2023: موسم الهجرة الفرنسية من إفريقيا

مدة القراءة 8 د


يشبه المأزق الفرنسي في إفريقيا اليوم، المشكلة التي واجهتها المملكة المتحدة من قبل في دول الكومنولث، مع شيوع السردية المشكّكة في مستقبلها. فهل تشكّك فرنسا في مستقبلها الإفريقي؟ هل تمثّل فرنسا شبح إمبراطورية متلاشية في القرن والساحل الإفريقيّين؟ أم هي في حقبة جديدة مع نموذج مختلف من التحكّم غير المكلف يمكن الاعتماد عليه لممارسة قوّتها؟
كان عام 2023 بمنزلة جرس إنذار للنفوذ الفرنسي في إفريقيا الفرنكوفونية، التي تكاد أن تتحوّل إلى نكبة استراتيجية لباريس. هو عام التحوّلات الدراماتيكية في إفريقيا، حيث تدور حربٌ صامتةٌ بين فرنسا ومستعمراتها القديمة في القارة السمراء. كما تواجه فرنسا معضلة حقيقية؛ وهي أنّ غالبية الدول الإفريقية الأكثر استقراراً، واقتصاداتها الأفضل أداءً، هي تلك الناطقة بالإنكليزية، والتي تحاول الجنوح نحو الكومنولث الإنكليزي أو حتى الحلم الأميركي.
هناك تحوّل هيكلي في جوهر العلاقات الفرنسية – الإفريقية. ينبئ هذا التحوّل عن الصراع بين التاريخ والحاضر والمستقبل، ويعكس التخبّط الشامل في السلوكيات والنشاطات الإدراكية، المعبّرة عن انعدام الثقة الإفريقية بالطموح الفرنسي. يتخلّل ذلك كثير من السرديات المغذّية لهذا الاختلاف. حيث يتجذّر الغضب الإفريقي الملموس تجاه فرنسا في جُملة متشابكة من السياسات الوجودية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والمستمرّة.

صراع دوليّ لتقويض فرنسا في إفريقيا
يوجد صراع دائر في إفريقيا. يشبه النزاع الذي نشب في الماضي بين كلّ من الإمبراطوريتين البريطانية والروسية، حول مناطق آسيا الوسطى. يتكرّر الأمر نفسه اليوم في إفريقيا ومنطقة الساحل بين كلّ من فرنسا من جهة وروسيا وأميركا، كلاعبين أصليين، وبين كلّ من تركيا وإيران والكيان الإسرائيلي من الخلف كاحتياط. تعلم فرنسا جيّداً أن لا سبيل ولا قدرة للعودة الفرنسية إلى الماضي الذهبي بصفتها اللاعبة والمحرّكة الوحيدة في إفريقيا. تغيّر العالم وتبدّلت إفريقيا. وفقدت فرنسا القدرة على التأثير، مع ظهور المنافسين الدوليين الجدد لها.

حجزت روسيا دوراً بارزاً لها في القارّة الإفريقية. وهي تستغلّ ذلك من أجل توسيع استثماراتها، أثناء محاولتها الهروب من منطقة العقوبات الأميركية

يمتدّ الوجود التاريخي الفرنسي في غرب إفريقيا إلى 150 عاماً. سعت فرنسا خلالها إلى إرساء السيطرة والنفوذ والحفاظ عليهما. بدأت تتراخى السيطرة الفرنسية على المنطقة الإفريقية. وهذا مردّه إلى ثلاثة عوامل معقّدة:
– كابوس التاريخ الفرنسي في إفريقيا.
– الوجود المتزايد للقوى العالمية الأخرى (روسيا، الصين، أميركا).
– عدم التطوّر في مفهوم الشراكة الاستراتيجية الفرنسية والإفريقية.

أدوار دوليّة جديدة
حجزت روسيا دوراً بارزاً لها في القارّة الإفريقية. وهي تستغلّ ذلك من أجل توسيع استثماراتها، أثناء محاولتها الهروب من منطقة العقوبات الأميركية. تتقدّم الصين بخطوات استراتيجية في المنطقة، وتطوّر منطقة حضورها السياسي في لبوس اقتصادي وتنموي. تهدف إلى تأسيس موطئ قدم، وتوسيع نفوذها الجيوسياسي. تسعى إلى الوصول إلى منطقة الموارد الطبيعية الهائلة، وتخطّط للتحكّم بمنطق الأسواق التي يوفّرها لها التغلغل في غرب إفريقيا. تحاول الولايات المتحدة الأميركية الاستفادة من هذه الفرضيات المتناقضة. تراهن على دخول هؤلاء اللاعبين الرئيسيين لتغيير ميزان القوى في إفريقيا، وتحدّي الهيمنة التاريخية لفرنسا في المنطقة. تسعى إلى مضايقتها من خلال تحويل القارّة السوداء من إفريقيا فرنسية إلى إفريقيا أميركية.

محاولات ماكرونيّة
حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تدارك كلّ هذا الواقع في دعواته المتكرّرة إلى سياسة جديدة مع القارّة الإفريقية. فمنذ دخوله الإليزيه لأوّل مرّة في عام 2017، شدّد على وجوب تغيير مفهوم الحراك الفرنسي اتجاه إفريقيا، وإلى التحلّي بالتواضع اتجاه القارّة الإفريقية، وأن تكون العلاقة بين الجانبين الفرنسي والإفريقي واقعية ومتلائمة مع الظروف والمرحلة الحالية. لم يستطع الرئيس الفرنسي المواءمة بين تصريحاته ودعواته وبين النموذج العملي للمؤسّسات الفرنسية. أدركه الوقت بسبب قلّة المبادرات. كان هذا بسبب ظهور الخلافات الكبيرة ضمن مؤسّسات الحكم حول نمطية وطبيعة هذا العمل ومنهجه، التي اختلف في تقويمها لكيفية التعامل مع الملفّ الإفريقي.

حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تدارك كلّ هذا الواقع في دعواته المتكرّرة إلى سياسة جديدة مع القارّة الإفريقية

لا تنفصل الأحداث والانقلابات الإفريقية التي حدثت في عام 2023 عن مجموعة الأحداث السابقة، والتي تواترت وتعاقبت، فسقطت الدول في السنوات الثلاث الأخيرة مثل أحجار الدومينو، حيث شهدت المنطقة، وتحديداً منذ عام 2020، وإلى الآن، العديد من الانقلابات التي بلغت ثمانية. بينما كانت المنطقة تجتهد في التخلّص من سمعتها السيّئة بأنّها “حزام الانقلابات”. وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول قواسمها المشتركة وأسباب هذه العدوى الانقلابية. كانت جميعها قاسية على فرنسا، وخصوصاً انقلاب النيجر. أجبرت هذه الانقلابات الإدارة الفرنسية على التسريع في خطواتها التكتيكية، في استجابة لمجريات الأحداث الجارية، أمام تزايد الهوّة بين الجمهورية الفرنسية وعدد من دول القارّة الإفريقية. وحتّمت عليها التعامل بكلّ واقعية لمواجهة الغضب الإفريقي. لكنّها لم تستطع ذلك. قرّرت إقفال سفارتها في النيجر لفترة غير محدّدة، وخفض عدد القوات الفرنسية في المنطقة الإفريقية. إلا أنّ القرار الأهمّ كان سحب القوات الفرنسية من النيجر مع نهاية العام الحالي 2023، وهو الذي سيرسم معالم المرحلة الفرنسية الجديدة في إفريقيا.

المستقبل الفرنسيّ في إفريقيا: “التخفيف من العسكرة”
تعترف فرنسا بكلّ واقعية بضمور نفوذها في إفريقيا. لكنّها لا تريد أيّ خسارة فرنكوفونية في الفضاء الإفريقي. لذلك يؤكّد الرئيس ضرورة وضع استراتيجية فرنسية جديدة في إفريقيا تدافع عن مصالح باريس ببراغماتية وواقعية. يبدو أنّ هذا المسار المحدّد لديه بعض فرص النجاح على الرغم من كلّ المصاعب والعراقيل والمزاحمات. يشترط لتمكينه إعادة الوقود إلى خزّان الثقة، حتى يستعيد المحرّك عزم الدوران ويبدأ من جديد.
تحاول الإدارة الفرنسية الحالية التخفيف من “عسكرة السياسة الخارجية”، لأنّها خيار خطير، وتجاوز حدوده حيث تمّ التأكّد من أنّ هذه الفكرة طوال فترة الثلاثين سنة الأخيرة غير مجدية استراتيجيّاً، إذ ساهم التخفيض المعياري والمادّي في نواة النشاط المدني إلى تهشّم الصورة والأداء الاستراتيجي. كان ذلك محصوراً في المجال الاقتصادي، لكنّه أضحى اليوم منتشراً في مجالات النفوذ السياسي، وحتى المجال العسكري الأمنيّ، وهو ما فاقم المشكلة الفرنسية.
تحاول الإدارة الفرنسية استيعاب هذه الأحداث. تسعى إلى تغيير في قواعد اللعبة بما يتماشى مع الظروف، أي من خلال إعادة الاستثمار بكثافة في المجال المدني لاستعادة الكفاءة الاستراتيجية. إنّ العواقب المترتّبة على سحب الاستثمار في القطاعات الرئيسية، والتي نلاحظها اليوم في أوقات أزمة الطاقة، تذكّر بأنّه لا يوجد حلّ سحري. وبالتالي فإنّ إيجاد هوامش سيادية للمناورة يتطلّب إعادة الاستثمار بطريقة مستدامة وواضحة من خلال إعادة التوازن إلى المسار الذي تقدّمه بوصلة القيم ومعيارية الكفاءة المصلحيّة. تحاول فرنسا الخروج من القمقم التاريخي. ترى في حبسها الأيديولوجي الإفريقي طريقاً من شأنه أن يقود إلى خيبات أمل استراتيجية خطيرة.
يركّز الجهد الاستراتيجي المقترح من قبل باريس في المقام الأوّل على توقّعات شراكة إفريقية جديدة بهدف إشعال شعلة رغبة التعاون الشبكي مجدّداً. إذ إنّ اتّباع نهج جديد يجمع بين الالتزام وسهولة القراءة والاتساق والصبر الاستراتيجي يُعتبر أمراً ضرورياً لتجديد علاقة الثقة وبناء مستقبل مشترك. يعكس ذلك ضرورة إجراء منافسة استراتيجية مفترضة بالكامل بطرق غير مباشرة وبعلاقة غير مقيّدة مع التهجين. ذلك أنّ التحدّي الهائل المنتظر يمكن أن يكون مخيفاً. تبدو خطواته مكلفة جدّاً. لذا هنالك قناعة فرنسية بأنّ الجرأة الاستراتيجية ستؤتي ثمارها، فلا بديل عنها، على الرغم من صعوبة الوضع.

إقرأ أيضاً: كشمير: خطر الانفجار النوويّ

تواجه فرنسا في إفريقيا منافسة استراتيجية زاخمة تجري على قدم وساق، ويلعب منافسوها بمهارة على مزاياهم النسبية القائمة على غياب المشروطية السياسية، لتنفيذ استراتيجية قوّتهم. شجّعتهم النكسات الجيوسياسية المتراكمة في منطقة الساحل والتخبّطات الفرنسية والأوروبية والثغرات التكتيّة العملية على التوقيع على كلّ مقدّمات خفض التصنيف الفرنسي الدولي. فهل تستطيع فرنسا تغيير هذا الواقع؟ مع شراكات مختلفة، ووجود من نوع آخر في إفريقيا. هل تصمد فرنسا؟ هل تتحوّل إفريقيا من الفرنسية إلى الأميركية؟ سيكون عام 2024 صندوق بريد لكلّ هذه التساؤلات.

مواضيع ذات صلة

فلسطين 2024: المتاهة الجديدة للفلسطينيين..

خانة السنوات الشداد في روزنامة الفلسطينيين طافحة تتدفّق خارج حدود الموازين، ونصيبهم في أعوام الخير شحيح نادر، تحجبه عقود طويلة من احتلال بغيض نغّص حياتهم…

أوكرانيا بين الحظّ العاثر واللعنات الثلاث

لم تسِر سفن الحرب الأوكرانية في العام المنصرم كما يشتهي فولوديمير زيلينسكي. الهجوم المضادّ الذي شنّته كييف ضدّ القوات الروسية في الدونباس لم يحقّق أيّاً…

عام الحديد والنار

أطلقنا في “أساس” على العام 2023 اسم “الحديد والنار”. هو عام يختصر كل تاريخنا في هذه المنطقة وحكاية كل الاجيال التي ما عرفت عاماً من…

ساتلوف لـ”أساس”: إيران تُريد الاحتفاظ بالحزب ليوم آخر..

الحقّ الفلسطيني المسفوح دماً وقتلاً وتهجيراً منذ أن قام الكيان الإسرائيلي على أنقاض فلسطين أعاده إلى الواجهة عبور “حماس” على أرض غزة وفيها يوم 7…