التمايزات في جدّة لا تلغي مسار وقف الصراعات

اختار عدد من القادة العرب وبعض العواصم العالمية تجاوز بعض التمايزات التي ظهرت في وقائع قمّة جدّة ثمّ في قراراتها ومواقف بعض الزعماء الحاضرين، لأنّ السقف الذي انعقدت في ظلّه يتقدّم بالأهميّة على تلك التمايزات. وهو السقف الذي حدّدته المملكة العربية السعودية بقول وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان: “نؤكّد لدول الجوار وللأصدقاء في الشرق والغرب أنّنا ماضون للسلام بما يحقّق مصالح شعوبنا ويصون حقوق أمّتنا، وأنّنا لن نسمح بأن تتحوّل منطقتنا إلى ميادين للصراعات، ويكفينا مع طيّ صفحة الماضي تذكّر سنوات مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة”.

قد لا تحول هذه التمايزات دون مواصلة المسار الذي رسمته القمّة وفقاً للقاعدة التي رسمها وليّ العهد السعودي بتصفير المشاكل والخلافات، إلا أنّها تلقي الضوء على العقبات التي تواجه هذا المسار، والجهد الذي يقع على كاهل العمل العربي المشترك، وفي الطليعة القيادة السعودية، في قابل الأيام. فمع ارفضاض القادة العرب انصبّ اهتمام الرياض مع الولايات المتحدة الأميركية على إخراج اتفاق الهدنة القصيرة المدى لوقف الحرب الدائرة في السودان. وقفت الصراعات والمشاكل العربية على باب قاعة اجتماعات القادة تنتظر خروجهم منها.

اختار عدد من القادة العرب وبعض العواصم العالمية تجاوز بعض التمايزات التي ظهرت في وقائع قمّة جدّة ثمّ في قراراتها ومواقف بعض الزعماء الحاضرين، لأنّ السقف الذي انعقدت في ظلّه يتقدّم بالأهميّة على تلك التمايزات

 

في وقت خطفت الأضواءَ مشاركةُ الرئيس السوري بشار الأسد وحضورُ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي القمّة، سجّل معنيّون بمراقبة ما نتج عن هذين الحدثين الآتي:

1- موسكو تتجاوز حضور زيلينسكي وهجومه:

إذا صحّ أنّ الرياض أحدثت توازناً في العلاقة بينها وبين كلّ من الولايات المتحدة الأميركية باستجابتها للطلب الغربي استضافة زيلينسكي، وروسيا بتجاوبها مع نصائح الأخيرة وطلب طهران إنهاء القطيعة مع الأسد، فإنّ القيادة الروسية التي فوجئت بحضور الرئيس الأوكراني، وانزعجت من خطابه الذي هاجم فيه الرئيس فلاديمير بوتين، متّهماً إيّاه بـ”الإرهاب”، قرّرت حسب المتّصلين بالخارجية الروسية عدم الردّ على هذه الواقعة وما أحاط بها، ولا على كلام عدوّها اللدود. فالأخير أُعطي أكثر من 30 دقيقة لإلقاء خطابه، فيما كان طُلب إلى الرؤساء العرب ورؤساء الوفود اقتصار كلماتهم على خمس دقائق. وكان يفترض، كما أشار المتّصلون مع موسكو، بمنظّمي القمّة أن يطلبوا إلى زيلينسكي الاختصار. لكنّ موسكو تعاطت بليونة مع الأمر لأنّ ما يجمعها مع الرياض يفوق أهميّة استفادة زيلينسكي من المنبر الإقليمي الدولي الذي شكّلته قمّة جدّة وانجذبت إليه الأنظار، بل إنّ روسيا حقّقت بعد ساعات على انتهاء القمّة انتصاراً مدوّياً على الأرض بالسيطرة على مدينة باخموت يفوق صدى حضور زيلينسكي. وهي ستواصل التنسيق مع الرياض في شتّى المجالات التي تساعدها على مقاومة سياسات العزل التي يمارسها الغرب ضدّها وتجلّت بمزيد من العقوبات التي قرّرتها قمّة الدول الصناعية السبع في هيروشيما في اليابان.

تراهن القيادة الروسية على السياسة السعودية الجديدة المستقلّة، وتتطلّع إلى انضمام المملكة إلى مجموعة دول “بريكس” (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا) التي بدأت نهج التبادل التجاري بالعملات الوطنية للدول الأعضاء، وهو ما يجنّب موسكو وغيرها التعاطي بالدولار الأميركي تفادياً للعقوبات.

2- الانزعاج من هجوم الأسد على إردوغان:

انزعجت موسكو في المقابل من الهجوم الذي شنّه الأسد على القيادة التركية والرئيس رجب طيب إردوغان من منبر القمّة، حين تناول “خطر الفكر العثماني التوسّعي المطعّم بنكهة إخوانيّة منحرفة”. فهو بذلك يواصل تمنّعه عن التجاوب مع سعي موسكو إلى المصالحة التركية السورية، على طريق إيجاد الحلول التدريجية لمنطقة الشمال السوري حيث الوجود العسكري التركي، وذلك ضمن واحدة من الخطوات التي تشمل عودة النازحين السوريين في تركيا، وهو ما يسهّل البدء بالحلّ السياسي للأزمة السورية الذي تصرّ عليه القيادة الروسية.

المناخ السائد لدى الدبلوماسية الروسية في هذا الصدد أنّه مثلما تمنّع الأسد في الأشهر السابقة عن القبول بعقد اجتماعات بين وزراء الدفاع الروسي والتركي والسوري ورؤساء الاستخبارات ثمّ عاد عن تمنّعه وقبل بذلك، ورفض عقد اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث الذي انضمت إليه إيران، ثمّ اضطرّ إلى القبول به، فإنّ الجانب الروسي ينتظر انتهاء الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية في 28 الجاري، فإذا نجح إردوغان فستضغط موسكو على الأسد، “وسيحضر الاجتماع الرباعي الذي تنوي استضافته على مستوى القمّة، بعدما كانت حجّته رفض إفادة رئيس حزب “العدالة والتنمية” من الاجتماع في الانتخابات”. وشاءت الصدف أنّ إردوغان ردّ على اشتراط الأسد انسحاباً تركيّاً من شمال سوريا للقبول بالتطبيع مع أنقرة، بالتأكيد من جهته في حديث إلى CNN في اليوم نفسه لافتتاح قمّة جدّة أنّه “لا يوجد اعتبار لذلك (سحب القوات) في الوقت الحالي لأنّ التهديد الإرهابي ما يزال قائماً”.

لم تخلُ مشاركة الأسد في القمّة وخطابه فيها من بعض التحفّظات العربية المستقلّة عن الاعتراض الأميركي والأوروبي على التطبيع معه

3- الأسد “يستغني” عن “الحضن العربيّ”:

لم تخلُ مشاركة الأسد في القمّة وخطابه فيها من بعض التحفّظات العربية المستقلّة عن الاعتراض الأميركي والأوروبي على التطبيع معه. فقد وصف المطّلعون على هذه التحفّظات خطاب الأسد بأنّه تكرار لأسلوب ونهج قديمين يعكسان قناعة بأنّ الرجل لم يغادر اللحظة السياسية السابقة على 15 آذار 2011 (اندلاع الثورة السورية). وإذ تشارك موسكو حليفة الأسد في تبنّي هذا الوصف من خلال تبرّمها من تلكّؤ الرئيس السوري في التجاوب مع دعواتها إلى ولوج الحلّ السياسي للأزمة السورية، فإنّ العبارة التي استخدمها بعض من انخرطوا في أعمال القمّة هي “امتعاض” من الأسلوب “المدرسيّ” الذي اعتاد الرئيس السوري أن يخاطب به القادة العرب في القمم العربية منذ تسلّم زمام الحكم عام 2000 إثر وفاة والده. تجلّى ذلك في تناوله للعمل العربي المشترك، وفي حديثه عن العروبة وتسخيفه شعار عودة سوريا إلى “الحضن” العربي، حين قال إنّ العروبة هي بالانتماء موحياً بأنّه يستغني عن “أحضان العروبة” لأنّ سوريا “قلبها”، جرياً على قاعدة الفريق الحاكم في دمشق بأنّ ما يهمّه هو عودة العلاقات الثنائية مع الدول العربية لا العودة إلى مؤسّسة الجامعة العربية.

4- امتعاض من التأسيس لعرقلة الحلول:

مع أنّ سوريا وافقت على مقرّرات القمّة التي نصّت في بند سوريا على مندرجات بيان اجتماع وزراء خارجية السعودية، مصر، العراق، الأردن وسوريا، الذي انعقد في عمّان في الأوّل من أيّار، لجهة السعي إلى الحلّ السياسي للأزمة السورية وفق مبدأ الخطوة مقابل خطوة، وقرار مجلس الأمن الرقم 2254، فإنّ الرئيس السوري المعروف برفضه هذا القرار الذي يتناول جوانب الأزمة السورية كافّة وينصّ على قيام حكم انتقالي، أسّس من خلاله لحجج تمنّعه عن المباشرة في تطبيق مندرجات هذا القرار. فهو دعا إلى “ترك القضايا الداخلية لشعوبها، فهي قادرة على تسيير شؤونها، وما علينا إلا أن نمنع التدخّلات الخارجية في بلدانها، فنساعدها عند الطلب”.

الذين رصدوا بعض ردود الفعل على حضور الأسد، قبل خطابه وأثناءه، أشاروا إلى نوع من الامتعاض المصري والأردني، فضلاً عن التحفّظ القطري الذي ظهر في حرص أمير قطر الشيخ تميم بن خليفة آل ثاني على المغادرة قبل إلقاء الأسد كلمته. فالقاهرة وعمّان كانتا تفضّلان الحصول على وعود بخطوات عملية من الأسد، في ما يتعلّق بالحلول السياسية، مقابل حضوره القمّة. ومعظم المراقبين يستدلّ في خطابه تمهيداً لوضع الشروط على الحلّ السياسي، على الرغم من إبدائه تجاوباً في عنوان مكافحة إنتاج وتهريب المخدّرات إلى دول الخليج انطلاقاً من سوريا.

إقرأ أيضاً: قمّة السّعوديّة مع العرب!

يلقي كلّ ذلك وغيره الضوء على الصعوبات التي ستواجهها مهمّة اللجنة الوزارية العربية التي شكّلها وزراء الخارجية العرب من السعودية، مصر، العراق، الأردن، ولبنان، والأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط. فوزير الخارجية السوري فيصل المقداد ونائبه أيمن سوسان استبقا التئام القمّة باشتراط التمويل قبل عودة النازحين، (مع ما يعنيه من تخطّي الدول العربية للعقوبات). إذ قال الأوّل إنّها تتطلّب إمكانات، وأوضح الثاني أنّ لها متطلّبات.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…