أنجيلينا جولي في السودان.. هل يجب أن نقلق؟

في عام 2009 زارت الممثّلة الأميركية الأشهر أنجيلينا جولي دمشق، وهناك التقطت العديد من الصور مع اللاجئين العراقيين في سوريا. وفي عام 2012 زارت إسطنبول، حيث التقطت العديد من الصور مع اللاجئين السوريين في تركيا. وفي العام 2015 زارت بيروت واجتمعت بوزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق وتفرّغت بعدها لزيارة مخيمات النازحين السوريين والتقاط الصور.
على مدى سنوات زارت السيّدة جولي السودان. كانت بعض الزيارات تضامناً مع جنوب السودان قبل الانفصال، وبعضها كان تضامناً مع إقليم دارفور.
هل تمثِّل أنجيلينا جولي دوراً إنسانياً حقيقياً كان له تأثيره الإيجابي على حياة اللاجئين والنازحين، وله إسهام في نبذ الصراعات ووقف الحروب، أم كانت جولاتها لحصد المزيد من الشهرة والكثير من التقدير، أم الأمر ليس هذا ولا ذاك بل هو دور سياسي مرسوم، ظاهرهُ ينطق بالخير والجمال، وباطنهُ يُضمر صناعة الخطر؟

جورج كلوني في السودان
في عام 2008 تمّ تعيين الممثّل الأميركي الشهير جورج كلوني مبعوثاً للسلام بالأمم المتحدة، وفي عام 2014 استقال من المنصب. كان الدور الأساسي وربّما الوحيد لجورج كلوني في خلال السنوات التي قضاها في الأمم المتحدة هو المساعدة في انفصال جنوب السودان، ثمّ الضغط على السودان “الشمالي” من أجل أقاليم دارفور وجنوب كردفان. لا شيء آخر مهمّ في السيرة السياسية للسيّد كلوني بشأن السلام.
في ربيع عام 2012 نشرت الصحف صورة شهيرة لجورج كلوني وهو مقيّد اليدين بعد اعتقاله من قبل الشرطة، إثر تظاهرة أمام السفارة السودانية في واشنطن تدعم ولاية جنوب كردفان في مواجهة الخرطوم، وهي ولاية سودانية متاخمة لدولة جنوب السودان الجديدة، التي كانت قد انفصلت قبل أقلّ من عام.
في عام 2014 اعتذرت الحقوقية أمل كلوني زوجة جورج كلوني باتفاق بينهما عن المشاركة في لجنة تحقيق الأمم المتحدة بشأن العدوان الإسرائيلي على غزّة.

في كلّ بلد في العالم لا تُعدّ المؤامرات الخارجية أمراً مدهشاً، فالعالم يتآمر بعضه على بعض، والقوى الكبرى تتآمر على القوى الكبرى والصغرى

أمل كلوني في القاهرة
كان جورج كلوني متأثّراً بأوضاع السودانيين في الجنوب، ثمّ بأوضاعهم في جنوب الشمال، وبأوضاعهم في دارفور، لكنّه لم يتأثّر بأوضاع الفلسطينيين في غزّة. وبينما كان ينادي بتحقيق دولي في كلّ أحداث السودان، رفض مع زوجته المشاركة في تحقيق أمميّ بشأن الانتهاكات الإسرئيلية في فلسطين.
قالت السيّدة أمل كلوني إنّها لا تجد الوقت للمشاركة في تحقيق الأمم المتحدة بشأن فلسطين، لكنّها بعد أربعة أشهر فقط كان لديها الوقت للوصول إلى القاهرة للمشاركة في قضية فردية. ثمّ راحت كلوني تقول لوسائل الإعلام قبل وصولها إلى القاهرة مطلع عام 2015 إنّها مهدّدة بالاعتقال من قبل السلطات المصرية.
لم تعتقل السلطات المصرية أمل كلوني، وقال لي الإعلامي محمد فهمي صاحب القضية التي جاءت أمل كلوني بشأنها إنّ محاميتي السيّدة كلوني وجدت تعاوناً كبيراً واحتراماً لدورها ومهنتها، وقال لي السيّد إبراهيم محلب رئيس الوزراء المصري الذي استقبل السيّدة كلوني في مكتبه بمقرّ الحكومة وسط القاهرة: “لقد طلبت زيارتي ووافقت. وقد تناولت القهوة وتحدّثت لمدّة خمس عشرة دقيقة، ولم تجد أيّ تعنّت حكومي بشأن مسار القضية”. وفي وقت لاحق تمّ الإفراج عن الأستاذ محمد فهمي.

أنجيلينا في السودان
قبل سنوات نشرت صحف سودانية عديدة خبراً صحافياً مفاده أنّ أنجيلينا جولي ستذهب إلى السودان بصحبة الممثّل الأميركي توم كروز لتمثيل مشاهد فيلم بعنوان “من هنا يبدأ التاريخ”. وكان ضمن الخبر أنّ قطر قامت بتمويل الفيلم الهوليوودي الذي سيعرض تاريخ السودان. لم يكن الخبر صحيحاً، وقد نفت قطر ما نُشر بهذا الصدد.
لكنّ خبراً آخر ربّما كان أكثر دقّة يتعلّق برغبة السيّدة جولي بزيارة السودان للتوسُّط في وقف القتال بالخرطوم ولقاء قائد الجيش وزيارة قوات الدعم السريع.
في عام 2001 أصبحت أنجيلينا جولي سفيرة الأمم المتحدة للنوايا الحسنة. وفي عام 2022 استقالت من المنصب. وفي خلال عشرين عاماً زارت جولي مناطق نزاع عديدة في العالم، من أفغانستان إلى لبنان، ومن كمبوديا إلى السودان، ومن بنغلاديش إلى سيراليون.
في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا قامت السيّدة جولي بحملة لمساعدة اللاجئين الأوكران، وقالت إنّ عدد اللاجئين والنازحين قبل حرب أوكرانيا كان 82 مليون إنسان، تمثّل سوريا الرقم الأعلى بـ6 ملايين نازح ولاجئ، وتضيف أوكرانيا ملايين أخرى ليقارب الرقم المأساوي تسعين مليوناً.

أنجيلينا جولي.. الطيّبة
ثمّة وجه مشرق للسيّدة أنجيلينا جولي في مجال الإغاثة والأعمال الإنسانية، فلقد زارت العشرات من مخيّمات اللاجئين في العالم، وعرّضت نفسها لمخاطر عديدة. ولم يكن مرورها سريعاً، بل كانت تمكث ساعاتٍ وأيّاماً حتى تلتقي اللاجئين والمسؤولين وتتناقش معهم في كلّ شيء.
في عشرين عاماً وداخل عشرين دولة، قضت جولي أوقاتاً عصيبة في المعسكرات وبين المسؤولين الحكوميين وقادة منظّمات الإغاثة بحثاً عن حلّ.
لم تكن أنباء جولات أنجيلينا جولي تسيطر وحدها على وسائل الإعلام، بل كانت أنباء تبرّعاتها من مالها الخاص بملايين الدولارات تتوالى باستمرار.
في هاييتي كانت أوّل متبرّعة لأعمال الإغاثة بمبلغ 1 مليون دولار، وتبرّعت للّاجئين السودانيين. وحسب سجلّات الضرائب الأميركية فقد بلغت تبرّعاتها حتى عام 2006 نحو 8 ملايين دولار.
في سيل مبادراتها الإنسانية قامت جولي بـ60 زيارة، كانت نفقات السفر والإقامة فيها جميعاً على حسابها الشخصي.

أنجيلينا جولي.. الشرّيرة
ثمّة رواية موازية للسيرة الخيرية للسيّدة أنجيلينا جولي ترى فيها جاسوسة أميركية، وعميلة لجهاز الاستخبارات المركزية الأميركية، وأنّ مجمل نشاطها الإنساني ليس إلّا في إطار دور سياسي مرسوم.
تتحدّث الرواية الموازية عن السرعة المذهلة لصعود دور أنجيلينا جولي الإنساني. ففي عام 2000 زارت كمبوديا من أجل تصوير فيلم المغامرات “تومب رايدر”، ثمّ بدأت الحديث عن الدور الإنساني عام 2001، وسرعان ما كانت أوّل من يحصل على “جائزة مواطن العالم” من رابطة المراسلين المعتمدين لدى الأمم المتحدة عام 2002، ثمّ حصلت في عام 2007 على جائزة الحرّية من لجنة الإنقاذ الدولية مناصفةً مع الأمين العام للأمم المتحدة الحالي السيد أنطونيو غوتيريش، وكان وقتذاك المفوّض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
كان يمكن لجائزة الحرّية ألّا تثير لغطاً، غير أنّ دخولها “مجلس العلاقات الخارجية” في واشنطن في العام نفسه هو ما أثار الشكوك في وجود أدوار سياسية للسيّدة جولي التي سرعان ما زارت السودان وتشاد في العام نفسه، ثمّ أفغانستان في العام التالي.
في عام 2018 زارت جولي مدينة الموصل بعد أقلّ من سنة واحدة على تحريرها من تنظيم داعش.

سينما الأمن القوميّ

في عام 2010 نفت أنجيلينا جولي أن تكون عميلة لـCIA، وقالت لوكالة الأنباء الفرنسية: لا يمكنني الاحتفاظ بأيّة سِرّيّة، ولم أكن في حياتي جاسوسة على الإطلاق. لكنّ نائباً في البرلمان التركي اتّهم جولي في عام 2012 بالعمل لحساب CIA، وأنّها ليست سوى واجهة لوكالة الاستخبارات، وأنّ إشادتها بمخيّمات اللاجئين السوريين في تركيا ليست إلّا جزءاً من تعزيز الحروب بالوكالة في المنطقة.
في عام 2021 أصدر خبير المعلومات توم سيكر كتاباً بعنوان “سينما الأمن القومي”، ذهب فيه إلى أنّ جولي هي عميلة استخبارية.
حسب تقرير لصحيفة الصن البريطانية عن الكتاب، فإنّ سيكر يرى أنّ أنجيلينا جولي واجهة مثالية لمجتمع الاستخبارات، وأنّ تجنيدها ربّما كان في عام 2000 أو قبله أو بعده بقليل.
حين وصل الرئيس أوباما إلى السلطة قام بتعزيز فكرة التدخّل الإنساني، وبحسب الكتاب ليس ما هو أفضل من نجمة كبيرة في هوليوود تصلح واجهة للتوجّه السياسي الجديد للسياسة الخارجية الأميركية.
تحدّث سيكر في “سينما الأمن القومي” عن الصلة بين أنجيلينا جولي ومدير CIA السابق الجنرال ديفيد بتريوس ولقائهما في بغداد عام 2008، حين كان بتريوس القائد الأعلى في العراق. وتحدّث عن دورها في إسقاط مدير المخابرات الأميركية لاحقاً، وقيامها ببطولة فيلميْن جرى دعم إنتاجهما من الـCIA. ثمّ يتساءل سيكر: لماذا يتمّ اختيار جولي عضواً في أحد أكبر مراكز التفكير الاستراتيجي في أميركا وهو “مجلس العلاقات الخارجية”؟ ولماذا تلتقي مع مدير جهاز الاستخبارات البريطانية في أعقاب مغادرته المنصب مباشرة، وقد كان مديراً لجهاز استخبارات هو الحليف الأقوى لـCIA؟

إقرأ أيضاً: الجيش الموازي في السودان: دولة أم لا دولة؟

لماذا يجب ألّا نقلق؟
ربّما كانت الرواية الموازية عن الدور السياسي لأنجيلينا جولي رواية مثيرة وجذّابة، لكنّها لا تستند إلى أدلّة قويّة، فالصلة بالجنرال ديفيد بتريوس وبطولة أفلام مدعومة من CIA ليستا دليلاً كافياً على انخراط جولي في أعمال استخبارية. وسواء كانت هذه الرواية صحيحة أم لا، فإنّ ذلك لا يدعو للقلق. فالوضع في السودان، وبغضّ النظر عن تدخّل أطراف إقليمية أو دولية، هو صناعة سودانية، أو هو بالأحرى صناعة إخوانية. ما فعله عمر البشير وحسن الترابي عام 1989 يتجلّى الآن في عام 2023، والنتيجة الكارثية هي نهاية طبيعية لبداية كارثية.
في كلّ بلد في العالم لا تُعدّ المؤامرات الخارجية أمراً مدهشاً، فالعالم يتآمر بعضه على بعض، والقوى الكبرى تتآمر على القوى الكبرى والصغرى، ولا يحتاج الأمر إلى وثائق سرّية للغاية، فالمعارك كلّها علنيّة وصاخبة.
ليس الخطر في مَن يُحيكون المؤامرات التي هي من طبائع السياسة الدولية، بل الخطر في مَن يواجهون هذه المؤامرات بالضجيج، والفساد، والجهل.
لا توجد مؤامرة قويّة، بل توجد أمّة ضعيفة، وحكومة فاشلة.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…