تزييف بغداد… بعد ترييفها

ليس هناك استطلاع للرأي العامّ في العراق لكي نعرف مستويات شعبيّة هذا الزعيم السياسي أو ذاك. لكن هل هناك أهميّة لذلك الرأي في ظلّ تمكّن الأحزاب والميليشيات من السلطة؟

رغب الشعب أم لم يرغب فإنّ أحداً لن ينصت إليه. محبّته وكراهيته لا تؤثّران على الميزان الذي يعمل بمزاج لا علاقة له بالمنطق السياسي في أقلّ تقديراته. فمفهوم تداول السلطة ديمقراطياً قد اكتسب منذ بداياته طابعاً مغلقاً لا يسمح لغير أفراد الطبقة السياسية التي زكّتها سلطة الاحتلال الأميركي بالوصول إلى مواقع القرار على الأصعدة كافّة. فلا يُسمح لاقتصادي نزيه على سبيل المثال بالاطّلاع على عقود الاستيراد ولا لمهندس وطني بالإشراف على مناقصات البناء ولا لمعلّم عفيف بالمشاركة في تأليف المناهج المدرسية ولا لصيدلي نظيف اليد بمراقبة الأدوية المستوردة التي يجهل العراقيون حقيقة فاعليّتها وتأثيرها بعدما حلّ الزيف محلّ الحقيقة.

كان هناك حديث سابق عن ترييف العاصمة بغداد. ذلك حديث صحيح. فالمدينة التي يسكنها اليوم عشرة ملايين نسمة هي في الحقيقة لا تستوعب إلا ثلاثة ملايين. ما الذي نفعله بالسبعة ملايين الأخرى؟ جماهير الأحزاب والميليشيات زحفت لتصنع مشهداً زائفاً لمدينة لا تملك حلولاً خدميّة للثلاثة ملايين من سكّانها على مستوى الماء والكهرباء والصحّة والتعليم والصرف الصحّي والمواصلات.

خذل مقتدى الصدر أتباعه، ولطالما وصفهم علناً بالجهَلة. إنّه جاهل يسخر من أتباعه الجهَلة. لطالما اعترف أنّه يقود مجموعة من الفاسدين واللصوص والأفّاقين والمحتالين، فهل أثّرت اعترافاته على مستوى شعبيّته؟

التزييف بعد الترييف

تراجع الترييف ليتقدّم التزييف، تزييف المظهر والجوهر على حدّ سواء. فمقتدى الصدر، وهو إحدى علامات القيامة العراقية، يتبعه كما يُقال سبعة ملايين إنسان، أغلبهم من الجهَلة والفقراء واليائسين من الحياة الدنيا ويتقدّمهم المنافقون والفاسدون والمنتفعون. مقتدى الصدر ظاهرة قُدّر لها أن تكون سياسية على الرغم من أنّها ليست كذلك. جزء كبير من تلك الظاهرة يقع في الخرافة.

لا أحد يزعم أنّه رجل دين على الرغم من لباسه الديني التقليدي. ووجود أتباعه في مجالس النوّاب والحكومات المتلاحقة يهبه هالة سياسية. حتى إنّ الإعلام الغربي في بعض لحظات إلهامه الزائف كان يصفه بـ”الرقم الصعب في العملية السياسية”.

ما أهزلها تلك العملية السياسية التي يكون فيها الصدر رقماً صعباً!

هي أكثر هزالاً ممّا نتوقّع إذا عرفنا أنّ رجلاً مثل نوري المالكي هو عرّابها. فلو كان المالكي موجوداً في أيّة دولة يحكمها القانون لكان السجن مكانه بعدما قاد الجيش العراقي إلى هزيمة أدّت إلى احتلال ثلثَي أراضي العراق من قبل تنظيم إرهابي قدِم مقاتلوه إلى العراق عام 2014 بسيّارات مدنية لا تحمل إلا أسلحة خفيفة.

عبر سنوات تألّقه ظلّ مقتدى الصدر متوّجاً بكراهية الطبقة السياسية الحاكمة التي هو جزء منها. هُزم مرّات عديدة، وفي اللحظة التي انتصر فيها تخلّى عن أصوات مَن نصروه وباعها بثمن بخس. لكنّ ظاهرته لم تخفُت. هرب غير مرّة إلى قم والنجف، غير أنّ نجمه لم يأفُل.

تراجع الترييف ليتقدّم التزييف، تزييف المظهر والجوهر على حدّ سواء. فمقتدى الصدر، وهو إحدى علامات القيامة العراقية، يتبعه كما يُقال سبعة ملايين إنسان، أغلبهم من الجهَلة والفقراء واليائسين من الحياة الدنيا

لكن من يؤكّد ذلك؟

الفقراء ينسون مَن يخذلهم: جماهير مغيّبة لا ترى من مقتدى سوى عمامته السوداء. لقد كُتب عليهم أن يخلطوا بين حياتهم الواقعية ووعود الآخرة الورديّة. وهو ما يجعل التخلّي عن الشابّ اليتيم نوعاً من الإثم الذي لا يُغتفر بالنسبة لهم. ولكنّ مقتدى عبث بحياتهم ومرّغ كرامتهم بالتراب ونسف قدرتهم على أن يضعوا إرادتهم الوطنية موضع التنفيذ. ينافس مقتدى عدوّه اللدود نوري المالكي بهزائمه.

خذل مقتدى الصدر أتباعه، ولطالما وصفهم علناً بالجهَلة. إنّه جاهل يسخر من أتباعه الجهَلة. لطالما اعترف أنّه يقود مجموعة من الفاسدين واللصوص والأفّاقين والمحتالين، فهل أثّرت اعترافاته على مستوى شعبيّته؟ لا أحد يدري. فهو موجود وسيظلّ موجوداً لأنّ وجوده ضروريّ للعملية السياسية التي يجب أن تستمرّ في سياق المعادلة التي وضعها الأميركيون وكان مقتدى أحد أضلاعها.

إقرأ أيضاً: حسب الشيخ جعفر: أبجديّة بلاد تختفي

سيُقال إنّه كذبة. ولكنّ كلّ ما جرى في العراق بعد الاحتلال الأميركي هو نوع من الكذب. قبل ذلك تمّ تزييف العقل العراقي بحيث صار قادراً على القبول بالصدر والمالكي وهادي العامري وعمّار الحكيم ومحمد الحلبوسي زعماء سياسيّين وهم لا يصلحون للقيام بوظيفة عامة. وهو ما جعل من العراق دولة وهميّة قد يكون الفشل صفة ترقى بها إلى مستوى لا تستحقّه. فالعراق الذي ما يزال يحتفظ بمقتدى باعتباره درّة السياسة هو دولة على الورق، دولة افتراضية في حاجة إلى إرادة وطنية تصنع منها وطناً.

إقرأ أيضاً

باسيل بعد جعجع: دفع الثمن مرّتين!

ثمّة خصامٌ شديدٌ بلغَ أحياناً حدّ العداء الشرس، بين سمير جعجع وجبران باسيل، بصفة الأخير وريثاً لميشال عون. مع أنّه لا دمَ مباشراً بين الاثنين….

يحيى جابر يفتح جرح جمّول: بيّي… حارب وانهزَم بِعَنجَر

في حين يبحث الحزب عن شرعية وطنية بين رميش والهبّارية، ليقول إنّ إسرائيل تقصف كلّ الطوائف… يفتح يحيى جابر جرح اغتيال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية…

أزمة المعارضة اللبنانية… السياسة دون أهلها

في لبنان معارضات كثيرة. معارضات لا تجتمع تحت سقف أو تتوحّد حول هدف معيّن أو مطلب محدّد. على الرغم من ذلك تنادي كلّها بالأهداف وبالمطالب…

اجتياح رفح: الخلاف “التكتيكي” بين بايدن ونتنياهو

واشنطن ترفع بطاقة صفراء في وجه إسرائيل. لكنّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو مستمرّ في المناورة والمماطلة في المفاوضات والتهديد بمواصلة الحرب واجتياح رفح. يراهن…