مكر السياسة يطارد الفلسطينيّين المضرّجين

2024-02-19

مكر السياسة يطارد الفلسطينيّين المضرّجين

فلسطين تعاني من الحرب على جبهات كثيرة. ليس أوّلها جبهة غزّة، وليس آخرها مكرُ السياسة. فالمبادرات الكثيرة كلّها بلا أفق. كأنّ مهمتها أن تحمي إسرائيل وهي تقتل وتشرّد الفلسطينيين، وأن تشتري لبنيامين نتانياهو الوقت فقط.

لم يجرؤ أحد، لا دولة، ولا منظّمة، ولا جهة، حتى الآن على محاسبة أو فرض عقوبات أو حتى ضغوطات عمليّة على إسرائيل، لإجبارها على وقف حرب الإبادة المتواصلة التي تشنّها ضدّ الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية منذ نحو خمسة شهور.

بلغ عدّاد الموت مداه وأكثر وهو يدور على الفلسطينيين، قتلاً وتجويعاً وتدميراً وخراباً. وما انفكّ زعماء العالم ينشغلون في إعادة تدوير اقتراحات من مبادرات وحلول طالما لوّح بها أسلافهم على مدار عقود. وما لبثت أن استحالت زبداً كزبد البحار.

وحدها دعوى الإبادة التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية والتي لا يُعرف كيف ستنتهي. مختلف التحرّكات السياسية والدبلوماسية الدولية الأخرى تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى ضغوطات على المقاومة الفلسطينية لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. والمقابل هو وعود سياسية سمع الفلسطينيون أصوات طحنها على مدار عقود، وما رأوا عجينها أبداً.

ثمّة فجوة، بل حفرة كبيرة تتّسع يومياً، بين ما تقترحه الإدارة الأميركية، شريكة إسرائيل، والاتحاد الأوروبي. واقع غزة والضفّة المرير. بل الذي. يطال أيضاً مستقبل الفلسطينيين جميعاً. رغم أنّ الاتحاد الأوروبي رفع منسوب همّته أخيراً بحثاً عن حلول دبلوماسية قديمة جديدة.

الفلسطينيين

أميركا… السدّ المنيع لإسرائيل

صحيح أنّ الشعوب انتفضت متظاهرة في العواصم، أو لاهجة عبر وسائل التواصل بوقف العدوان ومنح الفلسطينيين حقوقهم. لكنّ ذلك لم يلحظ عند صنّاع القرار. ولم ينعكس عند الصحافة والإعلام المؤثّرين في الغرب، سوى تغيّر محدود.

حتى اللحظة لم تتمكّن مبادرات ومحاولات الدول العربية والإسلامية من تجاوز الدرع الحديدي الذي نصبته الولايات المتحدة. فهي تقف سدّاً أمام كلّ من يسعى إلى لجم إسرائيل. وتواجه من يمنعها من مواصلة ذبح الفلسطينيين حتى تحقيق أهدافها التي تدّعيها بتحرير أسراها وتدمير المقاومة.

بلغ عدّاد الموت مداه وأكثر وهو يدور على الفلسطينيين. وما انفكّ زعماء العالم ينشغلون في إعادة تدوير اقتراحات من مبادرات وحلول طالما لوّح بها أسلافهم على مدار عقود

ظلّت قذائف الجيش الإسرائيلي تدكّ ما بقي من علامات حياة لدى أهل غزة. واستمرّت نيران أسلحتها تقتل وتضغط بأقصى الجنوب في ظروف إنسانية كارثية لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً. بل إنّ التهديدات الإسرائيلية الأخيرة باجتياح رفح تفجّر احتمال ارتكاب مذبحة كبرى فيها.

معاناة الفلسطينيين لا تنحصر في ما تسبّبه أدوات الحرب والقتل التقليدية، بل تتعدّاها إلى محاولات معلنة وسرّية لتجاوز مطالبهم. سواء مطلب المقاومة في غزة بصفقة تبادل شاملة بعد وقف إطلاق النار ووقف العدوان. أو تلك المتعلّقة بحقّهم بدولة فلسطينية كاملة السيادة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم.

مبادرات… لا أفق

يمكن التعرّف على ذلك من خلال طبيعة الاقتراحات والمبادرات التي يتمّ تداولها منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول .2023). وكذلك من سلوك إسرائيل بل ومختلف الدول المنشغلة، لا سيّما الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، بالتوصّل إلى نهاية للعدوان.

ليس أدلّ على ذلك من سلسلة الاجتماعات الأمنيّة التي قادتها إدارة جو بايدن وأدارها مدير مخابراتها ويليام بيرنز. وذلك بمشاركة قطر ومصر وإسرائيل. وقد رفضت حكومة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو  الهدنة رغم الردّ الإيجابي الأخير من حركة حماس على مقترحات اجتماع باريس وموافقتها على هدنة طويلة (مع شروط)

وما زالت آفاق التوصّل إلى وقف إطلاق نار تصطدم بالتعصّب الإسرائيلي الرافض لمطالب المقاومة. وهو رفض يلقى تأييداً أميركياً غربياً أوروبياً، عكّرت صفوه تصريحات خجولة لم ترقَ إلى دعوات إلى وقف إطلاق النار.

منح إسرائيل الحقّ بالقتل

أقرّت هذه الدول لإسرائيل بحقّها في الدفاع عن نفسها. ومكّنتها مادّياً ومعنوياً من مواصلة قتل الفلسطينيين وتدميرهم ومصادرة ممتلكاتهم في كلّ من غزة والضفة. لكنّخت أنكرت على المقاومة الفلسطينية حقّها الشرعي في مقاومة الاحتلال. وأصرّت على التعامل مع الأمر على أنّه إرهاب مرفوض. بل إنّها لم تعبأ بالضغط على إسرائيل لإدخال المساعدات الإنسانية الضرورية إلى قطاع غزة. وأعطتها كامل الحرّية للتصرّف وفق ما تشاء.

معاناة الفلسطينيين لا تنحصر في ما تسبّبه أدوات الحرب والقتل التقليدية، بل تتعدّاها إلى محاولات معلنة وسرّية لتجاوز مطالبهم

في الضفة الغربية، لم يختلف الوضع كثيراً. وإن كان الضحايا أقلّ بكثير والدمار أقلّ منه في قطاع غزة. لكنّ هذه الدول لم تلتفت على الإطلاق إلى الحصار المتواصل على مدن وبلدات الضفة الغربية. ولم تعبأ بتحويلها من قبل الجيش الإسرائيلي إلى معازل وكانتونات مقطّعة الأوصال. يُسمح فيها للمستوطنين المدجّجين، الذين يكتفي الاتحاد الأوروبي بوصفهم بغير الشرعيين فقط، بقتل الفلسطينيين والتنكيل بهم ومصادرة أراضيهم. وطردهم منها على مرأى من الجيش الإسرائيلي وبحماية منه. ولم يتمكّن الاتحاد الأوروبي الذي ضخّ على مدار سنوات مئات الملايين في تطوير البنية التحتية، من منع الجيش الإسرائيلي من تخريبها وتدميرها خلال مداهماته اليومية لمدن وبلدات ومخيّمات الضفة الغربية.

تقويض السلطة… بحجّة إصلاحها

غضّت الإدارة الأميركية، ومعها الاتحاد الأوروبي، النظر عن إصرار إسرائيل على قرصنة أموال السلطة الفلسطينية المخصّصة لدفع رواتب موظّفيها. ولم تُبالِ باقتراح حلول تعجيزية خيالية لتحويلها. عدا عن مواصلة منع قرابة 200 ألف عامل من دخول إسرائيل والعمل فيها منذ السابع من أكتوبر الماضي. وتشديد القيود على تنقّل الفلسطينيين وبضائعهم وسلعهم في الوقت عينه. وتركت السلطة الفلسطينية عاجزة عن القيام بواجباتها الأساسية إزاء مواطنيها في الضفة وفي غزة أيضاً.

وهي السلطة ذاتها التي تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إصلاحها وتجديدها. كما جاء في مبادرتهما. لتكون جاهزة لتولّي إدارة قطاع غزة في اليوم التالي لذلك الذي تعلن فيه إسرائيل وقف عدوانها على الفلسطينيين. وقد تحوّل مصطلح اليوم التالي إلى وسيلة جديدة للضغط على الفلسطينيين. وذلك لإغرائهم مرّة أخرى بأنّ دولة مستقلّة تنتظرهم في إطار استعداد هذه الدول للدفع باتجاه تسوية حلّ الدولتين. وحلّ الدولتين هذا، الذي لا يعرف أحد ترجمة واحدة له، أعيد تدويره خلال الأشهر الأخيرة ويستثني طبعاً حركة حماس.

غضّت الإدارة الأميركية، ومعها الاتحاد الأوروبي، النظر عن إصرار إسرائيل على قرصنة أموال السلطة الفلسطينية المخصّصة لدفع رواتب موظّفيها. ولم تُبالِ باقتراح حلول تعجيزية خيالية لتحويلها

إخلاء المستوطنات… والقدس عاصمة فلسطين

أعدّت الولايات المتحدة، حسب ما نشرت صحيفة “واشنطن بوست”، مع عدد من الشركاء العرب، خطّة للتوصّل إلى اتفاق سلام. على أن يتضمّن جدولاً زمنياً ثابتاً لإقامة دولة فلسطينية. وقالت الصحيفة، نقلاً عن مسؤولين أميركيين وعرب، إنّ “مفتاح الخطّة وإعلانها سيكون التوصّل إلى وقف إطلاق نار مبدئي من المتوقّع أن يستمرّ ستّة أسابيع على الأقلّ”. وبيّن التقرير أنّ “الإعلان عن الدولة الفلسطينية قد يأتي في الأسابيع القليلة المقبلة”. وتتضمّن الخطة المقترحة خطوات رفضتها إسرائيل في السابق. بما في ذلك إخلاء العديد من مستوطنات الضفة، وإقامة عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية، وتوفير الأمن، والحكومات المشتركة للضفة وغزة.

إقرأ أيضاً: فلسطين: إيران دخلت بغياب العرب… فمتى العودة؟

خطّة تضاف إلى مجموعة أفكار ومبادرات أطلقتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية منذ الأسبوع الأول للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة. ولم يبلغ أيّ منها خطّ النهاية الذي يدفعه بعيداً يوماً بعد يوم إصرارُ إسرائيل على مواصلة هجومها ضدّ الفلسطينيين واكتفاء أصحاب السياسة بشحذ أذهانهم استعداداً لجولة إعادة تدوير أفكار جديدة.

مواضيع ذات صلة

إعلان بعبدا 2012: طريق لبنان نحو الاستقرار

لبنان و”حرب الآخرين”: كيف أصبح لبنان ساحة معركة للقوى الإقليمية والدولية خلال الحرب الأهلية التي استمرّت 15 عاماً؟ وما هي المخاطر اليوم؟ تقول أغنية شعبية…

متى يستوعب الحزب أن لا عودة إلى تجربة 2006؟

في حرب صيف عام 2006، انتصر الحزب على لبنان واللبنانيين. في حرب غزّة التي اندلعت في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، سُحق لبنان بعدما استخفّ…

عام غزّة يلد حروباً وفاشيّة

العدوان الإسرائيلي على غزة بدأ قبل سنة، ولا يزال مستمرّاً بوتيرة القتل والدمار ذاتها، ليمثّل أطول حرب في تاريخ الحروب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب منذ…

اغتيال “السّيّد”… أو “فائض القوّة الشّيعيّ”؟

لن يكون اغتيال الأمين العامّ للحزب عابراً أو حادثاً عرضيّاً في تاريخ الشيعة في لبنان، بل هو حدث سيلقي بأوزاره على الطائفة الشيعية لسنوات وربّما…