بين الحُضن والقلب… عروبةُ الخِيار وواقعيّتُه

حرِصت القيادةُ السوريّة على تسريبِ معلومةٍ في قمّة جُدّة تقول إنّ الوفد السوري لم يضع سمّاعات الترجمة حين ألقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خطابه. وفي الحرص تبريرٌ لعدم خروج الوفد اعتراضاً، ذلك أنّ الروابط الاستراتيجية الجامعة بين دمشقَ وموسكو منذ عام 2006، تفترضُ عدمَ تقبّل خطابٍ “لائمٍ” من زيلينسكي يُفنّد فيه ما وصفه بجرائم روسيا.

لكنّ الواقعية أبقت الوفد جالساً ولو ممتعِضاً، فيما كانت الواقعيّة أيضاً تدفع الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين إلى بعث رسالةِ تهنئة إلى السُعُوديّة على نجاحِ حدثِ القمّة قال فيها إنّ “مواصلةَ توسيع التعاون المتعدّد الأوجه بين روسيا والدول العربيّة تُلبّي مصالحَنا المُشتركة بشكل كامل، وتتماشى مع نظامٍ أكثر عدلاً وديمقراطيّة للعلاقات الدوليّة يقوم على مبادئ تعدّد الأقطاب والمساواة الحقيقيّة واحترام المصالح المشروعة للجميع”.

الدور الروسي في العودة العربية للأسد

لم تكن روسيا بعيدةً عن إعادة اللُحمة بين العرب والأسد. ربّما ستكشف وثائق الغرف المُغلقة يوماً أنَّ الدبلوماسيّة الروسية من فلاديمير بوتين مروراً بسيرغي لافروف وصولاً إلى ميخائيل بوغدانوف، كانت المُبادِرة إلى الحثّ على الانفتاح، واستمرّت تعمل على إنجاحه حتّى عشيّة القمّة، خصوصاً بعدما سرت معلوماتٌ عن تردّد الأسد في الحضور، أو عن تهديدِ قادةٍ عرب بالمقاطعة لو حضر. تماماً كما ينشط بعض هذه الدبلوماسيّة الروسيّة اليوم، بعيداً عن الأضواء، لطمأنةِ بعضِ القلقين في لُبنان من خصومِ الأسد على مستقبل العلاقة مع دمشق. فبوغدانوف نفسُه تواصل مع أصدقاء لُبنانيين في الآونة الأخيرة لهذا الغرض.

لا شكّ في أنّ التفاهمَ الإيراني السعودي في الصين سهّل وسرّع استعادة العلاقات السُعودية السورية، لكن لا بُدَّ من النظر إلى الأمر من زاوية أخرى أوسع وأشمل. فالأمير محمّد الذي رسّخ شعبيّته الداخليّة بإصلاحاته الاستثنائية

كانت ضربةَ معلّم تلك التي جمعت الأسد مع زيلينسكي تحت سقفٍ عربيّ واحد. ربّما أكّدت العنوان العريض لاستراتيجية الأمير محمّد بن سلمان في الموازنة الدقيقة بين الشرق والغرب، فوليّ العهد الذي روّض عنجهيّة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، لم ولن يعتبر يوماً أنَّ أميركا أو الغرب الأطلسي خصمان، وإنّما ردّ على مَن أراد أن يجعل “السعوديّة دولةً منبوذة”، بأنْ جعلها عبر التحالف مع الصين وروسيا، ومن خلال تصفير المشاكل مع إيران وتركيا، والمصالحة مع قطر، والبدء بإنهاء حرب اليمن، وطيّ صفحة الخلاف (الذي ورثه) مع الأسد، دولةً مقصودةً ومرصودةً وربّما محسودة أيضاً، ينشد الجميعُ رضاها.

السياسة الواقعيّة أيضاً هي التي دفعت الأسد إلى إلقاء خطاب هادئ، لا اتّهامَ فيه لأحد ولا عداءَ إلّا لإسرائيل ولِما وصفه بخطر الفكر العثمانيّ التوسّعيّ المطعّم بنكهةٍ إخوانية منحرفة. وهي الواقعيّة نفسُها التي جعلت البيانَ الختامي للقمّة يتجنّب كلَّ كلامٍ عن وجوب حلّ سياسي في سوريا، والاكتفاء بالحديث عن الحرص على وحدة وسلامة الأراضي السورية واستئناف دور دمشق الطبيعيّ في الوطن العربيّ.

التفاهم السعودي الإيراني سهّل وسرّع

لا شكّ في أنّ التفاهمَ الإيراني السعودي في الصين سهّل وسرّع استعادة العلاقات السُعودية السورية، لكن لا بُدَّ من النظر إلى الأمر من زاوية أخرى أوسع وأشمل. فالأمير محمّد الذي رسّخ شعبيّته الداخليّة بإصلاحاته الاستثنائية، ووازن سياسته الخارجيّة بين الغرب والشرق، وصفّر المشاكل مع الجيران، قد وضع في قمّة جُدّة اللبنات الأولى لمشروعٍ عربيّ ستكون السعودية في طليعته، ولخّصه بجملٍ قصيرة أبرزها: “نؤكّد لدول الجوار، وللأصدقاء في الغرب والشرق، أنّنا ماضون إلى السلام والخير والتعاون والبناء، بما يحقّق مصالحَ شعوبِنا، ويصون حقوقَ أمّتنا، وأنّنا لن نسمح بأنْ تتحوَّل منطقتُنا إلى ميادين للصراعات، ويكفينا مع طيّ صفحة الماضي، تذكُّر سنواتٍ مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة، وعانت منها شعوبُها وتعثّرت بسببها مسيرةُ التنمية”.

إقرأ أيضاً: ما هي الآليات العربيّة في التحوّلات الدوليّة بعد “جُدّة”؟

ولو أضفنا إلى هذا التشخيص ما قاله الأمير محمد عن أنّ القضية الفلسطينيّة كانت وما زالت قضيّة العرب والمسلمين المحوريّة، وأنّها تأتي على رأس أولويّات سياسةِ المملكةِ الخارجيّة، يُمكن أن نتلمّس بشائرَ مشروعٍ عربيٍّ قابلٍ لطيّ صفحة الصراعات، وواعدٍ بالاتّجاه نحو التنمية والاقتصاد، وقادرٍ على جمع العرب من الحضن إلى القلب (حتّى لو أنّ الأسد اعترض على عبارة الحضن)، ذلك أنّ تقلّبات العالم والمخاطر المُحدقة بالعرب بعد حربِ أوكرانيا، وقبيلَ حروبٍ أخرى قد تكون أشرس، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى توجّهات قمّة مجموعة السبع اليوم في هيروشيما حيال الصين وروسيا التي تفرضُ الخروج من عصر الفتن العربيّة-العربيّة، مع كلّ ما تطويه من جراح ومظالم، ووضع مشروع عربيّ واضح وفعّال لمواجهة المراحل المُقبلة.

إقرأ أيضاً

باسيل بعد جعجع: دفع الثمن مرّتين!

ثمّة خصامٌ شديدٌ بلغَ أحياناً حدّ العداء الشرس، بين سمير جعجع وجبران باسيل، بصفة الأخير وريثاً لميشال عون. مع أنّه لا دمَ مباشراً بين الاثنين….

يحيى جابر يفتح جرح جمّول: بيّي… حارب وانهزَم بِعَنجَر

في حين يبحث الحزب عن شرعية وطنية بين رميش والهبّارية، ليقول إنّ إسرائيل تقصف كلّ الطوائف… يفتح يحيى جابر جرح اغتيال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية…

أزمة المعارضة اللبنانية… السياسة دون أهلها

في لبنان معارضات كثيرة. معارضات لا تجتمع تحت سقف أو تتوحّد حول هدف معيّن أو مطلب محدّد. على الرغم من ذلك تنادي كلّها بالأهداف وبالمطالب…

اجتياح رفح: الخلاف “التكتيكي” بين بايدن ونتنياهو

واشنطن ترفع بطاقة صفراء في وجه إسرائيل. لكنّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو مستمرّ في المناورة والمماطلة في المفاوضات والتهديد بمواصلة الحرب واجتياح رفح. يراهن…