السوداني.. نحو الواقعيّة بانتظار الفرصة المناسبة

يبدو أنّ سفينة الطموحات الحكومية لرئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لا تتوافق مع اتجاهات الريح التي تهبّ من داخل “الإطار” الشيعي خاصة، وتحالف “إدارة الدولة” عامة.

يُعتبر “تحالف الدولة” الجهة التي ترعى هذه الحكومة، إذ اتّفقت أقطابه على ترشيح السوداني لشغل هذا الموقع على رأس السلطة التنفيذية، وتمّت ترجمته في الاتفاق التاريخي الذي تمّ توقيعه أواخر شهر أيلول الماضي 2022 بين “الإطار التنسيقي” وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني (بقيادة بافل طالباني) من طرف، والحزب الديمقراطي الكردستاني (بزعامة مسعود بارزاني) وتحالف السيادة بقيادة مشتركة من رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وزعيم المشروع الوطني خميس الخنجر من الطرف الآخر.

يبدو أنّ فرصة الأشهر الستّة، التي وضعها السوداني لنفسه لتقويم أداء أعضاء حكومته وتغيير الوزير الذي لا يواكب البرنامج الحكومي وأهدافه، وهو تعبير مهذّب للفشل

السوداني ومحاربة الفساد

حاول السوداني أن يكون مختلفاً عن أسلافه في إدارة الدولة العراقية ومؤسّساتها، في محاولة جادّة للتأسيس لمبدأ المحاسبة والعقاب على الفساد والتقصير والإهمال والفشل في الدولة، والعمل من أجل النهوض بالواقع العراقي المتردّي جرّاء تراكم الأزمات واستشراء الفساد في كلّ مفاصل الدولة، وتبنّي خيار الذهاب إلى تفعيل المعالجات الاقتصادية، واستطاع في بداية ولايته أن يعبر بحكومته اللغم الذي انفجر بوجهه بداية تسلّمه السلطة والمعروف بـ”سرقة القرن” التي وصلت أرقامها إلى نحو مليارين وسبعمئة مليون دولار.

هذا الحجم من الفساد السياسي والمالي والاقتصادي الذي يعرف تفاصيله السوداني بحكم أنّه كان جزءاً من مؤسّسة الدولة والسلطة، أجبره على الذهاب إلى تسوية في قضية “سرقة القرن”، بعدما أدرك أنّ الثمن سيكون كبيراً في حال اختار الذهاب إلى عملية جراحية كبيرة، إذ ستطال تشعّبات هذه القضية العديد من القوى والأحزاب التي شاركت أو سكتت عن هذه السرقة، وبالتالي قد تدفع به إلى مواجهة مبكرة قد تؤدّي إلى إفشاله أو فشله وتحويله إلى مجرّد أداة تنفيذية تمرّر ما تريده هذه القوى والأحزاب التي تحوّلت في أحد أبعاد عملها إلى غطاء مسلّح سياسياً وعسكرياً لعمليات الفساد في كلّ القطاعات والمشاريع والاستثمارات، إلى جانب هدفها الأساس المتمثّل في الإمساك بالسلطة وإقصاء كلّ مصادر الخطر التي تهدّد مصالحها.

الجدار الذي اصطدم به السوداني

يبدو أنّ فرصة الأشهر الستّة، التي وضعها السوداني لنفسه لتقويم أداء أعضاء حكومته وتغيير الوزير الذي لا يواكب البرنامج الحكومي وأهدافه، وهو تعبير مهذّب للفشل، اصطدمت أيضاً بجدار القوى السياسية، خاصة قوى “الإطار التنسيقي” الذي اختاره لتولّي هذا المنصب باعتباره استحقاقاً للمكوّن الشيعي الذي يمثّله “الإطار” منفرداً بعد انسحاب مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري من العملية السياسية.

يبدو أنّ سفينة الطموحات الحكومية لرئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لا تتوافق مع اتجاهات الريح التي تهبّ من داخل “الإطار” الشيعي خاصة، وتحالف “إدارة الدولة” عامة

النبرة العالية التي أكّد بها السوداني تمسّكه بالتغيير الحكومي لم تنفع معها التراجعات التكتيكية التي لجأ إليها بعد رفض نوري المالكي زعيم حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون وأحد أبرز قيادات “الإطار التنسيقي” الذي نفى أن تكون مسألة تغيير الوزراء قد تمّ بحثها داخل “الإطار التنسيقي”، وهو ما يشكّل رسالة واضحة للسوداني بأنّ صلاحيّاته تقف عند مصلحة القوى التي أنتجت الحكومة، وأن لا تعديل أو تغيير يصدر بعيداً عن هذه القوى، بل لا بدّ أن تكون هذه التعديلات والبدائل المقترحة بالاتفاق والتنسيق معها، وأن تُراعى في ذلك حصّة الجهة السياسية التي ينتمي إليها الوزير المستبعَد.

جاء المخرج الذي لجأ إليه السوداني بتأجيل أو تأخير إجراء التعديل الوزاري الذي واجه رفضاً حاسماً وحازماً من القوى السياسية، وخاصة “الإطار التنيسقي” الذي لم يقبل بأيّ تعديل حتى في موقع وزاري واحد، من ضمن تسوية تتعلّق بحملة تغيير واسعة في صفوف المديرين العامّين في الوزارات وإدارات الدولة والمؤسّسات التابعة لها. وعلى الرغم من أنّها تستفزّ القوى السياسية المشارِكة في الدولة، يشكّل تمريرها مدخلاً إلى ترميم صورتها الشعبية وتقديم نفسها مواكبة ومؤيّدة للبرنامج الإصلاحي للحكومة ورئيسها، خاصة أنّ البدلاء حتى لو كانوا من كوادر الدولة فإنّهم أيضاً يمثّلون هذه القوى.

تفاصيل التسوية

قد تتضمّن التسوية، التي يمكن أن تشكّل مخرجاً للسوداني وتبعده عن الدخول في مواجهة وصراع مع القوى والأقطاب السياسية والحزبية الممثِّلة للمكوّنات العراقية، خاصة أنّ التعديل الوزاري الذي يقترحه يشمل وزراء من جميع المكوّنات، أي سيكون التعديل بالتساوي بينها، تأجيل مسألة التعديل إلى ما بعد إقرار الميزانية العامّة للبلاد. وهي موازنة ضخمة بقيمة 411 مليار دولار موزّعة على ثلاث سنوات هي عمر الحكومة المفترَض. والهدف من هذه التسوية تفريغ اندفاعة السوداني واحتواؤها حتى لا يكون “الإطار التنسيقي” أمام تحدّي الدخول في معركة قد لا تكون لصالحه، خاصة مع إدراكه حجم الدعم الذي تتمتّع به هذه الحكومة ورئيسها من القوى الإقليمية العربية وإيران والقوى الدولية، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية.

من ناحية أخرى، قد يضع إجراءُ تعديل قبل إقرار الموازنة في البرلمان رئيسَ الوزراء السوداني أمام احتمال عدم إقرارها من قبل القوى السياسية التي تشكّل البرلمان، وهو ما يعني إفشال كلّ البرنامج الطموح للسوداني من أجل الدفاع عن مصالح هذه القوى ومن دون الأخذ بعين الاعتبار حجم الاعتراض الشعبي على ذلك.

إقرأ أيضاً: ما هي الآليات العربيّة في التحوّلات الدوليّة بعد “جُدّة”؟

تدرك هذه القوى، وتحديداً “الإطار التنسيقي”، أنّ الحكومة الحالية بقيادة السوداني تشكّل خشبة خلاصهم والانتقال إلى مرحلة الخدمات والإنتاج والتنمية الحقيقية، فضلاً عن أنّ إسقاطها يعني سقوطاً لكلّ مشروعهم السلطوي، باعتبار أنّ هذه الحكومة تشكّل فرصتهم الأخيرة، إلى جانب ما قد يواجهونه من أزمات مع العواصم المعنية بالشأن العراقي، وتحديداً طهران التي تُعتبر مرجعيّتهم السياسية التي عقدت تسوية مع الجوار العربي ومع واشنطن من أجل إنجاح هذه التجربة، خاصة في ظلّ السلوك الإقليمي الجديد للنظام بعد توقيع الاتفاق مع المملكة العربية السعودية.

إقرأ أيضاً

ساعات الخيارات الصّعبة

“غد بظهر الغيب واليوم لي   وكم يخيب الظنّ بالمقبل” (عمر الخيّام) بالبداية، ليس لواحد مثلي مرتبط بشكل لصيق بقضية فلسطين ومبدأ مواجهة الاستعمار ومكافحة الظلم…

أين العرب في اللحظة الإقليميّة المصيريّة؟

الوضع العربي مأزوم. العرب في عين العاصفة. لا يحتاج الأمر إلى دلائل وإثباتات. سوريا كانت لاعباً إقليمياً يُحسب له ألف حساب، صارت ملعباً تتناتش أرضه…

ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك

هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين…

غزة: العودة من الركام إلى الركام

احتلّت الحرب على غزة منذ انطلاق شراراتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أيّامنا هذه، أوسع مساحة في المعالجات الإعلامية المرئية والمقروءة…