فيروز تغنّي غزّة: أغنية راهنة… عمرها 50 عاماً

2024-03-02

فيروز تغنّي غزّة: أغنية راهنة… عمرها 50 عاماً

فيروز تغنّي غزّة؟ خبر انتشر كالنار في الهشيم، فملأ وسائل التواصل الاجتماعي وشغل الناس. فما القصّة؟

 

هل هي أغنية جديدة؟ هل حقّاً فيروز تغنّي غزّة؟

في ستّينيات القرن الماضي، وبينما كانت الأنظمة القومية التوتاليتارية تجهّز لكلّ ما سيلي من خسارات سياسية صافية عبر تنظيم أجهزة الاستخبارات وقمع كلّ شيء، كان في المقابل اثنان يفضحان الأنظمة:

ـ الأوّل، حركة فتح التي أعلنت انطلاقتها بعد يأس مرير من مراوغات الأنظمة وخطاباتها المكرّرة.

ـ على الطرف الثاني كان ثلاثي فيروز وعاصي ومنصور يشتغلون ما يجيدونه في محاكاة الأحلام وحظوظها من التطبيق.

أدركت حركة فتح باكراً أنّ التحرير “طلقة أولى وحكاية مشوار” طويل أُصيب لاحقاً بشطط السلطة المرعب. فيما آثر ثلاثي الرحابنة التحايل على سوداوية الوضع بأغنية “سافرت القضية” التي تستعرض كلّ ما يتكرّر يومياً وتلهج به الألسن العربية.

القضيّة والعبء

الطرفان آثرا رفع القضية الفلسطينية، ولئن لم يكونا ينسّقان بعضهما مع بعض. الهدف عينه. لكنّ ذلك كان يخلّ حينها بالأشياء وتراتبها عند الأنظمة. فكان أن صارت حركة فتح عبئاً يجول العالم، فيما حُجبت أغنية فيروز “سافرت القضية”، ولم تُمنع.

استحضار الأغنية في مفرداتها لواقع النظم السياسية العربية كان بطبيعته ومضمونه يعاكس أمزجة سلطوية أعرض تدرّعت بـ “سحر العروبة”. وفي حينه أيضاً وأيضاً تلبّست الأحزاب العقائدية الدينية والشيوعية لغة عامّة صار غالبها يسيل بعبارات المجد والنصر والمعارك المقبلة التي أتت لاحقاً ولم تبقِ ولم تذر. آنذاك مات كلّ شيء. هذا الموت على معناه غير البيولوجي بشّر به فريدريك نيتشه. قال إنّ الجميع يموتون حتى الله. عنى ذلك أنّ فكرة الحقّ المقدّس باشرت موتها منذ عصر التنوير. “لقد انتهى ذلك المقدّس” على ما لاحظ حازم صاغية.

الجوع لا يزال ينام في منازل المشرّدين، والرياح على حالها تقتلع الخيام التي بدورها لا تزال على حالها لا يتغيّر فيها سوى اللاجئين. .ومازالت فيروز تغنّي غزّة

فقدان المقدّس الناظم للحقّ والعدالة ربّما هو ما جعل من أغنية “سافرت القضية” أقرب إلى مانيفست سياسي. جاء النصّ ساخراً من كلّ أحوال العالم وببّغاويّته عن فلسطين. وهي إذ غنّت “زهرة المدائن” لمدينة القدس فهذا لامس شعوراً عامّاً يبعث الحنين لا أكثر ولا أقلّ. والأرجح أنّنا لو سمع الكلّ الاجتماعي قصيدة “سافرت القضيّة”، لكان انكشاف الإدارة السياسية الإسرائيلية أسهل. وما كان انبعاث الأغنية مجدّداً يستدعي هوساً وفرحاً غير مبرّرين في هذه اللحظة العنفيّة على وجه الدقّة.

غنّت فيروز

قال الرحابنة وفيروز تغنّي غزّة: “سافرت القضية/ تعرض شكواها/ في ردهة المحاكم الدولية/ وكانت الجمعية/ قد خصّصت الجلسة/ للبحث في قضية “القضية”. وجاء مندوبون عن سائر الأمم/ جاؤوا من الأمم/ من دول الشمال والجنوب/ والدول الصغيرة والدول الكبيرة. واجتمع الجميع في جلسة رسمية/ وكانت الجمعية/ قد خصّصت الجلسة/ للبحث في قضية “القضية”. وخطب الأمين العامّ/ حكى عن السلام/ وبحث الأعضاء الموضوع. وطُرح المشروع/ عدالة القضية/ حرّية الشعوب/ كرامة الإنسان/ وشرعة الحقوق/ وقف إطلاق النار/ إنهاء النزاع/ التصويت/ البتّ في المشاكل المعلّقة/ الإجماع. وصرّحت مصادر موثوقة/ نقلاً عن المراجع المطّلعة/ ودرست الهيئة/ وارتأت الهيئة/ وقرّرت الهيئة/ إرسال مبعوث. وصرّح المبعوث/ بأنّه مبعوث من قبل المصادر/ وأنّ حلّاً ما/في طريق الحلّ. وحين جاء الليل/ كان القضاة تعبوا/ أتعبهم طول النقاش/ فأغلقوا الدفاتر وذهبوا للنوم/ وذهبوا للنوم. وكان في الخارج صوت شتاء وظلام/ وبائسون يبحثون عن سلام/ والجوع في منازل المشرّدين ينام/ وكانت الرياح ما تزال تقتلع الخيام”.

ما سبق ليس بياناً كُتب اليوم، أو أمس، أو بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ما سبق ليس قصيدةً لشاعر يشاهد التلفاز أو يستمع إلى الراديو ويكتب. وليس منشوراً لحزب. ولا تقريراً لمنظمة دولية عمّا يجري في غزة منذ خمسة أشهر.

قال الرحابنة وفيروز تغنّي غزّة: “سافرت القضية/ تعرض شكواها/ في ردهة المحاكم الدولية/ وكانت الجمعية/ قد خصّصت الجلسة/ للبحث في قضية “القضية”

ما سبق لا علاقة له بغزّة وما يجري فيها منذ أشهر. وله في الوقت نفسه كلّ العلاقة بها وبما يجري فيها وحولها وعليها منذ أيام وأشهر، بل منذ سنوات وعقود.

ما سبق ليس بياناً لحزب أو لمنظّمة أو لشاعر، بل هو لمن هم أكبر بكثير من الأحزاب والمنظّمات والشعراء.

أغنية طيّ قضيّةٍ طيّ النسيان

ما سبق كلماتُ أغنيةٍ كتبها الأخوان رحباني، عاصي ومنصور، وبها فيروز تغنّي غزّة، كانت وما زالت. ما سبق عمره من عمر القضية، القضية الفلسطينية، ومرارته من مراراتها. قد يعجب القرّاء والمستمعون من هذا الكلام، ويتساءلون: أين كانت؟ وكيف لم نسمعها؟

كانت طيّ القضية. القضية التي كانت طيّ النسيان حتى الأمس القريب. حتى السابع من أكتوبر الماضي. عادت القضية، فعاد الأخوان رحباني وصدحت فيروز. أو ربّما عاد الأخوان رحباني وصدحت فيروز، فعادت القضية.

فيروز تغنّي غزّة

لا يعرف العرب عموماً واللبنانيون خصوصاً من أين تهبّ فيروز والأخوان رحباني عليهم، ولا متى. فهذا الثالوث أشبه ما يكون بالحرّية: “الزهرة الناريّة، والطفلة الوحشيّة” التي وحده الله أو وحدها القضايا التي تمسّ في الصميم وتضرب في العمق، تعرف أين تنبت وكيف ومتى.

ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الأغنية. كثرٌ ظنّوها وليدة اليوم. آخرون ذهبوا إلى أنّها أغنية ممنوعة وجدت طريقها إلى آذان المستمعين بعد جهد جهيد. لكنّ من يمنع صوت فيروز وكلمات الأخوين رحباني؟ من يجرؤ؟ ومن يقدر على لحن وعلى كلمات وعلى صوت؟ من يقدر على قضايا تمسّ جوهر الإنسان من الحرّية إلى العدالة إلى الرعيّة… إلى فلسطين مروراً بدمشق وبغداد والشام كلّها ومصر؟

صحيح أنّ الأخوين رحباني شاعران وملحّنان، وفيروز صوت لا يشبه أيّ صوت آخر، لكنّهم في الواقع والحقيقة أكثر بكثير من ذلك. هم نبض شعب، بل شعوب، ولسان قضايا لا تموت، لكن لا تتحقّق.

لا يعرف العرب واللبنانيون من أين تهبّ فيروز والأخوان رحباني عليهم، ولا متى. فهذا الثالوث أشبه ما يكون بالحرّية: الزهرة الناريّة، والطفلة الوحشيّة

مكانك راوح

ما معنى هذه الأغنية اليوم؟ معناها اليوم أكثر نضارةً ومرارةً ممّا كان عليه يوم أُطلقت، والمرجّح أنّها من ضمن إنتاج الرحابنة الغزير بعد نكسة عام 1967. لا يهمّ، فلا ضير في أن تكون قد أُنتجت بعد النكبة عام 1948، أو أمس صباحاً بعد خمسة أشهر من الحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة.

ما الذي سيتغيّر؟ فالقضية لا تزال تسافر وتعرض شكواها على المحاكم الدولية والجمعية العامّة للأمم المتّحدين، والمبعوثون لا يفارقون ديارنا، ولا يزال الحلّ في طريق الحلّ، والبائسون لا يزالون يبحثون عن السلام، والجوع لا يزال ينام في منازل المشرّدين، والرياح على حالها تقتلع الخيام التي بدورها لا تزال على حالها لا يتغيّر فيها سوى اللاجئين. .ومازالت فيروز تغنّي غزّة.

إقرأ أيضاً: “حلّل يا دويري”: لواءٌ محا “وصمة” سعيد والصحّاف

الإقامة في الماضي

لكن ما معنى أن نسمعها اليوم؟

المعنى واضح وبسيط وجليّ: ما زلنا حيث كنّا قبل عقود. قبل اجتياح ونكسة ونكبة. قبل أكثر من تهجير وأكثر من لجوء، من يحصي؟ من يذكر؟ معناه أنّ العالم ما زال حيث كان أجدادنا، وأنّ التقدّم الحاصل والتطوّر والثورات التكنولوجية والرقمية وووو، لا تزال كلّها حيث كان أجدادنا أو أسلافنا. لا نتقدّم ولا نتأخّر، ندور مثل الأرض حول أنفسنا وحول القضايا الجوهرية التي تمسّ كلّ إنسان أنّى كان.

 

لمتابعة الكاتب على X:

jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…

طلال سلمان في ذكراه… “أين الطريق”؟

قبل عام كامل غادرنا طلال سلمان، بعد سبع سنوات من توقف جريدته “السفير” عن الصدور. غادرنا قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان، وتمرّ…

وليد فيّاض وعجائبه السّبعة: تحويل “الكرامة” إلى “فيولة”‎

اختصر وزير الطاقة وليد فياض في كلمتين فلسفة المنظومة السياسية التي يمثّلها: “الكرامة” و”أميركا”. ونحن اللبنانيّين عالقون بلا كهرباء، بين هاتين الكلمتين. نحن المحكومون من…