بوجه من انتفضوا: المناهبة”(*) الخماسيّة؟ (2)

مدة القراءة 7 د

تحلّ الذكرى السنوية الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجوديّة متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث.

في الحلقة السادسة ينشر “أساس” مقتطفات من فصل في كتاب وثائقي بحثيّ أعدّه خالد زيادة ومحمد أبي سمرا وفريق من الباحثين والصحافيين المتابعين، يُنشر قريباً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في بيروت، وعنوانه “انتفاضة 17 تشرين في لبنان: ساحات وشهادات”. وبعد الحلقة الأولى أمس، هنا الحلقة الثانية.

 

سيطرة حزب الله

أدّى فشل الثورة السورية وقتال “حزب الله” منذ العام 2012 إلى جانب نظام بشار الأسد، وكذلك ما سُمّي “التسوية الرئاسية” وانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في العام 2016، أدّت هذه الحوادث والمسارات إلى نتائج بارزة في الحياة السياسية اللبنانية الداخلية:

– تفكّك قوى 14 آذار، تشرذمها وانحلالها.

– استقواء معسكر 8 آذار: “حزب الله” و”حركة أمل” والتيار العوني. وهذا ما برز جليّاً في نتائج انتخابات 2018 النيابية التي حصلت فيها قوى 8 آذار على أكثريّة نسبية في البرلمان.

– بروز “حزب الله” بفائض قوّته العسكرية وتماسك عصبيّته الأهليّة والجماهيرية داخل الطائفة الشيعية، فصارت تهابه الجماعات اللبنانية وزعماؤها كقوّة مهيمنة على القرار السياسي والأمنيّ في الدولة. وهذا مكّنه من لعب دور يشبه دور النظام السوري في “نظام الوصاية” السورية، بإمرة النظام الإيراني منفرداً.

– اشتداد منازعات القوى السياسية الأهليّة وزعمائها وأجهزتها على تقاسم النفوذ والهيمنة والتوزيع في مؤسّسات الدولة والحكم (الحكومة) ومناصبها، وإدارتها لإعالة النافذين في تلك القوى ومواليها وجمهورها. وهذا ما أدّى إلى الإمعان في تفكيك مؤسّسات الدولة والحكم، واستنزاف الخزينة الماليّة العامّة وتفاقم “الفساد” المالي والسياسي والإداري.

– انعكس هذا كلّه تردّياً في الحياة الاقتصادية والقطاعات الإنتاجية والخدمات العامة والبنية التحتية، وانكماشاً في الاستثمارات وهروبها إلى الخارج، بسبب فقدان المستثمرين اللبنانيين وغير اللبنانيين الثقة بالاقتصاد اللبناني وبالنظام السياسي اللبناني المضطرب.

 

البرنامج “السياسي” العوني هذا كان هدفه الأوحد انتزاع تمثيل المسيحيين، وإيصال عون إلى سدّة رئاسة الجمهورية

العونيّة والحريريّة

بعد تحرير الشريط الجنوبي سنة 2000، وعودة ميشال عون إلى لبنان سنة 2005، اندفعت قوّتان أساسيّتان كبيرتان للدخول في تركيبة النظام السياسي لتوزيع النفوذ والمغانم وتقاسمها: “حزب الله” الذي استثمر حرب تموز 2006 في مضاعفة قوّته ونفوذه الداخليين، ثمّ أزال الحدود بين لبنان وسوريا وسيطر عليها منذ بدايات حربه سنة 2012 ضدّ الشعب السوري الثائر لحماية نظام بشار الأسد. ففتح المعابر الحدودية لعمليّات التهريب على أنواعها لتمويل مواليه ونظام الأسد، واستنزاف الاقتصاد اللبناني.

أمّا القوّة الثانية التي استجدّ دخولها إلى تركيبة النظام اللبناني لتوزيع الغنائم وتقاسمها، فهي “التيار العوني” الذي باشر سياساته كلّها، منذ عودة عون من منفاه الفرنسي، معتمداً على حلفه المتين مع “حزب الله”، لاستعادة ما سمّاه “حقوق المسيحيين” في الحكم وإدارات الدولة، معتبراً أنّها كانت “مغتصَبة” طوال حقبة “الوصاية” السورية على لبنان. وحصر هذا التيار برنامجه السياسي في نزاعه مع أركان “اتفاق الطائف”.

القوى التي نازعها “التيار العوني” تحت شعار “استعادة حقوق المسيحيين” و”محاربة الفساد” في أجهزة الدولة والحكم، هي:

– “تيار المستقبل” الحريريّ السنّيّ الذي نشأ وتوسّع بعد “اتفاق الطائف”، ورأى فيه عون وتيّاره القوّة الأساسية التي يجب تحطيمها وتحطيم زعيمها، إضافة إلى إضعاف دور رئاسة الحكومة التي يرى العونيون أنّ “الطائف” منحها “صلاحيّات دستورية” على حساب “صلاحيّات” رئاسة الجمهورية القويّة والحصينة في نظام ما قبل “الطائف”.

– “حركة أمل” الشيعية (بزعامة نبيه برّي)، و”الحزب التقدّمي الاشتراكي” الدرزيّ (بزعامة وليد جنبلاط)، اللذان اعتبرهما “التيار العوني”، مع “الحريرية السياسية” السنّيّة، أركان “الاستيلاء” على حقوق المسيحيين وتمثيلهم النيابي وحضورهم في مناصب الحكم والإدارة العامّة، وأركان “الفساد” المالي والإداري والسياسي.

وبناءً على هذه الاعتبارات والشعارات التي شكّلت برنامجه السياسي، استطاع ميشال عون وتيّاره تهميش السياسيين المسيحيين “المستقلّين” من قوى 14 آذار، وسواهم من المنضوين في كتلتَيْ الحريري ووليد جنبلاط النيابيّتين.

البرنامج “السياسي” العوني هذا كان هدفه الأوحد انتزاع تمثيل المسيحيين، وإيصال عون إلى سدّة رئاسة الجمهورية. وهذا ما تحقّق بانتخابه رئيساً سنة 2016، وحيازته أكبر كتلة نيابية في البرلمان في انتخابات 2018.

الانتفاضة التي بيّنت يوميّاتها أنّ حزب الله هو المهيمن على القرار السياسي في البلاد والحكومة، سكتت عن الحزب إيّاه وتعاملت معه وكأنّه قوة سياسية

استفحال المناهبة

منذ اغتيال رفيق الحريري طبعتْ سياسات “حزب الله” الإقليمية والداخلية وسياسات حليفه “التيار العوني” وحروب الاستنزاف السياسي التي خاضاها، الحياةَ السياسية اللبنانية بطابعها.

وبعدما كان نظام تقاسم الحصص في الحكم والإدارة العامّة والمناصب، والتلزيمات والمشاريع الحكومية، وإعالة مقدّمي الجماعات ومواليها، راسياً منذ “اتفاق الطائف” (1990) على قوى ثلاث أساسية، هي الحريري وتياره السياسي، و”حركة أمل”، و”الحزب التقدّمي الاشتراكي”، استجدّت ما بعد العام 2005 قوّتان أساسيّتان جديدتان (“التيار العوني” أوّلاً، و”حزب الله” تالياً) على ذلك التقاسم الثلاثي فصار خماسيّاً.

وإذا كانت السياسات الإقليمية هي التي تتصدّر اهتمامات “حزب الله” في الدرجة الأولى، فإنّ سياسات “التيار العوني” تتصدّرها حيازة حصّة المسيحيين كلّها في نظام تقاسم مغانم الحكم ومناصبه الإدارية، وعوائد التلزيمات والمشاريع العامّة، وتوزيعها على الموالين والمحاسيب، لا بل أكثر من ذلك: استعادة صلاحيّات رئاسة الجمهورية القويّة والنافذة التي منح “اتفاق الطائف” بعضها لرئاسة الحكومة ولمجلس الوزراء مجتمعاً. وهذا ما أدّى إلى احتدام الصراعات على تقاسم مناصب الحكم والإدارة العامة وتناسلها على نحوٍ أقوى من ذي قبل. وأُضيف إليها استخدام عون وحزب الله تعطيل الحكم، وتشكيل الحكومات والانتخابات النيابية والرئاسية، سلاحاً أساسياً في صراعاتهما التي استنزفت الحياة السياسية ومؤسّسات الدولة وماليّتها العامّة والحياة الاقتصادية وعوائد الخزينة وجباياتها في المرافق الحكومية، وصولاً إلى توقّف الاستثمارات وهروبها، وتعطّل تدفّق السيّاح إلى لبنان، وضمور القطاع السياحي، وتدهور الخدمات العامّة، وخصوصاً قطاعَيْ الطاقة وجمع النفايات اللذين استنزفا الخزينة بمليارات الدولارات التي ذهبت إلى جيوب موالي الزعماء السياسيين. أمّا سياسات “حزب الله” الإقليمية والدولية فأدّت إلى خسارة لبنان أصدقاءه العرب والدوليّين، والمساعدات الماليّة والاستثمارية الكبيرة التي كانت تسدّ شطراً من عجز الماليّة العامّة، المشرّعة أصلاً لتناهب أصحاب النفوذ والسلطان في الحكم.

وربّما هذا كلّه هو الذي أدّى إلى الاستغراق الكبير في اعتماد مصرف لبنان المركزي على ما سُمّي “هندسات ماليّة” قِوامها استدانته من الودائع المصرفية الخاصة في المصارف، وبفوائد مرتفعة غير مسبوقة في عالم المال، وذلك لتمويل عجز ماليّة الدولة. وسرعان ما ظهر وتجلّى ذلك العجز إفلاساً، ليس في الماليّة العامّة فحسب، بل في القطاع المصرفي غداة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.

إقرأ أيضاً: بوجه من انتفضوا: نظام “الوصاية” والحريري؟ (1)

ربّما شيوع “المناهبة الخماسية” بين قوى السلطة وارتسامها سياسة وحيدة للحكم هما اللذان ولّدا شعار انتفاضة 17 تشرين الأساسي: “كلّن يعني كلّن”، أي زعماء الجماعات ومواليها والمستفيدون من نفوذها. والانتفاضة التي بيّنت يوميّاتها أنّ حزب الله هو المهيمن على القرار السياسي في البلاد والحكومة، سكتت عن الحزب إيّاه وتعاملت معه وكأنّه قوة سياسية مدنية كسواها من القوى اللبنانية. هذا فيما كان رعاع “الثنائي الشيعي” يغيرون يوميّاً على المحتجّين في ساحتَيْ الشهداء ورياض الصلح وجسر الرينغ في وسط بيروت.

 

(*) مصطلح أو مفهوم اشتقّه الباحث والمؤرّخ أحمد بيضون لتعريف المستجدّ في النظام السياسي اللبناني ما بعد “اتّفاق الطائف” في مقالة له عنوانها “المناهبة أو البنية السياسية لمسار الدولة اللبنانية نحو الإفلاس”.

 

مواضيع ذات صلة

17 تشرين: خروج الشباب على الولاء للزعماء

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

سوريّة – كرديّة: 17 تشرين جعلتني “لبنانية”

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

في انتظار تجدّد “يوفوريا” 17 تشرين

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

بوجه من انتفضوا: نظام “الوصاية” والحريري؟ (1)

تحلّ الذكرى السنوية الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجوديّة متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في الحلقة الثالثة ينشر “أساس” مقتطفات من…