميل كلّ طرف إلى السيطرة الأوحديّة، ويترك للآخرين الفُتات باعتبار القوّة الساطعة التي يمتلكها والتي لا تأبه لشورى ولا لدستور.

 

لماذا نبقى على هذا الغموض؟

الاختلال الوطني يتمثّل في التيار الوطني الحر الذي يتنكّر للطائف والدستور. وهو يخوض صراعاً سياسياً محتدماً منذ أكثر من ثلاثين عاماً للتخلّص من الدستور. أمّا الفريق الآخر فقد مضى من التظلّم والظلم مباشرةً إلى الطغيان بالسلاح. كلا الطرفين جعل “قضيّته” فوق الدولة ودستورها. وهذا الأمر ليس جديداً، فالقوّة المسيحية الرئيسية في كلّ فترة تتغيّر مسمّياتها، لكنّ الجوهر واحد من إميل إدّه في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي إلى الجنرال عون، فما تغيّر الموضوع قيد أنملة. وكذلك الأمر مع تيار الحزب المسلَّح الذي كان التيار السياسي في الطائفة يجاهر بالتظلّم في فترة، حتى امتلك السلاح لمقاومة الاحتلال، ثمّ استولى على الدولة متحالفاً مع الجنرال عون باسم تحالف الأقلّيات.

 

غيبة السُنة اليوم أشد من الثمانينات

أفقد كلُّ هذا الاستقطاب النصابَ الوطني القوّةَ والفعّالية والنفاذ، وصار الاستقطاب الآخر مدمِّراً للنصاب السياسي ومن ورائه العمل السياسي، ولذلك تقطّع النظام والانتظام إثر تفاقم الأمر على المستويين، فتارةً يغيب رئيس الجمهورية، وطوراً يغيب أو ينشلُّ رئيس الحكومة. ولأنّ النصاب السياسي متهافت بسبب الافتقار إلى الأسس وإلى اعتبار المصالح الوطنية العليا، صار ضرورياً البحث عن مخرج لاستعادة بعض النظام والانتظام. الراديكاليّتان المتحالفتان اختلفتا، أو هكذا يبدو، فازداد التشلُّع الذي أحدثه اتّفاقهما.

يبدو الأمر شديد السوء ليس بسبب الاستقطاب وحسْب، بل وللافتقار إلى الطرف الذي يمكن اللجوء إليه، وهو الطرف الذي يصنع كتلةً بالداخل، ويستطيع التطلّع إلى الأفق العربي والدولي. والمقصود بذلك أهل السُنّة الذين يفوق غيابهم اليوم الغياب الذي عانوا منه في الثمانينيات من القرن الماضي، وعانى منه لبنان.


المُراد تغيير الدولة

كان السُنّة دائماً في الميزان الوطني والسياسي بيضة القبّان. وما عندهم أيديولوجية غير الدولة وتقاليدها وعيشها المشترك. وعندما تشتدُّ الأزمات (وهي تحدث بين الراديكاليّتين الطائفيّتين) يتدخّل السُنّة للإصلاح من جهة، ولدفع الجميع إلى الإصغاء لصوت الوطن والمواطن والسلم الأهلي والسياسي. وعلى الدوام كان خصوم الدولة والنظام بالداخل والخارج هم الذين يتصدّون لضرب النصاب السياسي للسُنّة بوهم أنّ من ينتصر بالحرب على السُنّة يستطيع الانتصار على خصمه الراديكالي الآخر بحربٍ أو بدون حرب. ميليشيا ضدّ الدولة هي التي قتلت رياض الصلح أوّل رئيس حكومة بعد الاستقلال. ورشيد كرامي قتلته ميليشيا أخرى لبنانية راديكالية كان همُّها الخلاص من وطنيّته الوسطيّة الصلبة في الانتصار للدولة والخروج من ميليشيات الحرب التي تقاتلت كثيراً فيما بينها لكن اتّفقت على الخلاص من الدولة. وكان ذلك شأن اغتيال المفتي الشيخ حسن خالد الذي كان يريد إنهاء سلطة الميليشيات، واستطراداً إنهاء الحرب الداخلية بأيّ ثمن. واجتمع على قتل رفيق الحريري ميليشيا بالداخل، ودولة بالخارج، لأنّ المراد كان إلغاء الدولة والاستقلال.

ما كانت المشكلة عند الآخرين أنّ رئيس الحكومة أو السلطة التنفيذية سنّيّ على كثرة ما قيل في هذا الاتجاه. بل كانت المشكلة في مدنيّة السُنّة واستعصاء مدنهم على تكوين الميليشيات، على الرغم من محاولة الأطراف المتصارعة أن يصبح السُنّة مثلهم أهل ميليشيا أو يتعرّضوا للقهر كما حصل بالفعل في بيروت وغير بيروت. السُنّة ما كوّنوا عصبيّات ولا ميليشيات ومرتزقة. وكانت قوّتهم دائماً تتجلّى في الوقوف إلى جانب الدولة. وعندما تضعف الدولة تحت وطأة سطوة الميليشيات يضعُفون هم أيضاً. لكنّهم يستمدّون من الضعف قوّة ويعودون إلى الساحة السياسية بالدولة ومعها. وهذا الأمر ليس مجرّداً (abstract)، بل هو سياساتٌ عمليّةٌ تضرب على وتر العيش المشترك، والمصالح العامّة، والسلم الذي لا بديل عنه.

 

أسباب افتقاد السُنة للنصاب السياسي

ظروفٌ متعدّدةٌ وتقلّبات كبيرة، تلك التي أدّت إلى افتقاد السُنّة للنصاب السياسي.

ـ أوّلها التهميش المتعمّد في ثمانينيات القرن الماضي.

ـ ثانيها اغتيال رفيق الحريري.

ـ ثالثها احتلال بيروت في 7 أيار عام 2008.

ـ رابعها الدأب على تخريب مدينة طرابلس عبر خمسين عاماً.

وعندما استتبّ الأمر للراديكاليّتين في الرئاسة ومجلس النواب والحكومة اعتبروا أنّه لم تعد هناك حاجة إلى حكومةٍ وسلطةٍ إجرائية، فخرج سعد الحريري من البلاد.

كلّ بلدٍ يحتاج إلى السلطة التنفيذية. لكنّ لبنان يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك. يحتاج إلى قوة سياسية مرنة لديها إحساس بالمسؤوليّة. نستشهد دائماً بكلام السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864-1920) عن أخلاق الرسالة وأخلاق المسؤولية التي ينبغي توافرها لدى السياسي والعالِم. يقتنع السياسي بالمهمّة ويعتمد أخلاق المسؤوليّة في القيام بها.

 

شكاوى السُنة في لبنان

وكما شكا السُنّة من الاستبداد والاغتيال والاستيلاء، شكوا من وجود إهمال خليجي وعربي لهم وللبنان. عليك أن تقوم بعملك الذي تظهر آثاره ثمّ تسأل الآخرين عمّا يمكنهم فعله للمساعدة. ثمّ ها هو الرئيس نجيب ميقاتي يزور المملكة لحضور القمّة السعودية-الصينية، ويجتمع بالمسؤولين السعوديين الكبار. لسنا في حالة نهوض، لكنّ عمليّات التكوين يمكن أن تتقدّم بحكم الضرورة والسعي من جهة، واهتمام المملكة بأن يستعيد وطننا عافيته من طريق قدرتنا وصنعنا للجديد والمتقدّم الوطني والعربي والدولي.

إقرأ أيضاً: أهل السُنّة: حماية الطائف مهمّة اليوم والغد!

لقد جرت محاولات منذ الثورة عام 2019. وكانت انتخابات عام 2022 خيبةً كبرى لغياب الأولويّات التي عرفها أهل السُنّة في تاريخهم. لقد عاد منطق الطائف والدستور ببطء إلى خطابات معظم الجهات السياسية والدينية. لكنّ “النصاب السياسي” المعاد تكوينه عند السُنّة هو الذي يستطيع بالتعاون والتحالف التطلّع إلى تطوير بيئة سياسية تحظى بالدعم العربي. حتى الآن كان هذا النصاب مرتبطاً برئيس الحكومة. فهل يمكن استبدال ذلك بالتعدّد، أم تجري محاولة الأمرين في الوقت نفسه؟ هو على أيّ حال دور لا يستطيع القيام به، كما ثبت تاريخيّاً، غير السُنّة في لبنان بمؤازرة العرب. وبهذا الدور الفاعل يرتبط الاستقرار وانتظام الشأن الوطني والدولتيّ.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر:  RidwanAlsayyid@

 

إقرأ أيضاً

كيف يفكّر نتنياهو؟

كيف يفكّر نتنياهو في قرارة نفسه؟ وما هي العناصر الحاكمة التي تعتبر مفاتيح شخصيّته والتي تحكم قانون الفعل وردّ الفعل لديه؟   من الصعب جدّاً…

فرنسا في خدمة واشنطن: غزّة قبل لبنان

يشتدّ التساؤل بشأن طبيعة مهمّة وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه بشأن “تدبير” هدوء على الحدود الجنوبية وحقيقة ما تملكه باريس من قدرات ومواهب ونفوذ في…

إعلام شموليّ في نظام ديمقراطيّ

“إنّ أدنى مراتب الجحيم مرصودة لمن يتّخذون موقف الحياد في القضايا ذات الطابع الأخلاقي” (دانتي).   يقول الصحافي الكبير في صحيفة هآرتس الإسرائيلية جدعون ليفي،…

إيران والتهديد العراقيّ.. صراع الممرّات

لم يكن التوقيع الرباعي بين العراق وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر على مذكّرة التفاهم للاستثمار في مشروع طريق التنمية، الذي سبق أن أطلقه رئيس الوزراء…