الحرب الروسيّة الأوكرانيّة (2): طريق السلام المسدود..

مدة القراءة 6 د

الحرب التي بدأت قبل سنتين بين روسيا وأوكرانيا لا تزال مستمرّة، ولا تتسبّب بنزيف كبير بشريّ ومادّي واقتصادي لكلا طرفَيها فحسب، بل باتت تستنزف أيضاً قدرات واقتصادات دول كثيرة في أوروبا والعالم. لا الغزو الروسي حقّق أهدافه بكسر إرادة كييف، ولا الهجوم الأوكراني المضادّ المدعوم بالسلاح والعتاد والتخطيط والتمويل الغربي استطاع ردع الروس أو وقف جموحهم.

لا يزال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يراهن على كسب الحرب مهما طال زمنها، ولا يزال يسمّيها “العملية العسكرية الخاصة”، ويسعى إلى استنزاف تدفّقات السلاح الغربي، ونزع سلاح أوكرانيا بالتدريج، انطلاقاً من عقيدته أنّ كسر السلاح المعادي أسلم طريقة لكسب الأرض وتثبيت أقدام القوات الروسية، بينما رهان الغرب، وخصوصاً ندّه الأميركي جو بايدن، يصبّ في الاتجاه المعاكس بالضبط.

كان يُفترض أن يبدأ قبل الحرب التفاوضُ، الذي تحدّث عنه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظراؤه الغربيون مراراً، وعدم إدارة الظهر للهواجس الروسيّة، التي تبيّن أنّها مكلفة لروسيا ولأوكرانيا ولأوروبا وللعالم. والرهان على الهجوم المضادّ لإضعاف روسيا وفرض معاهدة فرساي عليها، ينطوي على المخاطرة بالوصول إلى نتائج أكثر كارثية من فرساي التي فُرِضت على ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى، لا سيما أنّ التصعيد في أوكرانيا قد يجرّ إلى صدام مباشر بين روسيا وحلف “الناتو“، وربّما نشر أسلحة نووية روسية تكتيكية في بيلاروسيا أوضح مثال على مخاطر صدام كهذا.

حرب الاستنزاف مستمرّة

الحرب مستمرّة، وليس في الأفق القريب أيّ إشارات إلى نهايتها، لا بل على العكس الاستنزاف مستمرّ والتعبئة مستمرّة والحشد في ذروته والدمار على أشدّه. النتيجة العامّة حتى الآن هي أنّ روسيا لن تتمكّن من احتلال كلّ أوكرانيا، بل على العكس بالكاد تحافظ قوّاتها على أجزاء من الشرق والجنوب، إلا إذا قرّر الكرملين اللجوء إلى الأسلحة التكتيكية النووية، وهو أمر لا يزال مستبعداً حتى لو جرى التلويح به. وفي المقابل لا تبدو القوات الأوكرانية مهما نالت من الدعم الغربي، قادرةً من دون دعم مباشر من القوات الأطلسية، على إخراج الجيش الروسي من القرم والدونباس.

لا يبدو الحسم العسكري حلّاً متاحاً حتى إشعار آخر، لذا مواصلة الحرب من دون أفق أو هدف ليست مستبعدةً

التورّط الأطلسي المباشر مستبعد جدّاً في ظلّ انخفاض حماسة الرأي العامّ الغربي لحرب باهظة الكلفة كهذه. وهي أصلاً بدأت بالانخفاض تدريجياً بعد حرب غزة، وقد تنخفض أكثر بسبب الانقسامات الداخلية الأوروبية، فالمجر التي يحكمها اليمينيّ أوربان تقف حجر عثرة أمام إقرار حزمة المساعدات الأوروبية، وهولندا التي فاز في انتخاباتها اليمين المتطرّف خفضت مساعداتها بالفعل، وكذلك فعلت سلوفاكيا، والحبل اليمينيّ الأوروبي على الجرّار في دول أخرى. وفي الولايات المتحدة، قد تعني الانتخابات المقرّر إجراؤها في تشرين الثاني 2024، مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تغييراً جدّياً في السياسة تجاه أوكرانيا وروسيا.

كيف ستنتهي هذه الحرب؟ هذا هو السؤال الذي يفتح على سيناريوهات عدّة، لكنّها كلّها لا تبدو حاسمة.

ماذا عن الحلّ الدبلوماسي؟ لقد جرت محاولات عدّة للتوسّط بين موسكو وكييف لوقف المعارك والانتقال إلى المحادثات السياسية لحلّ الصراع، إلا أنّ الطرفين رفضا التعاون مع هذه المبادرات وصعّدا المواقف وكثّفا المطالب، إذ ربّما اعتبر كلّ طرف نفسه منتصراً، فشعرت موسكو في بداية الحرب أنّها قريبة من السيطرة على كلّ أوكرانيا بما فيها العاصمة، قبل أن تقتنع بأنّ ابتلاع الدولة الأوكرانية غير ممكن من دون سلاح الدمار الشامل، ثمّ بعد أن شعرت كييف أنّها دفعت الروس إلى الوراء وأنّ قواتها ستستردّ كلّ شبر من أراضيها وبسرعة، بدأت تستوعب أنّ هدفاً كهذا ليس سهلاً حتى لو حصلت على الأسلحة الغربية.

الحرب

حتى الآن تقول كييف إنّ التحرير الكامل من الاحتلال الروسي والعودة إلى الحدود المعترف بها دولياً هما وحدهما اللذان سينهيان هذا الصراع. وتحذّر من أنّ أيّ تسوية مع موسكو ستشجّع على المزيد من عمليات الغزو، ليس من جانب موسكو فحسب، بل من جانب آخرين في أجزاء أخرى من العالم.

أمّا روسيا فترى أنّ المسألة ليست مع أوكرانيا إنّما مع الغرب الذي يريد تحطيمها ومنعها من استعادة المكانة الدولية التي تليق بحجمها وتاريخها وقدراتها، ولذا هي منخرطة في صراع أوسع مع الغرب وستقاتل ما دام ذلك ضرورياً.

 تُظهر الحرب في أوكرانيا ثمّ الحرب في غزة أنّ العالم ليس بخير

وتشترط أن تكون أوكرانيا محايدة تماماً، ومحدودة في قوّتها العسكرية، ومجبرة على الاعتراف بضمّ روسيا لجميع الأراضي المحتلّة، واتّباع السياسات التي توافق عليها موسكو فقط، وهو ما يعني تطبيق مبدأ “السيادة المشروطة”.

الحسم العسكري غير متاح

بناء على التباين الكبير في رغبات كلا الطرفين، فإنّ الخسائر الوخيمة قد تدفع بأحدهما إلى التراجع والقبول بشروط غير مرضية له. وحتى الآن لم يصل أيّ من الطرفين إلى نتيجة كهذه، وتالياً الحرب مستمرّة.

على الرغم من الاعتقاد السائد بأنّ إطالة أمد الحرب تصبّ في مصلحة كييف والغرب، فإنّ مسألة التمويل الغربي المستدام لأوكرانيا تبقى موضع شكّ، فالمؤشّرات تشير إلى أنّ الدول المموِّلة تُستنزف وبشدّة، خصوصاً مع استمرار الأزمة الاقتصادية العالمية، إلى جانب اعتقاد شعوب تلك البلدان أنّهم أولى بتلك الأموال.

لا يبدو الحسم العسكري حلّاً متاحاً حتى إشعار آخر، لذا مواصلة الحرب من دون أفق أو هدف ليست مستبعدةً، لا سيما أنّ الأمثلة التاريخية كثيرة عن حروب طالت لسنوات قبل الإقرار بعبثيّتها.

أمّا السيناريو الأخير، وهو الأكثر ترجيحاً، فأن تنتهي هذه الحرب إلى طريق مسدود مثلما انتهت الحرب الكوريّة عام 1953، وتركت الكوريّتين مفصولتين بمنطقة معزولة السلاح عند خطّ العرض 38. ومنذ ذلك الحين حتى يومنا هذا فشلت جميع المبادرات الدبلوماسية في إعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية والجمع بين سيول وبيونغ يانغ.

إقرأ أيضاً: الحرب الروسيّة الأوكرانيّة (1): سنتان هزّتا العالم

باختصار تُظهر الحرب في أوكرانيا ثمّ الحرب في غزة أنّ العالم ليس بخير، فإمّا أن يتداعى حكماء العالم وعقلاؤه إلى تأسيس “عصبة” جديدة للأمم تستند إلى مواثيق ومعايير مغايرة لتلك القائمة حالياً، وتأخذ في الاعتبار أنّ العالم قد تغيّر، وأنّه بات يحتاج إلى قواعد جديدة ملزمة في العلاقات بين الدول، وإمّا سيقود النظام العالمي الحالي إلى مزيد من الصراعات والأزمات والتفتّت والانقسام.

مواضيع ذات صلة

فلسفة الرّياض لـ”اليوم التّالي”

لا شيء يشي بأنّ حروب المنطقة آيلة إلى مآلات قريبة. تبدّدت في الساعات الأخيرة أعراض لإنهاء الحرب في لبنان، وتبدّد قبلها ما قيل عن مفاوضات…

الأردن: بين “الوطن البديل”.. والحصار الإيرانيّ

عمّان قبل التطوّرات الأخيرة في لبنان، وموجة الاغتيالات وبدء العدوان الإسرائيلي، قام الزميل أمين قمّورية بجولة في الأردن للوقوف على حجم التغييرات والتحدّيات التي يواجهها…

تغيير التوقيت: ساعة إضافية من الشمس

سؤال: لماذا اعتمد العالم نظام تقديم الساعة في نهاية شهر ابريل– نيسان من كل عام؟ ثم تأخيرها من جديد في نهاية اكتوبر– تشرين الأول؟ الجواب…

وقف حرب لبنان: ركيزة الحاضنة العربيّة؟

لماذا يعطي بنيامين نتنياهو هدية لإدارة راحلة في وقت يسعى بما أوتي من تأثير إلى أن يخسر الديمقراطيون الانتخابات الرئاسية الثلاثاء المقبل؟ بعد الخيبة من…