الثورة “بريئة” من الانهيار…ومُخترعيه!

مدة القراءة 7 د


عندما صبّت أعباء الضريبة على القيمة المضافة على كاهل الطبقة المتوسطة وما دونها في اجتماع مجلس الوزراء في 17 تشرين الأوّل 2019، كان الشارع نتيجة طبيعية في وجه القرارات الاعتباطية الصادرة عن الطبقة الحاكمة. وفي ذكرى مرور العام الأول على الانتفاضة التشرينيّة، يمكن القول إنّ هذه السلطة لم تكفّ عن التعدّي على المواطن. ومع ذلك، انطفأت الثورة. انخمدت وكأنها لم تشتعل يوماً. ذهبت ببساطة من دون أن تحقّق شيئاً. ولعلّ إنجازها الأهمّ، كان كشف التجاوزات التي قامت بها الطبقة السياسية المتعاقبة على الحكم بالتعاون مع المنظومة المصرفية.

إقرأ أيضاً: الغضب الشعبي انفجر: لا سلمية بعد الآن

هكذا، نجحت الثورة في إفقاد هذه المنظومة “الثقة”، بعدما فضحت كيف اتبعت نهج الـ Ponzi scheme (هرم بونزي)، وأوقفت التدفّقات المالية التي قامت عليه. وعلى الرغم من أنها لم تتمكّن من تغيير النظام، ولم تستطع تصحيح المسار الانحداري للاقتصاد، ولم تنجح بتحديث القوانين، وتغيير الأيديولوجيات العمياء، وتحرير المتحزّبين والمستزلمين، والحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، إلا أنّ رمي مسؤولية الأوضاع النقدية عليها…يعتبر جناية.

ومن راقب الوضع النقدي خلال الأعوام الخمسة الأخيرة عن كثب، كان يعرف أنّ الانهيار وشيك، خصوصاً أنّ الاقتصاد المالي الكلّي كان قائماً على اللوبي المصرفي، المهيمن على النظام المالي، والذي شكّل أداة وحيدة لتدفّقات رؤوس الأموال بإشراف البنك المركزي وتوجيهاته المثيرة للجدل في غالبية الأحيان

قبل عام من اشتعال الثورة الشعبية، تمحور النقاش الحكومي – البرلماني حول فرض ضرائب جديدة من دون إظهار ارقام التحصيلات السابقة، وتلك المرتقبة، وكيفية صرف إيرادات هذه الزيادة. هذا الأمر أنذر بزيادة الـ TVA على أساس سنوي. وكانت النتيجة المحتّمة هي استنزاف القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة، بهدف تسديد فواتير خدمة الدين العام بلا معالجة فعلية لمكامن الهدر والفساد.

مَن كان يعمل على مشاريع الموازنات، يدرك تماماً أنّ وضع سقف للعجز لم يكن ممكناً، وهو أيضاً يعلم أنّ اللجوء إلى الضرائب باعتبارها نقطة إصلاح وحيدة في حالة الانكماش الاقتصادي، خطوة ناقصة قادرة على أن تسبّب الكساد، وأن تشلّ النمو وتدفع بالشعب في النهاية إلى الثورة، وربما أكثر.

ومن راقب الوضع النقدي خلال الأعوام الخمسة الأخيرة عن كثب، كان يعرف أنّ الانهيار وشيك، خصوصاً أنّ الاقتصاد المالي الكلّي كان قائماً على اللوبي المصرفي، المهيمن على النظام المالي، والذي شكّل أداة وحيدة لتدفّقات رؤوس الأموال بإشراف البنك المركزي وتوجيهاته المثيرة للجدل في غالبية الأحيان. أما السياسة النقدية الوحيدة التي قدّمها مصرف لبنان، فتمثّلت بالحفاظ على نظام سعر صرف ثابت لليرة اللبناني طوال 27 عاماً، مع الإشارة إلى أنّ اعتماد هذه المنهجية لأكثر من 3 سنوات (بحسب التجارب العالمية لسياسة الدعم) ليست استراتيجية سليمة لما تستنزفه من احتياطات بالعملات الاجنبية. إلى ذلك، تورّط مصرف لبنان في لعبة تمويل عجز الدولة (مخالفاً بنود قانون النقد والتسليف)، فاعتمد بنية تراكميّة لمعدّلات الفائدة. بمعنى أبسط، رفع مصرف لبنان معدّلات الفائدة على الدولار الأميركي لاجتذاب الودائع عبر القطاع المصرفي من الجاليات اللبنانية في الخارج ومن مستثمرين أجانب، للمساعدة على تمويل العجز المزدوج، أي عجوزات الحسابات الجارية المتواصلة وعجوزات الميزانية. إلى ذلك، عمد البنك المركزي إلى شراء سندات الخزينة الداخلية كما والخارجية، فتكبّد وحيداً خسائر فروقات نسب الفوائد التي كانت أعلى من تلك التي حدّدتها السوق.

كلّ ذلك يعني أنّ مسؤولية ما نحن فيه اليوم لا تقع على الثوّار المنتفضين بوجه من أفقرهم وجوّعهم، بل إنها تصبّ: 

– أولاً على عاتق الدولة التي لم تبنِ خطة اقتصادية وماليّة شاملة.

– وثانياً على كاهل مصرف لبنان الذي اتّبع سياسة نقديّة غير ملائمة. عدا عن أنّ تدخُّل “المركزي” المُزمن ومسارعته لإنقاذ الحكومات المتعاقبة كلما احتاجت أموالاً لتغطية تخبيصاتها، قَطَع الطريق أمام الإصلاح.

– وثالثاً على السلاح المتفلّت الخارج عن إمرة السلطة اللبنانية، وعلى رأسه سلاح حزب الله، الذي ساهم في انتزاع الثقة من لبنان وشدّ الخناق عليه دولياً.

وفي خضمّ كلّ ذلك، اقتصر دور الأحزاب والقوى السياسية على التبرّؤ من المعالجات المطروحة بشأن الأوضاع الاقتصادية، فتنصّلوا من كلّ شيء، ولم يبذلوا ولو جهداً واحداً لإقرار خطة إنقاذية جدّيّة تضمن تنفيذ “الإصلاحات” التي بُحّ صوت ممثّلي صندوق النقد ومعهم المجتمع الدولي والدول الصديقة ومجلس التعاون الخليجي لإنجازها.

حتى اللحظة، لم تفهم المنظومتان السياسية والمالية خطورة الوضع. ويبدو أنّهما تظنان المجال لا يزال متاحاً على غرار المرات السابقة، لتفادي الأسوأ بقليل من الاستدانة والهبات والتعاطف الدولي

الاقتصادي الدكتور روي بدارو يقول لـ”أساس” إنّ “تجريم الثورة وتحميلها مسؤولية الانهيار الاقتصادي خطيئة. يحمل هذا الاتهام في طيّاته محاولة إنكار لكلّ الاقترافات التي أرّختها السنوات الماضية، وتحويل أصابع الإدانة من الجلّاد إلى الضحية. فالدولة المتهوّرة تخلّت بنفسها عن مداخيلها، وأفرطت بالانفاق. وهي بذاتها، استهترت بسيادتها، فأهملت حدودها البحرية والبرية والجوية. وهي أيضاً من قام بتحريف أنظار شعبها عن الواقع المالي والنقدي الذي كان يراكم الغيوم السوداء، فكان التعاطي مع مستويات الدين العام غامضاً. لذا، تتحمّل مسؤؤلية هذا الانهيار الكبير كلّ الجهات والأحزاب والمجموعات الفاعلة سياسياً، والتي توالت على السلطة واستفردت فعلياً في الحكم بالتكافل والتضامن”.

ويصيف بدارو: “بعد تشرين الأوّل 2019، بات مستقبل الاقتصاد يرتكز الى مؤشّرَين:

1- تقلّبات سعر صرف الليرة مقابل الدولار الذي أصبح شغل الناس الشاغل، فطغى على واقع انهيار الناتج القومي (GDP)، والذي سيسجل أواخر العام الجاري تدهوراً من 52 مليار دولار إلى 20 ملياراً لنحو 5 ملايين نسمة. أي إنّ لبنان بات عمليا في خانة الدول الفقيرة بعدما استقرّ لسنوات في مكانة الدول المتوسطة، نسبة إلى الناتج القومي.

2- نسبة الهجرة، التي بدأت على شكل بطالة قابلة للتحمّل قبل أن تخرج عن السيطرة. وإذا استمرّ الوضع على هذا المنوال، فمن المتوقع أن يهاجر أكثر من مليون لبناني بحلول العام 2022، وهذا الرقم مخيف خصوصاً أنّ كلّ الخطط المطروحة لم تتطرّق إلى القضية الأهم اقتصادياً، وهي صعوبة خلق نمو داخلي وسبل تأمين عوامل تطويره.

حتى اللحظة، لم تفهم المنظومتان السياسية والمالية خطورة الوضع. ويبدو أنّهما تظنان المجال لا يزال متاحاً على غرار المرات السابقة، لتفادي الأسوأ بقليل من الاستدانة والهبات والتعاطف الدولي. هذا التعويل لن يجدي نفعاً هذه المرّة. فالأزمة الرئيسية تتمحور حول مكانة لبنان ودوره الاستراتيجي في ظلّ وجود حزب الله. وإذا لم يُحقّق الاقتصاد المحلي النموّ المطلوب عبر نظام اقتصادي حرّ وعادل بالفعل، وليس بالنظريات، يضمن المساواة، ويؤمّن الفرص المتوازية للجميع، فيحفّز كلّ فرد للتقدّم والتطوّر (بعدما تهالك نظامنا الاقتصادي بفعل الاحتكار والتمركز)، وإن لم يُبنَ لبنان الحرّ على كافة الأصعدة، وتتمّ الإصلاحات البنيوية، فذلك يعني أننا نسير ما بين مخطّطين لا ثالث لهما: إما أن يُفرض مشروع حزب الله ومن يدور في فلك شرقاً، أو أن تكون الأفضلية لمشروع القوى السياسية السيادية بمشاركة فعّالة وفاعلة من المجتمع الدولي لإطلاق “لبنان الجديد”. وفي الحالتين، ما ينتظرنا صعب وقاتم أكان عبر طرح اللامركزية الموسّعة، وصولاً إلى الفدرالية”.

مواضيع ذات صلة

17 تشرين: خروج الشباب على الولاء للزعماء

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

سوريّة – كرديّة: 17 تشرين جعلتني “لبنانية”

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

بوجه من انتفضوا: المناهبة”(*) الخماسيّة؟ (2)

تحلّ الذكرى السنوية الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجوديّة متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في الحلقة السادسة ينشر “أساس” مقتطفات من فصل…

في انتظار تجدّد “يوفوريا” 17 تشرين

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…