السنّة والدولة… توأمان لا ينفصلان

2020-03-13

السنّة والدولة… توأمان لا ينفصلان

 

تجرّع سنة لبنان السمّ مرتين. مرة حين هوى رفيق الحريري، ذاك الجبل الذي أسندوا رؤوسهم المتعبة إلى كتفه. وأخرى حين أصرّوا على اقتفاء أثره واستكمال مشروعه، فاصطدموا بواقع مرّ وأزمات مركّبة ومنظومة عصيّة على الكسر. لم ييأسوا رغم كثافة الإحباط والمحبطين. ساروا الهنيهة في العبور إلى دولة تُشبه أحلامهم. ثم ظنّوا، على ما أخبرهم سمير قصير، أنّ الربيع حين يُزهر في بيروت، فإنما يُعلن أوان الورد في دمشق. هنا تمامًا مسّهم اليأس وطاولتهم الفجيعة.

كان الثمن باهظًا وهائلاً ومُربكًا. قطفوا أجمل رجالهم. وشطبوا ألمع عقولهم وأحذقها وأكثرها شجاعة وقدرة ومعرفة. صارت شلاّلات الدم عنوان المرحلة التي طُبعت بوطنية خالصة ومجرّدة وغير مسبوقة، وصارت الأحلام قاتلة ومُهلكة، وكأنهم في منتصف نفق لا يرجعون منه ولا يتقدّمون.

إقرأ أيضاً: سعد الحريري يداري “ضعفنا” بضجيجه

على سجيّة الثكالى والمفجوعين والثائرين. زحف السنّة بقدّهم وقديدهم من بيوتهم ومدنهم وقراهم إلى ساحة الحرية في 14 آذار 2005. ليس ثأرًا لرفيق الحريري وحسب. بل انتقامًا لعزة أنفسهم وكراماتهم وسنيّهم العجاف. بدا للوهلة الأولى أنّها ردّة فعل عابرة، وأنّ صراخهم المدوّي وهم يتماهون مع قَسَم جبران تويني، لا يعدو كونه خروجًا مرحليًا عن السائد والمألوف، وأنّهم لا بدّ سيعودون إلى حيث كانوا. لكنّهم باغتوا الجميع. واستحقّوا بلا منازع جزءًا وافرًا من التصفيق العاصف، وجزءًا لا يقلّ وفرةً من الاستهداف والعذابات وحمّامات الدم.

إنتقل السنّة لأول مرة في تاريخهم من ثانوية لبنان إلى أولويته المطلقة. أسّس هذا الانتقال إلى لقاء مفصلي مع اللبنانوية العميقة، مع ما يعنيه ذلك من التحام طبيعي مع المارونوية التّواقة، منذ أكثر من قرن ونيّف، إلى لبنان وكيانه وحريته وسيادته واستقلاله. وهنا تكمن الأهمية الاستثنائية للحظة الآذارية، باعتبارها اللقاء الأول والحقيقي حول الهوية والمشتركات والعناوين الكبرى.

لم يُصدّق نصرالله صفير، آخر البطاركة العظام، ما ورد في القرار 1559 حين وصلت الأصداء اليه. لاحقًا راح يردّد أمام ضيوفه أنّ هذا القرار سيغيّر وجه لبنان، وأنّ رفيق الحريري سيدفع ثمنه غاليًا. يومها، ويومها فقط، أدرك البطريرك الأهمية الوطنية الكبرى لشخصية بحجم رفيق الحريري، وأدرك أيضًا ضرورة مساعدته والتعاون معه، باعتباره حلقة ربط بين شريحتين أساسيتين ومؤسِّستين للكيان اللبناني، وباعتبار أنّ القرار الذي يحمل بصماته الجليّة والواضحة هو الاعتراف الأممي الوحيد بسيادة لبنان واستقلاله وبنهائيته التاريخية والجغرافية كدولة ناجزة ذات حدود وهوية وكيان.

شكّلت مشهدية 14 آذار المرآة التي ترجمت وبلورت كلّ هذه الوقائع على الأرض، وقد بدا أنّ الاجتماع اللبناني العام معنيٌ تمامًا بهذا التحوّل التاريخي الهائل، وبهذا المفصل المحوري في الحياة السياسية والوطنية، انطلاقًا من المسيحيين الذين حضروا بكل أحزابهم ومشاربهم وشخصياتهم السياسية ومؤسساتهم الدينية، مرورًا بالدروز الذين أظهروا إلى جانب وليد جنبلاط شجاعة منقطعة النظير، وصولاً إلى السنّة الذين ملأوا الساحات، ثم افترشوا أرضها والتحفوا سماءها. فيما غابت الكثرة الكاثرة من الشيعة لأسباب لم تعد خافية على أحد، وحضر معارضون شيعة شجعان، قلائل.

لاحقًا فضّل ميشال عون أن يتزعّم حلف الأقليات على حساب المسيرة التاريخية للموارنة، وانسحب وليد جنبلاط تدريجيًا من الصفع إلى المهادنة تحت وطأة سيل من الضغوط والحسابات، والتي قد تبدأ بحساسية الجبل المفرطة، ولا تنتهي بجردة الربح والخسارة. فيما أعاد سمير جعجع تموضعه على نحوٍ متدرّج، فتحوّل من مشروع قائد وطني كبير إلى زعيم محلّي، فضلاً عن بعض الفُتات هنا وهناك. وقد بدا، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ فعاليته السياسية والوطنية كانت أشدّ وأفعل وأقوى بكتلة من ثمانية نواب، فيما تراجع دوره وتقلّصت فعاليته عقب انهماكه بالتفاصيل والصغائر، رغم فوزه بخمسة عشر مقعدًا في الانتخابات الأخيرة.

حينما استدرك واستوعب متأخرًا بأن مشروعيته السياسية والوطنية قد ضمرت تمامًا عقب فصول التسوية الرئاسية وصولاً إلى 17 تشرين، أخذ ينحو إلى تفعيل خطاب المعارضة

يبقى أن نتحدث عن السنّة، وعن سعد الحريري تحديدًا، الذي لا يتحمّل وحده مسؤولية ما وصلوا اليه، لكنه يتحمّل قطعًا الجزء الأكبر من أزمتهم وكبوتهم، وذلك نتيجة انعدام بصيرته واضمحلال قدرته على مواكبة التغيّرات، ولا حاجة هنا لاستعادة الأسباب والمؤشرات والدلائل. يكفي أن نراقب الانهيار الكامل للإمبراطورية التي أسّسها رفيق كي ندرك أنّه لا يُرجى منه أكثر مما فعل حتّى اليوم.

وهو حينما استدرك واستوعب متأخرًا بأن مشروعيته السياسية والوطنية قد ضمرت تمامًا عقب فصول التسوية الرئاسية وصولاً إلى 17 تشرين، أخذ ينحو إلى تفعيل خطاب المعارضة، ولو بشكل منمّق، باعتباره القشّة الأخيرة التي قد تحول دون غرقه. لكنه أغفل جملة من الأسس الثابتة والمؤكدة، وعلى رأسها حتمًا تقلّص الثقة بقدراته، بالإضافة إلى تحوّل اجتماعي شديد الأهمية، وهو تحوّل أرخى بظلاله على الجيل السنيّ الجديد، الذي لا يعرف عن الحريرية السياسية إلا بمقدارٍ معرفته عن غيرها. وهي معرفة لا تُقيم أيّ وزن لأصحابها، بل تعتبرهم جميعًا “ماضيًا مضى” ولا بدّ من استبداله بما يتماشى مع أحلامهم وطموحاتهم وأفكارهم الممزوجة بالحداثة والعولمة.

السنة يطوون اليوم آخر صفحات سعد الحريري، ويقفون جميعًا أمام الاختبار الأدق والأصعب: ما هو مشروعهم؟ ما هي رسالتهم؟ أيّ لبنان هو ذاك الذي يريدون؟ وأيّ خلاصة هي تلك التي خرجوا بها بعد عقد ونيف من الاشتباك والارتطام والهزائم والمخاضات المستحيلة؟ الثابت الوحيد أنّهم باقون هنا، في قلب الحدث وفي صدر التحديات. لا عودة إلى الوراء. هما والدولة توأمان لا ينفصلان، ولبنانهم الذي بات يحظى بأولويتهم المطلقة سيظلّ كذلك، لكنّ العبرة تكمن تمامًا في التوثّب نحو الغد والمستقبل الذي لا بدّ أن يكون تحت سقف دولة مدنية قادرة وعادلة وكاملة الأوصاف، وما دون ذلك خاضعٌ برمّته للتفاوض والنقاش، إنطلاقًا من اتفاق الطائف وصولاً إلى أصغر تفصيل في الدستور وفي الصلاحيات.

 

مواضيع ذات صلة

زعامة الحريري تتحدى علوم الطبيعة

  يستحيل أن تكتب عن سيرة سعد الحريري من دون مقاربتها بمعارف أخرى بخلاف السياسة، كالفيزياء وعلم النفس والميثولوجيا واللاهوت والرياضيات. قد يبدو ذلك غير…

رحلة سمير جعجع عبر 14 آذاراته (2/2): استراتيجية المواجهة عبر الصمود

  اصطدم جعجع في العام 2009 برغبة حلفائه في 14 آذار في تحجيمه على إثر أوّل انتخابات نيابية يخوضها بعد خروجه الى الحياة السياسية من…

14 آذار “كما يرويها فارس سْعَيد” (2/2): هكذا خطف حزب الله الحلم

  في الجزء الثاني من شهادة فارس سعيد 2020، حول 14 آذار، يروي رؤيته لأسباب فشل هذه التجرية في ولادة لبنان جديد، من التحضير لانتخابات…

عن التناقض بين 14 آذار و17 تشرين

  تعترضك صعوبة جديّة إذا ما تطرقت إلى 14 آذار 2005 اليوم. هذا الحدث الجماهيري التأسيسي الذي ظلّت تحييه الناس في الساحات ستة مرات من بعده يباعدنا عنه…