المشهد العربيّ: استيلاء الراديكاليّات وصعود العنف!

2023-12-18

المشهد العربيّ: استيلاء الراديكاليّات وصعود العنف!

مدة القراءة 7 د.


لا تستطيع الكلمات مهما بلغت فصاحتها وقدرتها الإبداعية على وصف ما يحدث في غزة والضفة الغربية منذ شهور. ولدى الإسرائيليين في ما يعتقدون سلاحان:

– ضرب الناس بكلّ وسيلة وتعمّد تعظيم الخسائر في الإنسان والعمران.

– والسلاح الآخر سلاح اليأس: أن يسكن الناس ويستسلموا عندما يتعذّر عليهم مواجهة العنف الساطع.

لكنّ إنسانية الإنسان، وبخاصّةٍ الشبّان والكهول، لا تتصرّف بحسب درجات الأمل واليأس. ولذلك فإنّ الراديكالية الإسرائيلية الهائلة على كلّ المستويات، لا يواجهها اليأس والاستسلام، بل الحقد والغضب الراديكالي بحيث يصبح الموت (أو ما يعتبرونه استشهاداً) في واجهة إرادة المواجهة بكلّ سبيل، ومنها الموت كما قلنا.

تجديد تجربة الدولة الوطنية في مشارق العالم العربي ضرورة وجودية، لكنّ المزاج الراديكالي والميليشياوي إجرامي ومدمِّر

انتشار الميليشيات…

إنّ هذه الراديكالية الحادّة التي صارت انقساماً أو انقسامات وعداوات بالغة الشراسة لا تقتصر على فلسطين والحالة مع الاحتلال الصهيوني، بل هي منتشرة في أنحاء واسعة من مشرق العالم العربي، لا يحضر فيها الإسرائيليون. ففي سورية انقسامات مستحكمة لا تقتصر على الصراع مع النظام، بل تنتشر بين أطراف المعارضة التي تدعمها جهات خارجية. لكنّها وإن لم يؤجّجها الخارج، تضع حدوداً وأسواراً عاليةً بين فِرَقها المختلفة في شمال سورية وشرقها. نحن في العام العاشر لبدء هذه الراديكاليات في العمل والاستيلاء. ولا أفق أو إمكانية حتى الآن للخروج من المأزق. وقد صارت الميليشيات بالعشرات بين الكرديّ والقاعديّ والموالي لإيران والموالي لتركيا والموالي لروسيا. وما عاد من الممكن التساذُج والحديث عن الجمهور المظلوم بالميليشيات، فالمظلومون خرجوا إلى جهات العالم الأربع، وما بقي غير المتحزّبين المنقسمين.

الاضطراب مستمرّ في سورية بالطبع، لكنّنا ما عدنا نسمع إلّا عن الأطراف الكبرى الخارجية التي صارت متجذّرة بالداخل، مثل ضربات إسرائيل على إيران وأنصارها بسورية، وضربات الميليشيات العراقية ضدّ القواعد الأميركية.. إلخ. أين الوسطاء والوساطات؟ القرارات الدولية كثيرة، وكذلك المندوبون. وقد اخترع الروس والإيرانيون والأتراك “أستانا” التي لم تعد تعمل تقريباً.

هل المشهد في لبنان راديكالي؟

هو راديكاليٌّ إلى حدودٍ بعيدة. فلننظر إلى الحدود مع فلسطين المحتلّة حيث خلت القرى من السكّان، وزاد الضحايا من المقاتلين والمدنيين على المئة والأربعين. ولا تملك الحكومة ولا المجلس النيابي أيّ سيطرةٍ على المشهد الذي قد يتطوّر إلى حربٍ شاملةٍ لا يريدها أحدٌ من اللبنانيين.

بيد أنّ المشهد الداخلي أكثر تعقيداً. فلأكثر من سنة لا رئيس جمهورية لبلاد الأرز بسبب الانقسام العمودي، والحكومة حكومة تصريف أعمال محدودة القدرة على التصرّف، وكاد الجيش وقوى الأمن الداخلي تبقى بلا قادة لولا تدارُك مجلس النواب بعد مماحكاتٍ كريهة. والأزمة الاقتصادية والمعيشية تتعاظم منذ عام 2019 ولا من يهتمّ بالكهرباء والدواء والمستشفيات.. إلخ. وكلّ ذلك بسبب الانقسام السياسي الراديكالي الذي تعلو وتيرته، فإذا مضى رئيس المجلس النيابي باتجاه بعض الترقيع اعتُبر ذلك إنقاذاً كبيراً!

 صار في لبنان مليونان من اللاجئين السوريين والجيش محتار في ضبط الحدود مع سورية أو العسكرة على الحدود مع فلسطين التي لا يسيطر عليها هو ولا القوات الدولية، بل قوى الأمر الواقع حتى حركة حماس!

أين الوسطاء؟

هناك الخماسية، وفيها العرب والأميركيون والفرنسيون. وهناك الفرنسيون الذين يكثر مبعوثوهم وهمُّهم أمران: عدم توسّع النزاع مع إسرائيل، وانتخاب رئيس، لكنّ تأثيرهم يضعف يوماً بعد يوم.

إنسانية الإنسان، وبخاصّةٍ الشبّان والكهول، لا تتصرّف بحسب درجات الأمل واليأس. ولذلك فإنّ الراديكالية الإسرائيلية الهائلة على كلّ المستويات، لا يواجهها اليأس والاستسلام، بل الحقد والغضب الراديكالي

العراق واليمن… إيران وحدها

يبدو العراق أفضل حالاً لأنّ فيه حكومةً عاملةً على الأقلّ. ومع أنّها مكوَّنة من وزراء الحشد الشعبي الموالي لإيران، فإنّ تنظيمات مسلّحة عراقية موالية لإيران تشنّ هجمات على القواعد الأميركية وعلى السفارة الأميركية في بغداد، بتوجيهٍ من إيران بحجّة مساعدة غزة وحماس مثلما يفعل الحزب من لبنان.

أين الوسطاء؟

الحكومة تترجّى الإيرانيين، وتعتذر من الولايات المتحدة، لكنّ الهجمات مستمرّة.

الأمر نفسه يحدث من اليمن. فمنذ تسع سنوات ونيّف هناك الانقسام الرأسي بين المتمرّدين الحوثيين المسيطرين في صنعاء والحكومة اليمنية في عدن ومأرب. وقد خمد الصراع بعض الشيء، لكنّ الإيرانيين استنفروا الحوثيين أيضاً لدعم حماس في غزة بوسيلتين: الضرب بالصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، ومهاجمة السفن في باب المندب وبحر العرب والبحر الأحمر بحجّة الإضرار بإسرائيل.

أين الوسطاء؟

الوسطاء كثيرون، لكنّ الحوثيين استعصوا على الجميع ولا أفق للحلّ.

 

ليبي والسودان: راديكاليات وقبائل

لنتأمّل الراديكاليات الليبية، التي لا يمكن اتّهام إيران بالإسهام فيها. فالانقسام بين طرابلس وبنغازي أو شرق ليبيا وغربها. وعلى الرغم من كثرة الوسطاء ما أمكن الاتفاق على إجراء انتخابات في عموم البلاد لإنهاء الانقسام أو التخفيف منه.

أين الوسطاء؟

هناك مندوبون دوليون وأميركيون وأتراك وروس وعرب. بيد أنّ التقدّم تعذّر حتى الآن، لأنّ كلّ طرفٍ متمسّك بمطالبه التي لا تنازل عن شيء منها، وأخيراً ظهر تحالف بزعامة سيف الإسلام بن العقيد معمّر القذافي، وهو يتقوّى شيئاً فشيئاً وآخر مطالبه: استعادة جثمان القذّافي المقتول آخر عام 2011.

أخيراً وليس آخراً هناك الحرب المستعرة بالسودان بين الجيش وميليشيا الدعم السريع التي تتقدّم على الجيش في عدّة أنحاءٍ ومدن منها الخرطوم ودارفور. لقد تهجّر ملايين، وهناك ما يزيد على خمسة عشر ألف قتيل. وكنّا نحسب أنّ “القوى المدنية” التي قامت بثورة عام 2019 ستكون لها كلمة في التوسّط، لكنّ الحليفين اللدودين سيطرا على المشهد واختفت القوى المدنية مرّةً واحدة، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وهناك منصّات جدّة وإيغاد وإثيوبيا وجوبا للوساطة، لكنّ القتال مستمرّ والناس يهربون من مكان إلى اللامكان!

الإخوان والدين…

في كلّ تلك الدول ما عدا السودان، كلّ الميليشيات الراديكالية المقاتلة تتحرّك تحت راية الدين الذي تتزعّم تمثيله. بل يقال إنّ الإخوان في السودان يدعمون الجيش حالياً، كما كانوا أيام البشير. وهذه التنظيمات (ومن أهمّها حماس) مسيطرة على أراضي الدول أو بعضها، وليست لديها ثقافة الدولة ولا حتى إرادة إقامة دولة عندما تتغلّب، بل هي تستنزف ثروات البلاد والعباد، ومعظمها تابعة لخارج إقليمي أو دولي هو الذي يحدّد لها أوقات الحرب والسلم.

من أين أتت هذه الثقافة؟

يقال بسبب التسلّط الدولتيّ.

إقرأ أيضاً: “تانغو” أميركيّ إيرانيّ على صفيح غزّة

لكنّ وجودها سابقٌ على ذلك في مثل القاعدة وداعش. وهذا فضلاً عن أنّ الأكثرية منها لا تعرف مِن الدين إلا الشعارات.

ما كانت التنظيمات الحاليّة المقاتلة في البلاد العربية وإفريقيا حركات تحرير ولا حركات ثوران على الظلم. وإنّما اعتمدت في ظهورها على ضعف السلطات في بلدانٍ مثل لبنان أو على التدخّلات الخارجية في البلدان العربية مثل ليبيا والعراق وسورية.

يقال لنا الآن إنّه بعد المذابح والإبادات في غزة، سيزول حكم حماس، وتعود السلطة الفلسطينية التابعة في رام الله. السلطة الفلسطينية شديدة الضعف، والمزاج الراديكالي الفلسطيني والعربي لا يسمح بقيام سلطةٍ منتظمةٍ وغير ميليشياويةٍ في غزة ولا في لبنان ولا في ليبيا ولا في سورية، ومن المشكوك فيه أن تقوم سلطة منتظمة في العراق على الرغم من كثرة الانتخابات والقوانين.

تجديد تجربة الدولة الوطنية في مشارق العالم العربي ضرورة وجودية، لكنّ المزاج الراديكالي والميليشياوي إجرامي ومدمِّر.

لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@

إقرأ أيضاً

التسوية: لا ثقة للعرب برعاتها وأطرافها

ما صدر عن القمة العربية في البحرين هو الحدّ الأقصى من العمل الدبلوماسي المنضبط في ظلّ عالم مرتبك شديد السيولة، لا ثقة لدى الدول العربية…

هل توفير الحماية الدّوليّة للفلسطينيّين ممكن؟

سارعت الولايات المتحدة إلى إجهاض الإعلان الأهمّ الصادر عن القمّة العربية في البحرين، الداعي إلى نشر قوّات أممية في الأراضي المحتلّة لحماية الفلسطينيين إلى حين…

هل تتكرّر تجربة عون: انتخاب رئيس قبل عودة ترامب؟

هناك قدرة لبنانية على ربط انتخاب رئيس الجمهورية بكلّ مواعيد الاستحقاقات الخارجية، باستثناء المهل الدستورية اللبنانية لكلّ استحقاق. على رأس هذه الاستحقاقات الخارجية الانتخابات الرئاسية…

كيف تقضي الرأسماليّة الصهيونيّة على قوّة أميركا الناعمة؟

“مرّ الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمرّ أمّا المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضرّ والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا عالحرّ” (أحمد فؤاد…