نحو سرديةٍ جديدةٍ للإسلام*: تغيير “رؤية العالم” (1/3)

مدة القراءة 15 د


يعاني المسلمون من سوء علاقاتٍ متفاقمٍ بالعالم، ما عاد متعلّقاً وحسْب باصطدام الإحيائيات والأُصوليات بنظام العالم؛ بل تعدّى ذلك إلى صعود ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تعمِّقُ عدم الثقة بهم من جانب شرائح واسعة في الرأي العام العالمي، وتُجرِّىءُ جهاتٍ إقليمية ودولية على استهدافهم في دينهم وديارهم، وفي المغتربات التي اندفعوا باتجاهها خلال النصف الثاني من القرن العشرين. بيد أنّ الاندفاع إلى المهاجر لا ينبغي أن يُنسِيَنا حقيقةً أو حقائق أُخرى. فثلث المسلمين في العالم اليوم، بل ومنذ قرونٍ، يتوطَّنون ويعيشون في دولٍ ومجتمعات أكثرياتُها غير إسلامية. وهكذا، فكما لا يستطيع المهاجرون العرب والمسلمون، كذلك لا نستطيعُ نحن الاستغناءَ عن العالم المختلف عنا في الدين والثقافة وأعراف العيش والتصرّف. ولذلك، فنحن لا نُريد ولا نقدِرُ على تقصُّد إخافة العالم، ولا على تعوُّد الخَوف والتوجُّس منه.

إنّ مصلحتنا وإنسانيتَنا تقتضيانا السعْيَ لكي نكونَ جزءًا من العالم، ومشاركين في نظامه وحاضره ومستقبله. وبالنظر للواقع الراهن؛ فإنّ ذلك ينبغي أن يدفعَ العلماءَ والعقلاءَ منا إلى تغيير “رؤية العالم” في أوساطِنا شرطاً ضرورياً للتأهُل للعيش في العالم ومعه. إنّ تغيير “رؤية العالم” كما هي مستقرةٌ إلى حدٍّ ما في فقه الدين قبل فقه العيش، تعني إقداراً وفتح آفاقٍ على خياراتٍ اُخرى لأمتنا ولديننا ولإنسانيتنا. وسيلاحظ البعض، كما فعلوا في الماضي القريب، أنّ التغيير ينبغي أن يكونَ مزدوجاً، أي من جانبهم ومن جانبنا. لكنّ هذا شرطٌ مُزيَّف. لأنّه يُوهِمُ أنّ الآخرين لا يتغيّرون، وأننا وحدنا المطالبون بالتغيّر. والواقع أنّ القلق يُساورُ الجميع، إنما هناك اجتماعٌ على قواعد أساسية، يحاول بعضُ شبابنا تحدِّيهَا باسم الدين. ولهذا التحدّي مستنداتٌ بعضُها موهومٌ، وبعضُها تأصيلي. أما الموهوم، فسَنَدُهُ اعتبارُ أنّ الناسَ قد جمعوا لنا، وأنّ هناك مؤامـرةً عالميةً على ديننا وأمتنا. وأما التأصيلي فهو العودةُ إلى الأصل القرآني وبتأويلٍ معيَّنٍ قد تكونُ له سوابق في التاريخ وفي فهم النصّ، للردّ على التحدي المفتَرَض! وفي هذا الموطن والمنزع تظهر مشكلتنا في أن نتحدَّى العالم بالقـرآن، فنُسـيءَ إليـه وإلى أنفُسِـنا، وإنما المطلـوبُ التأهَّلُ والاقتدارُ على وضْع القرآن في العالم أو إعادة عرضه عليه في سرديةٍ جديدةٍ تقتضيها رؤيته باعتباره كتابَ هدايةٍ ونور، وليس سيفاً مسلطاً علينا قبل أن يكونَ على العالم.

 

ما هو الإسلام، أو ما هو الدينُ الإسلامي؟

الدينُ ركنان أو أصلان: الكتابُ والسنةُ، والجماعةُ المتلقيةُ التي تعيش بهما ومعهما، ويجري تزمينُهما من جانب علمائها ومفكريها في المكان والوقت دون أن يُخِلَّ ذلك بتعاليهما، وسريانهما في الزمان. وعن هذه العمليات الزاخرة والجارية في الزمان، يتكوّن فقهان: فقهٌ للعيش، وفقهٌ للدين. وهما يظهران بشكلٍ مُتوازٍ؛ بحيث يشكّل الدينُ فلسفةً ورؤيةً للاجتماع الإنساني الإسلامي وغيره من جانب المسلمين، وهو ما صار يُعرف لدى الفلاسفة المُحْدَثين: برؤية العالم: كيف نرى الخير والشر، والحق والباطل، والحسن والقبح، وكيف نرى إلى العلائـق فيما بيننـا، وإلى العلاقـات مع العالم أديـاناً وأُممـاً ومشتركـاتٍ ومفتـرقات فـي الوجـود والمصـائر. وعلى سبيـل المثـال، فـإنّ هذه الــرؤية الملحميـة الشامـلة يراهـا الحسـن البصـري (- 110هـ) عندما يقول: لا دينَ بعد دينكم، ولا أُمة بعد أمتكم، أنتم تسوقون الناسَ، والساعةُ تسوقُكم!

إنّ مصلحتنا وإنسانيتَنا تقتضيانا السعْيَ لكي نكونَ جزءًا من العالم، ومشاركين في نظامه وحاضره ومستقبله. وبالنظر للواقع الراهن؛ فإنّ ذلك ينبغي أن يدفعَ العلماءَ والعقلاءَ منا إلى تغيير “رؤية العالم” في أوساطِنا شرطاً ضرورياً للتأهُل للعيش في العالم ومعه

أما فقه العيش، فالمعنيُّ به ترتيباتُهُ وتراكيبُهُ الاجتماعية وألسنتُهُ. وقبل ذلك وبعده قيَمُهُ المشتقةُ من الدين وأفهامِه، ومن المصالح وتكييفاتِها. وإلى التوحيد باعتباره القيمة الأسمى، هناك القيم التي هي أسماءُ الله وصفاتُه، وفضائل العيش أو أخلاقه السلوكية والعملية مثل الرحمة والمساواة والعدل والتعارُف والخير العام. وهناك مفهوما المعروف والمنكَر اللذان تتمحورُ من حولهما حياةُ المجتمع، وهما يتداخلان مع القيم، ويحكمان مفاهيم الخير والشر، ولهما نصيبٌ كبيرٌ أو النصيب الأكبر في فقه العيش؛ بل وفي الجانب العملي من أخلاق العمل والتصرّف.

على مشارف الأزمنة الحديثة، شهد فقه العيش اختلالاتٍ تناولت أخلاقَ السلوك والتصرّف، كما تناولت أعمالَ الدولة والأنظمة السياسية، وتعاظم التأثر بها، والحطُّ عليها. وقد اختلفت الأنظارُ في أسباب ذلك. فقد كان هناك مَنْ رأى أنّ هذا الاختلالَ إنما حدث بفعل صدمة الغرب، ولا علاقةَ له بالأُصول الدينية والقيمية. ولذلك، اتجه الرأي إلى تجديد أو تغيير الجانب السياسي/ العسكري من فقه العيش، لمواجهة الأخطار. ومضى الطهطاوي مَثَلاً قُدُماً فرأى ضرورةَ الإصلاح والتغيير في مجالات الزراعة والتجارة والصناعة. وأبى أن يكونَ هناك اختلالٌ في فقه الدين أو فقه الأصول وتجلّياتها الاجتماعية. بينما لم يطْلُبْ خير الدين التونسي من الفقهاء ورجال العلم الديني غير تقبُّل الجديد. وقد استند في هذا المطلب إلى ضرورات المصالح التي كان الطهطاوي قد سمّاها المنافع العمومية. وعنده تُطِلُّ المنافع العمومية على الوعي بالمصالح العامة، إنما ليس من الجانب الديني. في حين رأى التونسي أنّ لهذا الاختلال مساساً بفقه الدين. ولذلك، اعتبر أنّ إعمالَ أصل المصالح تارةً، والسياسة الشرعية تارةً أُخرى، كافيان في الإقبال على استحداث المؤسسات، دون أن يعني ذلك المساس بالفقه الديني العام. إنما منذ ثمانينات القرن التاسع عشر اتجهت كلُّ الجهود إلى التجديد في فقه الدين ليتساوقَ مع التجديد في فقه العيش. واتخذ ذلك كله عنوان إزاحة التقليد الفقهي والعقدي، وفتح باب الاجتهاد.

وفي الرؤية الإسلامية التقليدية أو الكلاسيكية؛ فإنّ فقه الدين كان هو الذي يحكم ويضبط فقه العيش؛ في حين أدّت ضرورات التغيير في فقه العيش وترتيباته قبل قرنٍ ونيف، إلى أنّ تتحكم متغيّرات العيش وترتيباته في فقه الدين؛ باتجاه دفعه للتلاؤم معها. وقد تسبَّبتْ وقائع خمسين عاماً وأكثر من الهجوم على التقليد في تعطُّل أو تعطيل آليات التفاعل والتنسيق بين فقه الدين وفقه العيش، بحيث انهار فقه الدين التقليدي في النهاية، وما أمكن الاصطلاح على بدائل له أو خيارات أُخرى. ويرجع ذلك لعدة أسباب: أنّ جزءًا من الهجمات على التقليد كان لأسباب اعتقادية ما كان يمكن التنازل عنها في نظر أتباعها. وثانياً لأنّ الإصلاحيين ما كانوا متحدين؛ بل كان منهم السلفيون، ومنهم التحديثيون، ومثالاهما شاسعا الاختلاف. هؤلاء يريدون العودة للكتاب والسنة بقصد التأصيل في مواجهة التقليد والحداثة. وأولئك يريدون العودة للكتاب والسنّة لاستكشاف تأويلات جديدة للقرآن تسمح لهم بأسلمة الحداثة الاوروبية أو التلاؤم معها. والسبب الثالث عجز الآليات والأدوات الاجتهادية التي استعان بها الإصلاحيون بقسميهم عن استحداث مناهج جديدة لقراءة النصوص والاستنباط منها غير آليات وأدوات أصول الفقه الكلاسيكية. ولذلك، ظلّت أُطروحات الإصلاحيين دعاوى ما اكتسبت الشرعنة باعتبارها أقيسة صالحة بحسب جمهور الفقهاء القدامى، أو باعتبارها مصالح مرسلة بحسب المالكية. وعندما نشر محمد الطاهر بن عاشور أواخر الأربعينات كتابه “في مقاصد الشريعة”، ما جرى الاعترافُ به، وقال كثيرون فيما بعد إنّ فيه تجاوُزاتٍ للنصوص، وتسليماً بأوهام حداثية.

شهد فقه العيش اختلالاتٍ تناولت أخلاقَ السلوك والتصرّف، كما تناولت أعمالَ الدولة والأنظمة السياسية، وتعاظم التأثر بها، والحطُّ عليها. وقد اختلفت الأنظارُ في أسباب ذلك. فقد كان هناك مَنْ رأى أنّ هذا الاختلالَ إنما حدث بفعل صدمة الغرب، ولا علاقةَ له بالأُصول الدينية والقيمية

بيد أنّ هذا كلَّه لا يعني أنه وطوال القرن العشرين ما كانت هناك جهود اجتهادية، وجهود للإصلاح والتجديد. وقد قسمتها إلى ست مراحل وفترات: مرحلة مجلة الأحكام العدلية العثمانية، ومرحلة محمد عبده ومدرسته، ومرحلة محمد إقبال ومدرسته، ومرحلة السنهوري ومدرسته، ومرحلة مالك بن نبي ونظرية الحضارة، ومرحلة المصالح ومقاصد الشريعة.

في المرحلة الأولى قام فقهاء العثمانيين ومن أجل التلاؤم، أي تحويل الموروث الفقهي إلى قانون، باجتراح مسألة تقنين الفقه (الحنفي) على مثال القوانين المدنية الأوروبية وبخاصةٍ الفرنسي والبلجيكي، فظهرت مجلة الأحكام العدلية. بيد أنّ الأمر تطور بعد ذلك مع ظهور الإحيائيات، فصار تقنين الفقه تقنيناً للشريعة بعد الأربعينات من القرن العشرين.

أما في مرحلة محمد عبده وجيله فقد سادت فكرتان: فكرة السُنَن في قيام الحضارات وانقضائها، وفكرة إصلاح المؤسسات الدينية والوقفية. كان تشخيصه وتشخيص معاصريه أننا نعاني من انحطاطٍ طويل الأمد صار أزمةً حضارية. وللنهوض الحضاري الذي يتضمن نهوضاً سياسياً واجتماعياً ودينياً سُنَن أو قوانين، ولا يحدث بصورةٍ عجائبية، فينبغي بعد التشخيص وبالمقارنة مع النهوض الأوروبي من السير قُدُماً في استحضار أسباب وآليات وعوامل النهوض. وما اعتبر محمد عبده الفصل بين الدين والدولة من دواعي النهوض، كما قال في ردّه على فرح أنطون. لكنه رأى أنّ المؤسسات الدينية والمحاكم الشرعية والأوقاف جميعاً في حالة انحطاط، لخضوعها لأهواء السلطات، ولأنها تجمدت على التقاليد القديمة. وقد اعتقد أنه بالعمل على أسباب النهوض في الأمة بالتعليم والتجديد السياسي، واستقلال المؤسسات الدينية، يمكن أن يجري من ضمن النهوض المرتَقَب تجاوز التقليد العقدي والفقهي وإنتاج أجيال جديدة من العلماء في مؤسساتٍ تتسم بالاستنارة والصلاح.

ولو أقبلْنا على دراسة المسائل التي نجح عبده في إحقاقها لربما لم نجد الكثير. لكنه نجح في بعث روحٍ وثابةٍ دافعة باتجاه النهوض ومن قلب الإسلام وثقافته. بيد أنّ مدرسته أو أعلامها ورغم بقاء الفكرة العامة بشأن النهوض قوية في أوساطهم؛ فإنّ الأولويات لدى جيل المدرسة الثاني اختلفت بل تناقضت. فاتجه البعض لمسألة فصل الدين عن الدولة لمنع الدين من الاعتداء على الدولة المصرية الدستورية الجديدة (علي عبد الرازق وطه حسين ومنصور فهمي وآخرون). كما اتجه البعض الآخر مثل رشيد رضا اتجاهاً معاكساً بإبراز الدور الذي ينبغي أن يكون للدين في الدولة الوطنية الجديدة. في حين مضى طرفٌ ثالثٌ باتجاه إدانة محمد عبده ومدرسته باعتبارهما ماسونيةً وتغريباً. وأعانت على هذا الانقسام ظروف الحرب الأولى وما بعدها حيث اكتملت سيطرة المستعمرين على أقطار العالم الإسلامي.

إنّ المشروع الآخر أو الثالث بعد مشروع محمد عبده هو مشروع المفكر محمد إقبال، في كتابه: “تجديد التفكير الديني في الإسلام“. وقد تميّز إقبال، الذي درس بألمانيا وإنجلترا، بتوسيع الأُفق عندما ضمّ إلى التأويلية في تأمّل النصوص الدينية من وجهة نظر رؤية العالم: اعتبار التاريخ أو تجربة الأمة في التاريخ، ليكون ذلك كله أساساً في التشخيص، وفي اجتراح المخارج. ومن ضمن هذا التوسيع، النظر إلى الحركات الإسلامية الجديدة بإيجابية، باعتبارها جميعاً محاولاتٍ للتجديد والتصدّي للمشكلات التي أتت من مواريث القرون أو من غزو الغرب للعالم. لكنّ إقبال النهضوي والتجديدي وقف للمرة الأولى أمام عقبةٍ كأداء، صارت همَّ الهموم على مدى العقود اللاحقة وحتى اليوم، وهي عقبة الهوية. فالمسلمون بموازين العدد (ورغم أنهم حكموا الهند قروناً) ظلّوا أقلية فيها. ووسط يقظة الروح القومية في الشعوب المستعمرة، وظهور المؤتمر الهندي الذي تزعمه غاندي بفلسفته اللاعنفية؛ فإنّ قلقاً عميقاً ساور المسلمين السادة سابقاً، على دينهم وعلى حرياتهم، رغم مساعي غاندي الكبيرة للطمأنة والمشاركة. ولذلك، فإنّ محمد إقبال المتوسع في تأويل النصوص، والفاهم للتاريخ والحضارات؛ كان يريد إنشاء دولٍ مستقلةٍ عن الاستعمار، وتتمتع بميزات الحداثة؛ لكنها إسلامية. وهناك جدليةٌ شديدةٌ ومعقَّدة في تفكيره تتناسبُ وثقافته الفلسفية الواسعة، لكنه صار معتبراً الداعية الأول لإنشاء باكستان المنفصلة، رغم وفاته عام 1938. لقد نُسيت تجربةُ إقبال في ربط النصّ وتأويلاته بالتاريخ، وبقي له وعنه إبداعه الشعري، وإدراكه لأهمية الهوية والخصوصية في الوعي والمصائر. وهو الأمر الذي تسلّمه أبو الأعلى المودودي زعيم الجماعة الإسلامية، وعلى يديه تطورت أطروحة الدولة الإسلامية، التي مضت باتجاهاتٍ ما فكر بها إقبال بالتأكيد.

أما المشروع التجديدي الرابع، فهو مشروع الفقيه القانوني الكبير عبد الرزاق السنهوري. وكان قد درس القانون بفرنسا، وكتب أُطروحته عن الخلافة عام 1926. ومع أنه كان قد اقترح الشريعة قانوناً للدولة الوطنية الجديدة بعد التقنين وإجراء الإصلاح الجذري عليها؛ فإنه وطوال أكثر من ثلاثين عاماً سعى لتلاؤميةٍ وامتزاج بين القانون المدني وموروثات الفقه الإسلامي. وكان سعيداً بهذه التوفيقية التي اعتبرها استعادةً للثقة بالنفس وبالدين، وإثباتاً للكفاية والإبداع من جانب الفقهاء المسلمين القُدامى. وقد تأسست على يديه مدرسةٌ من القانونيين المصريين وغيرهم ظلّت تؤثر حتّى الثمانينات من القرن الماضي في التعليم بالجامعات، وفي التأليف في مسائل إدارية ودستورية لها علاقة بالتاريخ، ولها علاقة بالفقه القديم.

طوال القرن العشرين كانت هناك جهود اجتهادية، وجهود للإصلاح والتجديد. وقد قسمتها إلى ست مراحل وفترات: مرحلة مجلة الأحكام العدلية العثمانية، ومرحلة محمد عبده ومدرسته، ومرحلة محمد إقبال ومدرسته، ومرحلة السنهوري ومدرسته، ومرحلة مالك بن نبي ونظرية الحضارة، ومرحلة المصالح ومقاصد الشريعة

بيد أنّ مشروعه التلاؤمي الواسع، الذي كتب فيه كثيراً، دخلت عليه تأويلاتٌ في حياته ما اعترض عليها هو، من جانب الذين فصلوا فصلاً قاطعاً بين الشريعة الإلهية، والشرائع الوضعية. ثم جرى فهم آراء السنهوري أو مسالكه في الاجتهاد باعتبارها دالّةً على اعتبار شرعية الدولة والنظام الجديد متعلقةً بتحوّل الشريعة إلى قانونٍ للدولة. فازدهرت مشروعات تقنين الفقه، وصار الفقه المقنّن في موادّ على طريقة مجلة الأحكام العدلية العثمانية هو الشريعة ذاتها، وصار تطبيقها ضرورياً لبقاء الدين وشرعية الدولة، وكلّ ذلك ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن العشرين. وهكذا، فإنّ المصير الذي آل إليه مشروع إقبال النهضوي، آل إليه أيضاً مشروع السنهوري على أيدي الحزبيين الإسلاميين دُعاة الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة!

والمشروع التجديدي الخامس، هو مشروع المفكر الجزائري مالك بن نبي. وهو أكثر من محمد إقبال يطرح نظريةً في الحضارة. وهو متأثر برؤية شبنغلر في التدهور الحضاري الغربي، ورؤية أرنولد توينبي في التحدّي والاستجابة الحضارية. لكنه ينطلق، مثل المشارقة الآخرين، من مقولة الانحطاط في حقبة ما بعد عهد الموحِّدين، ومقولة القابلية للاستعمار نتيجة الاختلال الذي حصل بين عناصر الحضارة في عالم الإسلام. ومع أنّ الاختلال بحسبه ذهني وتفكيري؛ فإنه يثق باستراتيجيات عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ويريد إقامة متَّحد حضاري مع الحضارات الشرقية الناهضة بمشروعات سياسية تحرّرية، ويعتبر العرب عبر الثورة المصرية، شركاء فيها. ورغم تضاؤل آماله بثقافة “المناعة” العالمثالثية بعد منتصف الستينات، وخوفه من انفجار العنف بداخل الإسلام؛ فإنه ما تدخل في عمليات مكافحة التقليد، أو القطيعة مع الموروث، والتي صارت زاداً ضخماً في حقائب المثقفين العرب ومشروعاتهم الشاملة.

إقرأ أيضاً: هذه هي الأخطار على ديننا

وما تزال كتاباته، هو الذي توفي عام 1975، لها شعبيتها بين المتديّنين من الشبان والكهول باعتبار نزعتها تحديثية معارضة للغرب وغزوه الفكري والثقافي. بيد أنّ الاهتمام العملي أو النزوع التقني والتطبيقي، الذي سيطرت فيه ثقافة الإحيائيات والأُصوليات، منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، نحّى تلك الكتابات التأملية عن دائرة الأولويات  لصالح مقولة تطبيق الشريعة، وإقامة الدولة، ومصارعة العالم.

ويبقى المشروع السادس أو المرحلة السادسة من مراحل التجديد الديني أو تغيير رؤية العالم من طريق خطابٍ جديد. وأعني بذلك مقولة مقاصد الشريعة، وضرورياتها الخمس، أو المصالح الضرورية. وقد كانت لها مصادر ومصائر ووظائف مختلفة خلال أكثر من قرنٍ من الصعود والخفوت بعد أن دعا إليها الطاهر بن عاشور في الأربعينات. وهي عندما طُرحت خلال العقود الثلاثة الماضية بعد بن عاشور وعلاّل الفاسي صارت لها غاياتٍ تواصُلية؛ وبخاصةٍ من جانب الكبار وبخاصةٍ العلاّمة الشيخ عبدالله بن بيه، لقد استخدمت في الثمانينات والتسعينات في إنجاز إعلانات إسلامية لحقوق الإنسان بقصد المشاركة في القيم العالمية التي ظهرت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فنحن نملك – بحسب مفكّري وفقهاء المقاصد – قيماً ومبادئ نحن مُلزَمون بها في ديننا، وملتزمون بها تُجاه العالَم. وصحيح أنّ بعضَ الذين كتبوا في المقاصد كانوا يريدون تشجيع الاجتهاد أو الفخار بالتفوّق والخصوصية. بيد أنّ التوجه الرئيس هدف للمرّة الأولى لفتح منفذٍ وأفق جديد للاجتهاد والنهوض، وللتفكير في علاقاتٍ أُخرى مع العالم غير علاقات الحرب والصراع، بل صارت فكرة المقاصد أو رؤيتها ظاهرةً في قلب خطابٍ جديدٍ للسلام والتعاون والتصالح من جانب المسلمين مع البشرية ومع نظام العالم وإعلاناته. وسنعود لذلك.

 

*أصل هذه الأُطروحة، محاضرة أُلقيت بالمؤتمر الرابع لـ”منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” في أبو ظبي، في 12 كانون الأوّل 2017. وقد أكملتُ كتابتها بعد الأحداث الفرنسية المرعبة في العشر الأواخر من شهر تشرين الأوّل 2020.

 

في الحلقة الثانية: نحو سرديةٍ جديدةٍ للإسلام: لماذا فشل الإصلاح والتجديدة؟ (2-3)

مواضيع ذات صلة

أسئلة إيرانيّة وجوديّة بعد الضّربة الإسرائيليّة وانتخاب ترامب

خمسة أسئلة حاسمة، فرضتها الضربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران، لم تكن مطروحة بهذه الحدّة من قبل. وهي ليست أسئلة تتعلّق بالتكتيكات والمناورات بقدر تعلّقها بجوهر…

إيران خسرت “قاعدتها المتقدّمة”… وباتت “في المواجهة”

مهما قيل ويُقال عن الحزب باعتباره القوّة التي لا تُقهر والتنظيم الذي لا يُخترق أمنيّاً على الرغم ممّا أصابه من أهوال وصلت إلى درجة محو…

أنقرة – موسكو: الشّدّ والجذب السّوريّ؟

صدر عن القيادات السياسية التركية والروسية في الآونة الأخيرة تصريحات متناقضة حول ملفّات ثنائية وإقليمية مشتركة تعني الطرفين، الشقّ السوري فيها كانت له الأولويّة دائماً…

ترامب عن إيران ولبنان: كلام ممنوع من النّشر

قبل 72 ساعة من فتح صناديق الاقتراع في أميركا، مرّ ترامب مرور الكرام في ذلك المطعم في ديربورن، في الضاحية الجنوبية لمدينة ديترويت. وقف موزّعاً…