فاتح إربكان يثأر لأبيه

مدة القراءة 8 د

هزيمة حزب العدالة والتنمية أمام خصمه اللدود حزب الشعب الجمهوري للمرّة الأولى منذ 22 عاماً، ليست كأيّ هزيمة، حتى لو كانت في سياق الانتخابات البلدية. تبدو وكأنّها الهزيمة المؤجّلة من العام الماضي.

ارتأى المعترضون على أداء إردوغان تأجيل ضربتهم إلى هذا الاستحقاق، وهو ما يؤكّد أنّ قسماً لا يُستهان به من الكتلة المتديّنة في الحزب الحاكم، بغضّ النظر عن الشرائح الاجتماعية المتضرّرة من السياسات الاقتصادية والتي كانت تنتخب مرشّحي العدالة والتنمية، دعَم انتصار إردوغان رئيساً، ولم يدعم حزبه في البلديّات، باعتبار أنّ مخاطر الفشل الرئاسي أكبر بكثير من عواقب الفشل في البلديّات. إذ إنّ النظام السياسي بات رئاسياً عام 2017 في تركيا بهمّة إردوغان نفسه. فهو الحاكم بأمره بصلاحيّات واسعة. وأيّ شخص علمانيّ ينال هذا المنصب، سيكون له تأثير هائل في الحياة اليومية على نحوٍ معاكس في مجال الحرّيات الدينية. فيما لو قرّر تنفيذ المبادئ الأتاتوركيّة المتطرّفة ولو نسبياً.

انبعاث بديل إسلاميّ

الأخطر من استنكاف جزء مهمّ من مؤيّدي إردوغان عن الاقتراع، هو ظهور بديل إسلامي من إردوغان ومن حزبه، قادر افتراضياً على اجتذاب الكتلة الصلبة في “العدالة والتنمية”، وما يحتاج إليه فقط هو فسحة زمنية كافية لمراكمة الإنجازات الانتخابية وإنضاج الخبرة السياسية والشعبية، ولمّ شمل القاعدة الانتخابية الإسلامية حوله. وهذا الزعيم الشابّ الصاعد محمد علي فاتح إربكان (45 عاماً) ليس سوى الولد الأصغر سنّاً لمعلّم إردوغان، نجم الدين إربكان (توفّي عام 2011)، مؤسّس الإسلام السياسي في تركيا الأتاتوركيّة. وحزبه الجديد هو حزب الرفاه الجديد (تأسّس عام 2018)، تيمّناً بحزب الرفاه (القديم).

اختار فاتح إربكان اسم “الرفاه” للحزب الجديد لأنّه الحزب الذي حقّق الإنجازات الانتخابية والسياسية الأكبر للتيار الإسلامي

لِمَ اختار فاتح إربكان اسم “الرفاه” مع أنّه ليس أوّل حزب أسّسه والده نجم الدين، ولا حتى آخر حزب؟ فقبله وفق الترتيب، حزب النظام الوطني (تأسّس عام 1970 واستمرّ تسعة أشهر إلى أن حظرته المحكمة الدستورية)، فحزب السلامة الوطني (تأسّس عام 1972، وحلّه الجيش إثر انقلاب عام 1980)، ثمّ حزب الرفاه الذي تأسّس عام 1983 وحُظر عام 1998 بالتهمة نفسها، وهي انتهاك مبادئ الدستور العلماني. وبعد حظر الرفاه، تأسّس حزبان، الأوّل هو حزب الفضيلة (تأسّس عام 1998، وحُظر عام 2001)، والثاني هو حزب السعادة (تأسّس عام 2002 في الوقت الذي أسّس فيه إردوغان حزب العدالة والتنمية. رأسه إربكان بين 11 أيار 2003 و30 كانون الثاني 2004، وكذلك في الأشهر التي سبقت وفاته من أواخر 2010 إلى مطالع العام التالي).

اختار فاتح إربكان اسم “الرفاه” للحزب الجديد لأنّه الحزب الذي حقّق الإنجازات الانتخابية والسياسية الأكبر للتيار الإسلامي. صحيح أنّ نجم الدين عندما كان رئيساً لحزب السلامة الوطني شارك في حكومة ائتلافية مع رئيس حزب الشعب الجمهوري بولنت أجاويد (توفّي عام 2006)، وكان إربكان نائب رئيس الحكومة عندما اتّخذت تركيا قرار التدخّل العسكري المباشر خارج الحدود عام 1974 للمرّة الأولى منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، وذلك لنصرة أتراك جزيرة قبرص، وأنّه تسلّم المنصب نفسه في حكومتين برئاسة سليمان ديميريل (توفّي عام 2015)، إلا أنّه تولّى رئاسة الوزراء أوّل مرّة بين عامَي 1996 و1997 عندما كان رئيساً لحزب الرفاه. وفي ظلال الرفاه، حصد أتباع إربكان نتائج بلديّة كبيرة عام 1994، عندما فاز في 400 بلدية ومنها بلديّتا أنقرة وإسطنبول.

هذه الانتخابات هي التي أوصلت رجب طيب إردوغان إلى صدارة المشهد السياسي، باحتيازه منصب رئيس بلدية إسطنبول (بين عامَي 1994 و1998)، ومنها إلى رئاسة الحكومة عقب تأسيسه حزبه الجديد وخوضه انتخابات عام 2002.

بمتابعة الأرقام التي حظي بها حزب الرفاه الجديد بقيادة الشابّ فاتح إربكان، يُلاحظ حصوله على بلديّتين انتزعهما من “العدالة والتنمية”

اختير اسم “الرفاه” أيضاً لأنّ خصوم نجم الدين إربكان، وقد هالهم تعاظم قوّته الانتخابية، ادّعوا عليه وعلى حزبه في القضية المشهورة باسم “التريليون المفقود”. ملخّص القضية اتّهام حزب الرفاه بعدم إرجاع تريليون ليرة تركيّة إلى الخزينة العامّة بعد حلّه. وهو جزء من المبالغ التي تدفعها الدولة للأحزاب السياسية، في حين زعم مسؤولو الرفاه أنّهم أنفقوا المبلغ في نشاطات حزبية، وأبرزوا وثائق مزوّرة بحسب التحقيق. هذه القضية أُدين إربكان فيها مع عشرات من أعضاء الرفاه، وحكم عليه بالسجن لأكثر من سنتين. لكنّه وُضع قيد الاعتقال المنزلي بعد فترات سجن متقطّعة، ومُنع من ممارسة العمل السياسي، إلى أن نال عفواً رئاسياً عام 2008 من الرئيس عبد الله غُل لأسباب صحّية، وكان غُل نائب رئيس حزب الرفاه قبل حلّه.

إربكان الحصان الأسود

لدى قراءة أرقام الانتخابات البلديّة الأخيرة، يبرز الفارق غير المتوقّع بين الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وحزب المعارضة الرئيسي (الشعب الجمهوري)، لا سيما في إسطنبول، فمرشّح المعارضة أكرم إمام أوغلو نال 51.1% من الأصوات بمقابل 39.6% لمرشّح الحزب الحاكم مراد كوروم، وبفارق مليون صوت. وفي أنقرة فاز مرشّح المعارضة منصور ياواش بنسبة 60.4% من الأصوات، مقابل 31.7% لمرش~ح العدالة والتنمية تورغوت ألتينوك، وبفارق أقلّ من مليون صوت بقليل. في حين أنّ أكرم إمام أوغلو هزم مرشّح حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم بأقلّ من 14 ألف صوت (0.17%) في انتخابات 2019. ثمّة فجوة انتخابية كبيرة، فإلى أين ذهبت أصوات “العدالة والتنمية”؟

فاتح إربكان

نجح فاتح إربكان في الثأر معنوياً وجزئياً لأبيه الذي مات وفي نفسه شيء من تلميذه السابق الذي انقلب عليه

أرجع ياسين أقطاي القيادي في الحزب الحاكم، في مقال له في جريدة “يني شفق” الإسلامية الهوى، هذه النتائج إلى ما سمّاه “ثورة المتقاعدين” على أداء السلطة، في خضمّ الأزمة الاقتصادية. وقال: “لم تأتِ القوة التغييرية من الجيل “Z” (جيل الشباب العشرينيّ) كما كان متوقّعاً، بل من المتقاعدين. ومن الواضح أنّ إضفاء معنى ثوري على مثل هذه النتيجة الانتخابية سيكون غير مناسب تماماً”، بحسب تعبير أقطاي. هذا التحليل هو تهوين من شأن ما حدث، وهو حدث جلَل، عندما يرمي الكرة في ملعب كبار السنّ، وكأنّ الشباب متحمّسون لحزب العدالة والتنمية كما كانوا قبل عقدين من الزمان.

بمتابعة الأرقام التي حظي بها حزب الرفاه الجديد بقيادة الشابّ فاتح إربكان، يُلاحظ حصوله على بلديّتين انتزعهما من “العدالة والتنمية”، وهما بلدية شانلي أورفا بنسبة أصوات 38.9%، وكان حزب العدالة والتنمية قد حقّق في انتخابات 2019 نسبة لافتة هي 80.8%، وبلدية يالوفا بنسبة أصوات 36.3% بمقابل 40.8% حقّقها “العدالة والتنمية” في 2019. أمّا مجمل الأصوات التي حصل عليها حزب الرفاه الجديد في الانتخابات البلدية، فيبلغ ما يقارب 3 ملايين صوت، أي 6.2% من مجمل المقترعين، فيما حصل في الانتخابات البرلمانية العام الماضي على 1.5 مليون صوت.

ومن المؤكّد أنّ إربكان ينزح من البئر نفسه، من القاعدة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية، بعدما كثر المتذمّرون من سياسات إردوغان وحكومته وحزبه. وليس الموقف البارد من مذبحة غزّة بالأمر السهل هضمه. بل الامتناع عن اتّخاذ أيّ إجراءات عقابية ضدّ إسرائيل في أيّ مجال من المجالات، سواء السياسية أو الدبلوماسية أو الاقتصادية. فهل كانت غزّة هي السبب؟ هي إحدى العلامات والعوامل. وتكمن رمزية القضية الفلسطينية في أنّها جزء عضوي من الخطاب الإسلامي الإردوغانيّ. وعليه، فإنّ حزب العدالة والتنمية فشل في مجالين هما المادّي الاقتصادي والمعنوي السياسي. فمع استمرار الأزمة الاقتصادية، هناك خيبة أمل بمستوى الخطاب الأيديولوجي الذي هبط إلى درجة الخمود.

لدى قراءة أرقام الانتخابات البلديّة الأخيرة، يبرز الفارق غير المتوقّع بين الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وحزب المعارضة الرئيسي (الشعب الجمهوري)

فهل يكون فاتح إربكان نجم انتخابات الرئاسة عام 2028، أم يكون الحصان الأسود الذي يتسبّب بوصول أكرم إمام أوغلو عن حزب الشعب إلى الرئاسة، فيخلع “العدالة والتنمية” عن سدّة الحكم للمرّة الأولى منذ عام 2002؟ من المبكّر التكهّن من الآن بشكل المعركة الرئاسية المصيرية المقبلة. لكن ليس مجازفةً القول إنّ نجل إربكان يربك صفوف إردوغان بأضعاف ما يفعله الشابّ العلماني أكرم إمام أوغلو. ولو كان إربكان حيّاً فهل كان ليقبل صراعاً بين الإسلاميين على السلطة فيربح خصومهم العلمانيون؟

إقرأ أيضاً: غزّة تُنهي “خلافة” رجب طيب إردوغان

في كلّ الأحوال، وفي هذه المعركة الانتخابية تحديداً، نجح فاتح إربكان في الثأر معنوياً وجزئياً لأبيه الذي مات وفي نفسه شيء من تلميذه السابق الذي انقلب عليه. فهو الذي بنى، وإردوغان هو الذي حصد.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

عزّ الشرق أوّله دمشق..

ساحة الامويين علم الثورة عليها انكسرت عصا سليمان التي يتّكئ عليها، فظهر أنّه ميتٌ من زمان. سقط نظام بشار الأسد، وبسقوطه اكتمل سقوط المحور الإيراني….

إنّا من العرب… وإنّا إليهم راجعون

لجرحنا الغائر في سوريا صوتٌ كصرير الأسنان، وهو جرح قديم ورهيب ومستدام، يسبق الفجيعة بشطب رفيق الحريري ويعقبها. حتى بات ربيع بيروت ينتظر أوان الورد…

كيف ستتلقّف المعارضة نقمة العلويّين على الأسد؟

أخيراً، غادرنا صاحب الضحكة البلهاء، والقرارات الخرقاء والخطابات الجوفاء والأفكار الهوجاء، التي حوّلت قلب العروبة النابض إلى صحراء… انسحب بعدما جعل سوريا، الدولة المحوريّة، بحراً…

اللّحظة السّوريّة”: ما المطلوب خلال ساعات؟

فيما بدت عواصم العالم حذرة في مقاربة الحدث السوري الكبير، سحب بنيامين نتنياهو كرسيّاً، جلس إلى طاولة التسوية السورية، فارضاً إسرائيل شريكاً حاضراً في مستقبل…