القاهرة: اغتيال هويّتها وذاكرتها.. بدم بارد

2023-06-06

القاهرة: اغتيال هويّتها وذاكرتها.. بدم بارد

مدة القراءة 8 د.

كان الظنّ أنّ الحكومة المصرية ستجعل من كلّ سكّان القاهرة يلتصقون ولا يحبّون مغادرتها أبداً، لارتباطاتهم العاطفية بها، عندما أقدمت على بناء عاصمة إدارية جديدة تمتدّ على مساحة هائلة، وتوافق أحدث نظم البناء العالمية. والجديدة تقع في أطراف القاهرة الكبرى في الظهير الصحراوي لها، على طريق السويس الصحراوي، حيث أقامت بديلاً لكلّ الوزارات، والهيئات، والمؤسّسات القديمة.

كان الحلم أنّ الحكومة عندما شرعت في بناء عاصمة جديدة بهذه المساحة، وبهذه الإمكانات، إنّما فعلت ذلك لاستقطاب أصحاب المصالح إليها واستبقاء القاهرة القديمة لسكّانها القدامى، الذين شيّدوا فيها مقابر لهم، بعدما أدّوا رسالة العمران فيها خلال حياتهم، والذين ارتبطت ذكرايتهم بمعالم أساسية فيها.

كان المتوقّع أنّ الحكومة عندما بنت كثيراً من المدن السكنيّة الجديدة، إنّما فعلت ذلك لنقل بعض أهل القاهرة، المزدحمة بما يقرب من ربع سكّان مصر، إلى هذه المدن، لتستبقي القاهرة القديمة بتاريخها الضارب بجذوره في عمق الزمن، كي نفاخر بها ونباهي أمام الدنيا كلّها ونقول: نحن أصحاب حضارة.

يبدو أنّ تاريخ مصر لا يخلو من إهمال مهما تقدّم بها الزمن. وليس أدلّ على ذلك من ثلاث مناطق كاملة بمحاذاة سور مجرى العيون، وهي مناطق الجيارة والسكر والليمون وحوش الغجر

لكنّ الواقع يقول إنّ بناء عاصمة جديدة ومُدن سكنية جديدة لم يحفظ القاهرة من الهدم والإزالة وبثّ الخوف والقلق في أرواح موتاها، وإثارة الهلع في نفوس أهلها تحت مظلّة التطوير. بل أصبحنا بحجّة إعادة التنظيم نعيش على وقع هدم الأبنية والمقابر التراثية حيناً، وطمس معالم أخرى حيناً آخر.

لم يقتصر الأمر على ذلك بل يبدو أنّ الاندثار أصبح مرض القاهرة الذي لم تتعافَ منه بعد، وربّما لن تتعافى منه قريباً. لم تزَل بقايا سور القاهرة العتيق الذي بناه جوهر الصقليّ بين عام 1087 وعام 1092 شاهدةً على هذا الاندثار الناتج عن الإهمال، ولم يزل عالقاً بذاكرة المصريين مبنى الأوبرا القديم الذي احترق عام 1971 لسبب أو لآخر ولم نستطع المحافظة عليه.

لماذا محو المباني الأثرية؟

على ذكر المباني الأثرية التي كانت تقدّم وجبات فنّية، فقد فوجئ الجميع بقرار وزارة الآثار بإخلاء الموقع الأثري لمسرح العبد، الذي تمّ اكتشافه عام 2013 ويرجع تاريخه إلى عام 223 قبل الميلاد وكانت تبلغ مساحته 1288 متراً مربّعاً، وذلك بحجّة تعرُّض الأبنية المجاورة له للخطر. وكان لهذا القرار أثر سيّئ في نفوس المهتمّين بالأمر.

يبدو أنّ تاريخ مصر لا يخلو من إهمال مهما تقدّم بها الزمن. وليس أدلّ على ذلك من ثلاث مناطق كاملة بمحاذاة سور مجرى العيون، وهي مناطق الجيارة والسكر والليمون وحوش الغجر، التي يسكن فيها ما يقرب من 1,660 أسرة في 520 عقاراً قد أُزيلت ضمن خطّة تطوير المنطقة، وذلك بحجّة تطوير العاصمة التي ضاقت بأهلها. لذا لم يعد غريباً أن نجد قائمة بما يقرب من 2,700 مبنى تراثي قديم في خطّة الإزالة وفق الحجّة المزعومة.

الدول الحديثة العهد في كوكب الأرض، تسعى جاهدة إلى خلق تاريخ مصطنع كي تنافس به قريناتها من الدول. فإذا ما نبغ بينهم شاعر أو كاتب أو فنّان أو سياسي، ثمّ مات، جعلوا من قبره مزاراً سياحياً عالمياً يفاخرون به أمام العالم.

فكيف بقاهرة المعزّ التي تضرب بتاريخها سبعة آلاف عام أو يزيد في باطن التاريخ؟! كيف بها تصحو كلّ يوم على نزع إحدى علاماتها أو هدم أحد قبور عظمائها أو محو إحدى بناياتها الشاهدة على عظمتها أمام الأمم؟

القاهرة ضيّقة ومزدحمة، ومن الطبيعي تطوير عمل شبكة الطرق والجسور من أجل تسهيل حركة المرور فيها. هو ادّعاء ربّما يكون صحيحاً، لكنّ الصحيح أيضاً أنّه لا ينبغي هدم الماضي لبناء المستقبل في قلب القاهرة القديمة. خاصة في منطقة السيّدة عائشة والسيّدة نفيسة، اللتين يتبرّك العالم أجمع بهما، إمّا لأنّهما من أهل البيت، أو على الأقلّ لأنّ المكان الذي شُيّد لهما فيه مسجدان، هو من أعرق الأماكن في العالم.

ما تقوم به “الأجهزة” في مصر، بداعي التطوير والتحضير، قد يكون مقبولاً في شأن المدن العشوائية. عندئذ تكون الإزالة والهدم هما عين البناء

ظلم طه حسين.. وورش القفطي

أصبح الموقع بما يحويه من مقابر العلماء والكتّاب والمفكّرين المصريين، مزاراً تاريخياً، وعلامة على مرور مصر كلّها إلى بوّابة الخلود، وليس بالضرورة أن تكون كلّ هذه البنايات مسجّلة في وزارة الآثار باعتبارها أماكن أثرية، ومن ثمّ يُحرّم المساس بها قانوناً. إذ يكفي أن تكون مسجّلة في عقول وضمائر وأرواح ونفوس المصريين، كما هو حال ضريح عميد الأدب العربي طه حسين، وصاحب المقولة الأشهر “التعليم كالماء والهواء”، الذي قد لا يكون مسجّلاً أثراً، لكن يجب أن نحافظ عليه ونذود عنه ولا نبني فوق مقبرته جسراً جاعلين الجميع يطؤون ضريحه بأرجلهم، على الرغم من أنّه هو الذي رفع رؤوس الجميع.

أليس يكفيه أن يكون عميداً للأدب العربي انطلاقاً من القاهرة؟ ألا يستحقّ أن يبقى رفاته في المدينة التي أطلق فيها مبادرته الإنسانية التي دعت إلى ضرورة أن يكون التعليم مجّانيّاً لبني وطنه؟ ألا يستحقّ كاتب بقيمة الكاتب الكبير يحيى حقّي صاحب رواية “قنديل أمّ هاشم”، التي خلّد فيها أهل المنطقة حيث عاش، أن تُنفّذ وصيّته بأن يُدفن في رحابها؟

كيف تكون مقبرة الإمام ورش القفطي، شيخ وإمام القرّاء المحقّقين، وصاحب القراءة الأشهر التي قرأ المصريون بها القرآن مدّة لا تقلّ عن 800 سنة، مهدّدة بالإزالة والمحو؟

 كيف تكون مقبرة قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت المتوفّى في عام 1950 الموجودة بمقابر السيّدة نفيسة، مهدّدة بالإزالة والنقل إلى أطراف القاهرة؟ كيف اتّخذوا قراراً بنقل مقبرة الأديب الكبير يحيى حقّي صاحب الروايات والمجموعات القصصية والكتب النقدية التي لم نزل نتتلمذ من خلالها على يديه؟

اغتيال الهويّة بدم بارد

ما تقوم به “الأجهزة” في مصر، بداعي التطوير والتحضير، قد يكون مقبولاً في شأن المدن العشوائية. عندئذ تكون الإزالة والهدم هما عين البناء. وأمّا التعدّي على الأماكن القديمة ذات التاريخ والحافلة بالمقابر والشواهد والأسبلة والخنقاوات والمساجد، بل وحتى البيوت والمنازل، فإنّه عين الهدم والتدمير.

إنّه نزعٌ للهويّة التي تعيش في ضمائرنا ونفتخر بها. فمن ليس له تاريخ، يكون مثل لقيط لا يُعرف له أب. فهل غاب مثل هذا المعنى عن الذين يغتالون الهويّة بدم بارد؟

منذ أن شرعت الحكومة المصرية في تطوير طريق النصر، وفكرة الهدم والإزالة لهذه الآثار الإسلامية، التي يرجع تاريخها إلى ما يقرب من ألف وخمسمئة عام، تسيطر على عقولها.

فبعد طريق النصر، الذي استغرق العملُ فيه فترةً تمتدّ من 2014 إلى 2016، جاء الدور على إنشاء محور الفردوس، الذي أعلنته محافظة القاهرة، والذي يمتدّ إلى تسعة كيلومترات، لتسهيل حركة المرور بين وسط القاهرة وشرقها.

منذ أن شرعت الحكومة المصرية في تطوير طريق النصر، وفكرة الهدم والإزالة لهذه الآثار الإسلامية، التي يرجع تاريخها إلى ما يقرب من ألف وخمسمئة عام، تسيطر على عقولها

كان مقرّراً أن تبعد المدن الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة عن مقابر المماليك مسافة 30 متراً، لكن فوجئ ورثة الموتى بخطابات في 2021 تخبرهم بضرورة نقل رفات موتاهم إلى مقابر على أطراف القاهرة، وهو ما جعل بعض مشاهيرهم يضجّون بالشكوى.

جاءت البداية من السيّدة منى ذو الفقار عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، ثمّ تبنّت القضية السيّدة مها عبد الناصر تحت قبّة البرلمان، لإيجاد بدائل يكون من شأنها الحفاظ على المقابر التاريخية وتحقيق التقدير والاحترام لأرواح الموتى.

لم يكن الأمر قاصراً على محور الفردوس، وإنّما امتدّ ليشمل محور متحف الحضارة، الذي استلزم إنشاؤه هدم وإزالة بعض مقابر منطقة الإمام الليثي والإمام الشافعي. ثمّ وضحت خطّة المحافظة الهادفة إلى نقل ما يقرب من 1,117 مقبرة في منطقة السيّدة عائشة من أجل تشييد جسر السيّدة عائشة الجديد. وقد ضمّت قائمة مقابر الشخصيّات المهمّة التي تعرّضت للإزالة، مقبرة كلّ من: الفيلسوف المصري أحمد لطفي السيّد، ورئيس وزراء مصر حسن باشا صبري الذي رفض اشتراكها في الحرب العالمية الثانية، وأحد أعمدة الاقتصاد المصري عبود باشا، ومدير مطبعة دار الكتب محمد مصطفى نديم الذي تبنّى طباعة أشعار أحمد شوقي، وأحد مؤسّسي التربية والتعليم في مصر زكي بك المهندس، وحفيدة محمد علي باشا الكبير نازلي هانم حليم، وناظر الملكية مراد باشا محسن في عهد الملك فاروق الأول.

ما يحدث يُعدّ تجريفاً للهويّة المصرية ونزعاً للأصالة عنها، وتغييباً لروح الانتماء إلى الوطن لدى قطاع غير قليل، الأمر لا يمكن اختصاره في نقل بعض الجبّانات التاريخية وحسب، وإنّما لهذا الهدم جانب آخر يتمثّل في ضرورة الانتباه إلى سكّان هذه المقابر من الأحياء، والنتائج المترتّبة على تشريدهم.

إقرأ أيضاً: محمد رمضان: استعراض الأموال.. أمام فقراء مصر

من ناحية أخرى، كيف نطالب الناس بالانتماء والإخلاص للوطن، وهم يرون مقابر ذويهم تُنتهك حرماتها، وتُنقل بلا أيّ اكتراث إلى الصحراء على أطراف القاهرة؟ والأهمّ مَن له مصلحة في جعل مصر بلا إرث حضاري أو بنايات تراثية تنبئنا عن السابقين وأحوالهم؟

إقرأ أيضاً

عراضة “الجماعة” في عكّار.. ومرحلة ما بعد حرب غزّة

بعد العراضة المسلّحة لـ”الجماعة الإسلاميّة” في منطقة عكار الشمالية، بدأت تظهر ملامح مرحلة ما بعد حرب غزّة في لبنان. تبدو الحاجة أكثر من أيّ وقت…

لا عزاء للمساكين

“لم أغسل دمي من خبز أعدائي  ولكن كُلّما مرّت خُطَايَ على طريقٍ فرّتِ الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ   كلّما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبةِ فالتجأتُ إلى رصيف الحلم…

“أخوة يوسف”* أمام معضلة خط الحرير العراقيّ

عاديّ أن يقلق البعض على هامش زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الأخيرة للعراق، أمام مشهد توقيع مذكّرة تفاهم رباعية للتنسيق والتعاون ذات طابع استراتيجي…

الجماعة الإسلامية إلى أين؟

عندما أنشئت الجماعة الإسلامية في ستينات القرن الماضي (وتمّ وقتها الترخيص للحزب الشيوعي وكان وزير الداخلية كمال جنبلاط)، كانت تهدف إلى المحبة والتسامح والعيش المشترك…