رحيل عزّت العلايلي: آخر فرسان “البطولة الجماعية”

2021-02-08

رحيل عزّت العلايلي: آخر فرسان “البطولة الجماعية”

مدة القراءة 6 د.

ينتمي الممثّل المصريّ عزّت العلايلي  الذي غادر دنيانا منذ أيام إلى مدرسة تمثيلية ترفض الانصياع إلى مفهوم الأداء وتنحاز إلى مفهوم التّجسيد.

الفرق بين المفهومين واسع ودقيق لناحية مقاربة الشّخصيات وطريقة تقديمها.الأداء يتضمن التقاط العناصر الأبرز في الشّخصية والإلمام بتفاصيلها وعرضها من مسافة ما، تبقي للممثّل شيئا من ذاته فائضًا عن الدّور ومستقلًّا عنه. الحديث هنا عن براعة وعن مهارة. الأداء يُعنى بالتّقنيّة بشكل خاص، ولكنّ التّجسيد ينشئ عمليّة تحوّل كاملة، يكون فيها الممثّل خارجًا عن ذاته ومقيمًا في الشّخصية الّتي يقدمها بشكل لا تبرز فيه التّقنية بملامح واضحة، بل تختفي وتذوب في الخلفيّة. لا نرى إلاّ الشخصية نفسها ولا شيء سواها، من دون أن يعني ذلك إهمال التقنية ولكن في التجسيد يتم التعامل معها بوصفها وسيلة.

بدايته كانت مع فيلم “رسالة من امرأة مجهولة” المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب النمساوي ستيفان زفايج من إخراج صلاح أبو سيف و بطولة فريد الأطرش ولبنى عبد العزيز، لكنّ الممثّل المولود في حي الشّعرية الشّعبيّ عام 1934 وجد انطلاقته الفنيّة الفعليّة مع مشاركته في فيلم الأرض للمخرج يوسف شاهين عام 1970 في دور الفلّاح عبد الهادي.

في ذلك الفيلم  حرص شاهين على إبراز ملامح مشروعه التّجريبيّ الواقعيّ من خلال إصراره على أن يكون التّمثيل حيًا وواقعيًّا، وقد روى الممثّل الرّاحل في مناسبات عديدة كيف فرض عليه المخرج تمثيل المشاهد بنفسه من دون الاستعانة ببديل، وحكى أنّه نفّذ بنفسه عمليّة إنقاذ الجاموسة في أحد مشاهد الفيلم الشّهيرة وأنّ ذلك أدّى إلى إصابته بمرض الديدان.

ينتمي الممثّل المصريّ عزّت العلايلي الذي غادر دنيانا منذ أيام إلى مدرسة تمثيلية ترفض الانصياع إلى مفهوم الأداء وتنحاز إلى مفهوم التّجسيد

وسمت هذه الانطلاقة كلّ مسار العلايلي الّذي استمرّ إلى لحظة وفاته فقد كانت آخر أعماله هي مسلسل “قيد عائلي” الذي يتناول قصة الصّراع الحادّ بين عائلتين على الإرث.

 بدأت حلقات المسلسل تعرض تباعاً في العام 2019 ، ونجح في احتلال الصّدارة الجماهيريّة والحصول على تقييمات نقديّة إيجابيّة، كما أنه في أيامه الأخيرة كان يخطّط لإعادة تصوير مسرحية “آه يا بكوات” التي كتبها لينين الرملي وأخرجها عصام السيّد، والّتي سبق له أن قدّمها في العام 1989 وتشارك البطولة فيها مع النّجم حسين فهمي.

مع هذا المسلسل الذي ختم مسيرته  يسجّل الممثل إقامة طويلة في عالم الفن ناهزت النّصف قرن، قدم فيها مجموعة كبيرة من الأعمال تنوّعت بين التّاريخيّ، والرّوائيّ، والاجتماعيّ، والحربيّ، ومجموعة من المسرحيّات كما شارك في عدد من الأعمال العربيّة مع مخرجين لبنانيين وجزائريين ومغاربة.

ويشير النقاد ألى أنه الممثل الوحيد الذي تسجل مشاركته في 10 من الأعمال المدرجة على لائحة أهم 100 فيلم مصري  في القرن العشرين الّتي أعلنت عام 1996 إثر استفتاء شارك فيه عدد كبير من نقاد السّينما.

 هذه الأفلام هي :بين القصرين 1964من إخراج حسن الإمام، قنديل أم هاشم 1968 من إخراج كمال عطية، الأرض 1970، الاختيار1971، إسكنديه ليه 1979 من إخراج يوسف شاهين، فيلم زائر الفجر 1975من إخراج شكري ممدوح، على من نطلق الرصاص 1975من إخراج كمال الشيخ، السقا مات 1977من إخراج صلاح أبو سيف، ،أهل القمة 1981 من إخراج علي بدرخان، الطوق والإسورة 1986من إخراج خيري بشارة.

خصوصيّة مشاركة العلايلي في هذه المجموعة من أبرز الأفلام العربية تتجلّى في التّجسيد الكلاسيكيّ الصّارم والمنضبط، والواقعيّ للشّخصيات، بغض النّظر عن طبيعة الفيلم ونوعه، بحيث ينفّذ الجسد مهمة إيصال الفكرة والمناخ والتّعبير عن الانفعالات مقرونّا بالصّوت وتعابير الوجه.

 جسد الفلاح في الأرض يظهر في كل مرة وكأنّه ملتصق بالأرض بقدر ما ينبع منها. لم يكن نموذجًا خاصًا عن الفلاح أو محاولة لتقديم هذه الشّخصية في إطار معيّن، بل كان فلاحًا أصليًّا بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة.

 الإدارة الواقعيّة الصّارمة للتّمثيل من قبل مخرج الفيلم خلقت هذا الطّابع وكرّسته وجعلت الحالات  والانفعالات حقيقيّة، لأنّها كانت تتطلّب جهدًا حقيقيًّا وتماسًّا مباشرًا مع الموضوع والحالة، والانسجام التّام مع البيئة والمكان.

الأمر نفسه ينطبق على الطّريقة التي قارب فيها الشّخصية المزدوجة في فيلم الاختيار الّذي يعدّه واحدًا من أصعب أدواره، حيث كان الانتقال الحاد  والصّعب من شخصية سيّد الكاتب الشّهير وعضو المجمع اللّغويّ، صاحب المكانة الاجتماعيّة الرّفيعة السّجين في أسر صورته الاجتماعيّة الزّائفة ومتطلّباتها، وبين محمود الشّخصية الهائمة الحرّة المنطلقة والسّاخرة من التّقاليد ومن نفسها ومن كلّ شيء.

في شخصية سيّد كانت حركة الجسد والوجه توحي بتقوقع الشّخص على ذاته وبالتّوتر والتّردّد وأنّ هذا الشّخص عالق في نفسه وفي أفكاره، وكأنّه خارج الحياة تمامًا، وحين يستخدم الصّوت العالي مع توظيف سلطاته في مخاطبة من يعتقد أنّهم أدنى منه يبدو مزيفًا وفاقدًا للسّلطة، بل يبدو كاريكاتوريًّا وخائفًا.

خصوصيّة مشاركة العلايلي في هذه المجموعة من أبرز الأفلام العربية تتجلّى في التّجسيد الكلاسيكيّ الصّارم والمنضبط، والواقعيّ للشّخصيات، بغض النّظر عن طبيعة الفيلم ونوعه، بحيث ينفّذ الجسد مهمة إيصال الفكرة والمناخ والتّعبير عن الانفعالات مقرونّا بالصّوت وتعابير الوجه

في شخصية محمود يظهر الجسد مشرّعا ومنفتحًا ومستعدًّا لاستقبال الوجود، والعالم، والحياة، والتّجارب، وفي كل لحظة يبدو محمود قادرًا على الحصول على الحبّ والصّداقة والتّعاطف، وكل مكان يحل فيه يصبح  مهرجانا حافلا بالحركة والحيويّة.

حركة جسد محمود منتصبة، متماوجة، سيّالة، وصوته واضح وجريء، وملامحه عامرة بالثّقة والأمل، أو باليأس والحزن، ولكنّ كل كتلة هذه المشاعر الفوّارة تُقدّم من خلال جسد لا يكذب أبدًا ويسعى إلى قول حقيقته على الدّوام في حين أن جسد سيّد يسعى لأن يخفي حقيقته وأن يجمّلها ويزيّنها. 

إقرأ أيضاً: رحيل حاتم العلي: “سورنة” الموت

في “السقا مات” كان الجسد منحنيًا مكسورًا وكذلك الملامح والصّوت كان يبدو على الدوام مرتجفًا بنبرة عميقة، وكأنّه حديث داخليّ أو حوار مع فكرة الموت الّتي تسيطر على جوّ الفيلم.

لا يمكن اختصار مسيرة نصف قرن بمقال، ولكنّ الخلاصة التي يجب التّأكيد عليها تكمن في أن الممثّل الراحل كان آخر فرسان مدرسة البطولة الجماعيّة المستندة إلى العمل ككل، لذا فإنّه صنع لنفسه نجوميّة تختلف عن نجوميّة فتى الشّاشة والبطل الواحد والوحيد الّذي تبنى الأعمال لأجله ومن خلاله، وكي تكون في خدمة صورته.

العلايلي كان يفرّ من النّجومية إلى التمثيل لذا كان بطل دوره وأفضل من يقدم شخصياته، وبذلك استطاع الهروب من أسر النجوميّة الفاقعة ومتطلّباتها القاتلة، ونجا بذلك من السّقطات العنيفة على الرّغم من مشاركته في “فيلم ذئاب لا تأكل اللحم” للمخرج اللّبنانيّ سمير خوري الّذي عدّ فيلمًا إباحيًّا وفي عدد من الأعمال الضّعيفة. هكذا نجح في أن يبقى طوال حياته محاطًا بهالة من الرّضا الشّخصي والاستمراريّة الفنيّة الّتي تكرّس أعماله بعد رحيله بوصفها جزءا أساسيّا من تاريخ السّينما العربيّة.

إقرأ أيضاً

العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا…

نهائيّ البطولة بين الحزب ودمشق

لم يُخفِ آموس هوكستين نبرته المتهكّمة وهو يتبادل أطراف الحديث مع أحد الذين التقوه قبل فترة. فالرجل بات يعرف لبنان بخرائطه وأرضه أكثر منّا. والأهمّ…

الورقة الفرنسيّة لرفع العتب.. والحزب ينتظر جثّتين

“هي الفرصة الأخيرة بالشكل، لكن في المضمون يدرك الفرنسيون أنّها لن تنجح، لكنّهم يرفعون العتب عنهم، على قاعدة “اللهمّ قد بلغت”. بهذه الكلمات تصف شخصية…

غزّة والأرمن: المعتدون من قبيلة واحدة.. كذلك الضحايا

“رسالة عاجلة من أرض قمعستان: قمعستان… تلك التي تمتدّ من شواطىء القهر إلى شواطىء القتل إلى شواطىء السحل إلى شواطىء الأحزان ملوكها يقرفصون فوق رقبة…