الصين الأوفر حظّاً

لم تقتنع روسيا حتى تاريخه أنّه لن يكون بمقدورها احتلال مزيد من الأراضي الأوكرانية كما لم تقتنع كييف بأنّها لن تتمكّن من تحرير المناطق المحتلّة. وصلت هذه الحرب إلى طريق مسدود، وكلّ من الطرفين عاجز عن تسجيل خرق، فيما الدول الأخرى المؤثّرة تعيش تناقضات داخلية تمنعها من تغيير نتيجة الصراع أو تسجيل خرق فيه.

من جهة روسيا:
– لا فرص بالسيطرة على مزيد من الأراضي الأوكرانية.
– لا قدرة على تغيير حكم فولوديمير زيلينسكي وتنصيب حكم موالٍ لموسكو في كييف أو جعل الجيش ينقلب على الحكم ويتفرّد بالسلطة ويتقرّب من الجارة الشرقية ويقبل بشروطها القاسية (منها إبعاد أوكرانيا عن الغرب ومنعها من الانضمام إلى الناتو وحرمانها من الانخراط في الوحدة الأوروبية).
– معاناة موسكو تأثيرات الحرب على اقتصادها وهروب فئة الشباب تفادياً للتعبئة العامّة والتجنيد الإجباري، مع ما يشكّله ذلك من نقص في اليد العاملة، ولا سيّما المتخصّصة منها.
– تراجع مبيعات الطاقة والنفط والغاز والمشتقّات وإيراداتها، وإنتاج الذهب وبيعه.
– انخفاض الطلب على السلاح الروسي.
– تأثّر الصادرات الزراعية والمبيدات والأسمدة.
على الرغم من كلّ ذلك، لم يصل الحكم في موسكو إلى قناعة بضرورة وقف النار درءاً للخسائر البشرية والاقتصادية المتفاقمة، وبحتمية الجلوس إلى طاولة المفاوضات على الرغم ممّا بذلته تركيا وفرنسا والنمسا والفاتيكان من مساعٍ. لا بل ما زالت الأصوات المتشدّدة داخل روسيا تعاند وتكابر وتحثّ على احتلال المزيد من الأراضي وصولاً إلى غرب أوكرانيا، وتطالب بـ”استعمال السلاح النووي التكتيكي إن احتاج الأمر” (ميدفيديف مثلاً).

تبقى الصين “الأوفر حظّاً” للوساطة في هذا الصراع، وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي مراراً مناشداً الرئيس الصيني شي جينبينغ الاستمرار بمبادرته للسلام ودفعها خطوات إلى الأمام

من جهة أوكرانيا:
– لم تصل كييف بعد إلى استيعاب أنّها لن تتمكّن من تحرير كامل أراضيها بما فيها شبه جزيرة القرم المحتلّة منذ عام 2014.
– يتعذّر على الجيش الأوكراني إلحاق هزيمة ساحقة بروسيا. فهجوم الربيع المنتظر يتأجّل من موعد الى آخر ومن فصل إلى آخر، بسبب عدّة عوامل، منها النقص في الذخيرة والمعدّات والعديد وما تكشّف من فضائح فساد داخلية أصابت سمعة حكم كييف لدى الغرب.
– صرّح كلّ من وزير الدفاع ورئيس الأركان الأميركيَّين باعتقاد واشنطن العميق بعدم قدرة أوكرانيا على تحرير أراضيها في المديَين القريب والمتوسّط.
– خلال زياراته الأخيرة لكلّ من الفاتيكان وروما وبرلين وباريس، تلمّس الرئيس زيلينسكي أنّ وضع الأوروبيين “دقيق جدّاً”. فتيارات شعبية كبيرة داخل أوروبا لا تجاري حكّامها في منطق العداء المستحكم لروسيا. فمثلاً قال له بابا روما فرنسيس إنّه “يدعو في كلّ مواعظه الأخيرة إلى التضامن والصلاة من أجل الشعب الأوكراني المعذّب”، لكن في الوقت نفسه استمرّ بعدم تحميل روسيا مسؤولية العدوان على أوكرانيا.

فرص الوساطة الغربيّة “ضعيفة”:
– اعترف مصدر دبلوماسي في الفاتيكان بأنّ محاولة التوسّط التي تقوم بها الدبلوماسية الكاثوليكية “ما زالت تصطدم بعقبات كبيرة”، أبرزها الموقف الغربي والأطلسي الذي يبدو غير مرتاح لما يعتبره لدى البعض “حياداً بين طرفَي النزاع”، ورفض موسكو حتى الآن التجاوب مع هذه المحاولة.
– في إيطاليا، تشعر رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني بإحراج داخلي لأنّها ترأس حكومة ائتلافية إلى جانب زعيم حزب الرابطة ماتيو سالفيني وسيلفيو برلوسكوني، المقرّبين سياسياً وشخصياً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. (لا يفوّت سالفيني مناسبة إلا وينتقد فيها موقف الحلفاء الغربيين من الحرب واستمرار مدّ أوكرانيا بالمساعدات الحربية، فيما دعا برلوسكوني غير مرّة إلى الإصغاء لشروط بوتين والتجاوب معها، ووجّه انتقادات شديدة مباشرة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي).
– في ألمانيا لمس زيلينسكي “البرودة المتزايدة” لدى حزب الخضر وممثّلته في الحكومة وزيرة الخارجية.

يعيش الرئيس جو بايدن في صراعين. أحدهما مع المعترضين داخلياً على حجم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وثانيهما يكمن في صعوبة وقف تدفّق السلاح

– تحاول أوروبا أن ترسي توازناً صعباً ودقيقاً بين عدم السماح لروسيا بالنجاح في تهديد أمن القارّة وتقدّمها في احتلال المزيد من الأراضي، وبين عدم إلحاق هزيمة ساحقة بها تضطرّها إلى استعمال أيّ سلاح نووي تكتيكي.
– في واشنطن، يعيش الرئيس جو بايدن في صراعين. أحدهما مع المعترضين داخلياً على حجم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وثانيهما يكمن في صعوبة وقف تدفّق السلاح بسبب ما يعنيه هذا القطاع للاقتصاد الأميركي من أهميّة. فالحزب الجمهوري يتّهم الديمقراطيين وإدارة بايدن بزيادة الدين العامّ عبر عشرات الميليارات المدفوعة من خزينة الدولة لشركات صناعة الأسلحة الخاصة داخلياً وأوروبياً، فيما يعتبر بايدن أنّ ذلك أساسيّ في دعم هذا القطاع وخلق فرص عمل وخفض البطالة.
وسط كلّ ذلك، تبقى الصين “الأوفر حظّاً” للوساطة في هذا الصراع، وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي مراراً مناشداً الرئيس الصيني شي جينبينغ الاستمرار بمبادرته للسلام ودفعها خطوات إلى الأمام.

إقرأ أيضاً: الودّ المفقود بين الصين وأميركا

– جرّاء هذا الواقع يمكن أن تنفَذ المبادرة الصينية للسلام المتضمّنة بنوداً متوازنة وتبصر النور. فقد تبدّل المناخ الدولي، فبكين تضغط على موسكو والأخيرة بحاجة إلى الأولى. وفي المقابل، اتصل الرئيس الصيني بنظيره الأوكراني واتّفقا على لجان مشتركة وعلى تعيين سفير الصين الأسبق في موسكو رئيساً للوفد المفاوض. وما التبادل الدبلوماسي، ودعوة زيلينسكي إلى زيارة بكين، إلّا تأكيد على توازن المبادرة الصينية وإن تضمّنت بنوداً تعارضها حالياً كلّ من موسكو وكييف.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@

*كاتب لبناني مقيم في دبي

إقرأ أيضاً

الفضيحة الشاملة: قصة هجوم لم يقع

كان الهجوم الإيراني على إسرائيل وهماً من الوهم المستمرّ منذ أربعين عاماً وأكثر من العداوة بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة. وقد تبيّن أنّ المقصود من…

إمبراطورية إيران “العاقلة”… ونحنُ شعوب الدرجة الثانية المنذورين لحروبها

ردّت إيران على إسرائيل لأنّها قصفت قنصليّتها في سوريا. ردّت بـ”عقل” و”حكمة”. ردّت بتنسيق مع الرئيس الأميركي جو بايدن. لحماية “مصالح إيران”. وقال قادتها إنّهم…

الليلة التي أربكت استاتيكو الشّرق الأوسط

تأخّر الردّ الإيراني على إسرائيل عقوداً لا أيّاماً. امتلكت طهران كلّ الأسباب الشرعية والمنطقية للردّ المباشر حين نفّذت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة عمليات داخل الأراضي…

من يدفع ثمن الأزمة في باكستان؟

أُدين رئيس حكومة باكستان السابق عمران خان بالفساد وتعريض الأمن القومي للخطر والإساءة للدين الإسلامي، وحُكم عليه بالسجن لمدّة 31 عاماً. وهو اليوم يقضي هذه…