أبعاد الهزيمة الأميركيّة في أفغانستان

2021-07-06

أبعاد الهزيمة الأميركيّة في أفغانستان

مدة القراءة 6 د.

في 17 حزيران عام 1967، أنشأ وزير الدفاع الأميركي روبرت ماكنمارا (Robert McNamara) وحدة خاصّة لكتابة موسوعة تاريخية عن حرب فيتنام، التي لم تنقضِ إلا بعد ثماني سنوات. كان ماكنمارا يستبق انتهاء الحرب بتقديم توثيق مكتوب لأسرار تلك الحرب، التي استنزفت الولايات المتحدة، من أجل أن تعتبر بها الأجيال اللاحقة. ولم يُخبر ماكنمارا الرئيس ليندون جونسون (Lyndon Johnson)، ولا وزير الخارجية دين راسك (Dean Rusk)، بعمل هذه الوحدة، ولم يستعِن بمؤرّخين تابعين لوزارة الدفاع، ولا أبلغ الأجهزة الأمنيّة الأخرى، حرصاً على السرّية. أُنجزت الدراسة في 15 كانون الثاني عام 1969، وتضمّنت 3 آلاف صفحة من التحليلات التاريخية، و4 آلاف من الوثائق الحكومية، وكلّها بحجم 47 مجلّداً.

40% من المساعدات الأميركية لإعادة إعمار أفغانستان منذ عام 2001 ذهبت إلى جيوب المسؤولين الأفغان الفاسدين وأمراء الحرب وإلى المجرمين وإلى المتمرّدين

الدراسة السرّية جدّاً، التي باتت تحمل اسم “أوراق البنتاغون” (Pentagon Papers)، تسرّبت إلى صحيفة “نيويورك تايمز” التي نشرت بعض مضامينها في صدر صفحتها الأولى، عام 1971، قبل أن تُرفع عنها السرّية عام 2011. وأخطر ما فيها أنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تعلم أنّ الحرب في فيتنام لا يمكن الفوز بها، لكنّها كذبت على الرأي العام، وعلى الكونغرس، في شأن الأهداف الحقيقية للحرب، وتوسيع نطاقها إلى البلدان المجاورة لفيتنام، وأخفت تورّطها في بعض العمليات العسكرية والأمنيّة. واستمرّت في الحرب سنوات إضافية، ريثما تنجح في إيجاد ظروف تفاوضية مع فيتنام الشمالية.

الأمر تكرّر بعد نصف قرن، لكن بشأن حرب أخرى في بلد آسيوي آخر هو أفغانستان. ففي 9 كانون الأول عام 2019، نشرت “واشنطن بوست” مقالاً تحت عنوان: “في الحرب مع الحقيقة” (At war with truth)، وهو يستند إلى أوراق داخلية من تقرير المحقّق الخاصّ عن إعادة الإعمار في أفغانستان، حصلت عليها الصحيفة وفق قانون حرية المعلومات (Freedom of Information Act). وفي تلك المستندات، التي باتت تُعرف بـ”أوراق أفغانستان” (Afghanistan Papers)، تنكشف خبايا أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها. فتحت عنوان “الدروس المستفادة”، يقول التقرير إنّ المسؤولين الرفيعي المستوى في الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ جورج بوش الابن عام 2001، كانوا يعتقدون أيضاً أنّ الحرب في أفغانستان لا يمكن الفوز بها، لكنّهم أخفوا ذلك عن الرأي العام. ولمّا كان من الصعب إرساء معايير دقيقة للمدى الذي تُحرزه إعادة بناء الدولة

في أفغانستان، فقد جرى التلاعب بالمعطيات من أجل مدّ أمد الحرب. ويضيف التقرير أنّ “40% من المساعدات الأميركية لإعادة إعمار أفغانستان، منذ عام 2001، ذهبت إلى جيوب المسؤولين الأفغان الفاسدين، وأمراء الحرب، وإلى المجرمين، وإلى المتمرّدين”.

أخطر ما فيها أنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تعلم أنّ الحرب في فيتنام لا يمكن الفوز بها، لكنّها كذبت على الرأي العام، وعلى الكونغرس، في شأن الأهداف الحقيقية للحرب، وتوسيع نطاقها إلى البلدان المجاورة لفيتنام

هنا يُفهم التطابق في الرؤية بين الرئيس السابق دونالد ترامب والرئيس الحالي جو بايدن، بشأن أفغانستان، على عكس التناقض بينهما في مسائل الهجرة، والعلاقات الدولية، والموقف من روسيا، ومن الصراع العربي الإسرائيلي. فقرار الانسحاب من أفغانستان قرّره ترامب، وأمضاه بايدن من دون تحفّظ. ويمكن، بعد ذلك، إدراك مغزى برودة الموقف الأميركي من إمكان سيطرة حركة طالبان على كلّ أفغانستان خلال ستة أشهر أو أقلّ. فالبنتاغون لم يُفاجأ بمجرى الأحداث، وهو يعلم القدرات الحقيقية للحكومة الأفغانية، ومدى الفساد الذي ينخر مفاصلها الإدارية والأمنيّة والعسكرية، وعمق الاختراقات التي قامت بها حركة طالبان داخل الدولة الأفغانية، بحيث إنّ معظم النجاحات الميدانية، التي تحقّقها الحركة حاليّاً، ليست ناتجة عن معارك، بل عن استسلام من دون قتال، أو تواطؤ من الداخل، أو مجرّد بيع وشراء، أو هو بشكل عام، انهيار متسارع في المعنويّات عقب الانسحاب الأميركي الذي جرى بوتيرة أسرع ممّا هو معلن.

الأكثر غرابة أنّ حركة طالبان (أو طلّاب الشريعة)، التي كانت توصف قبل أكثر من ربع قرن، أي منذ ظهورها عام 1994، بأنّها حركة رجعيّة، لا يفهم قادتها السياسة، وليس لديها الخبرة القتالية التي تتمتّع بها الأحزاب الأفغانية العريقة التي قاتلت الاحتلال السوفياتي بعد قتالها النظام الشيوعي، باتت الآن حركة متمرّسة في القتال كما في التفاوض. فقد حرصت الحركة، التي فقدت معظم قادتها التاريخيّين، ولا سيّما أميرها الملّا محمد عمر مجاهد عام 2013، على طمأنة واشنطن إلى عدم التعرّض لمصالحها، ولا احتضان تنظيمات إرهابية كتنظيم القاعدة أو داعش. وسعت أيضاً إلى طمأنة دول الجوار، ولا سيّما إيران وروسيا، إلى أنّها تريد اعتماد سياسات انفتاح، ورعاية المصالح المشتركة. وفي الميدان، تبدو الحركة في زخم استثنائي، وهي التي تعرّضت في اجتياح عام 2001 لهزيمة ماحقة من قوى تحالف الشمال في الداخل المدعوم من التحالف الدولي جوّاً على نحوٍ خاص، ومن إيران وروسيا ودول آسيا الوسطى.

إقرأ أيضاً: عودة طالبان: إرباك إيراني.. وقلق روسي وصيني

الأسئلة كثيرة، ومنها: كيف كسبت الحركة العقول والقلوب في أفغانستان، فيما فشلت كلّ مكوّنات الأحزاب، ومعها الولايات المتحدة، في تحقيق التفوّق على الحركة في هذا المجال؟ هل تتمكّن طالبان من العودة بهذه السهولة إلى لحظة 9 أيلول 2001، عندما اغتال عنصران من تنظيم القاعدة، زعما أنّهما صحافيان، قائد تحالف الشمال أحمد شاه مسعود، وكادت في ذلك الوقت أن تُطبق تماماً على كامل البلاد؟ ما هي آثار الانقلاب الاستراتيجي في ذاك الجزء الحسّاس من العالم على حدود الصين وآسيا الوسطى وإيران وباكستان؟ هل تكون إعادة رسم لدوائر النفوذ إقليمياً؟ هل هي العودة إلى اللعبة الكبرى في تلك المنطقة على طريق الإمبراطوريات، في وقت يشتدّ فيه الخوف من صدام أميركي صيني؟ ما دور

الإسلام السنّي في الصراع العالمي المحتدم مع اشتداد القمع الآسيوي لملايين المسلمين في الصين وماينمار والهند؟ وما معنى دفاع إدارة بايدن عن جموع المضطهَدين في تلك البلدان؟

للبحث صلة…

إقرأ أيضاً

عراضة “الجماعة” في عكّار.. ومرحلة ما بعد حرب غزّة

بعد العراضة المسلّحة لـ”الجماعة الإسلاميّة” في منطقة عكار الشمالية، بدأت تظهر ملامح مرحلة ما بعد حرب غزّة في لبنان. تبدو الحاجة أكثر من أيّ وقت…

لا عزاء للمساكين

“لم أغسل دمي من خبز أعدائي  ولكن كُلّما مرّت خُطَايَ على طريقٍ فرّتِ الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ   كلّما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبةِ فالتجأتُ إلى رصيف الحلم…

“أخوة يوسف”* أمام معضلة خط الحرير العراقيّ

عاديّ أن يقلق البعض على هامش زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخيرة للعراق، أمام مشهد توقيع مذكّرة تفاهم رباعية للتنسيق والتعاون ذات طابع استراتيجي…

الجماعة الإسلامية إلى أين؟

عندما أنشئت الجماعة الإسلامية في ستينات القرن الماضي (وتمّ وقتها الترخيص للحزب الشيوعي وكان وزير الداخلية كمال جنبلاط)، كانت تهدف إلى المحبة والتسامح والعيش المشترك…