الولايات المتّحدة ودروس العقدين الأخيرين!

الولايات المتّحدة ودروس العقدين الأخيرين!

مدة القراءة 6 د.

عندما يصدر هذا المقال ستكون نتائج الانتخابات التركية قد ظهرت. وهناك إجماعٌ بين المراقبين أنّ الولايات المتحدة تراهن على خسارة إردوغان في الرئاسة أو البرلمان أو فيهما معاً. حتى عام 2013-2014 كانت خلافات الولايات المتحدة مع إردوغان قليلة. وحتى موقفه الحاسم بعد عام 2012 من النظام السوري، كان يحظى بالاستحسان الخفيّ للولايات المتحدة. وهناك من يذهب إلى أنّ الخلاف الحقيقي بين إردوغان وأميركا إنّما حصل عام 2016 بعد محاولة الانقلاب التي شملت مدنيّين وعسكريّين، ويقول إردوغان إنّ زعيمها في الولايات المتحدة. بعد ذلك اختلف إردوغان مع الولايات المتحدة في عشرات الموضوعات وفي عهود الرؤساء الثلاثة: أوباما وترامب وبايدن. ومن اعتقال أحد المبشّرين، إلى شراء صواريخ من روسيا، إلى تحدّي اليونان وقبرص من أجل المشاركة في بترول وغاز البحر، إلى التدخّل في ليبيا، وإلى نصرة أذربيجان على أرمينيا، وصولاً إلى الموقف التركي المحايد في الحرب الروسية على أوكرانيا على الرغم من أنّ تركيا عضوٌ في الناتو. بيد أنّ الخبراء الأتراك يذهبون إلى أنّ الخلاف الأعمق والأشدّ إيلاماً بالنسبة لإردوغان هو حماية العسكر الأميركي للمنطقة الكردية بالداخل السوري، وقوّتها المقاتلة الرئيسية قوامها حزب العمّال الكردستاني الآتي من تركيا، لمقاتلة إردوغان من سورية، كما قاتلها ويقاتلها من العراق.

هناك إجماعٌ بين المراقبين أنّ الولايات المتحدة تراهن على خسارة إردوغان في الرئاسة أو البرلمان أو فيهما معاً

من تغيّر الأميركيون أم إردوغان؟
عندما كان العسكريون الأتراك بعد عام 1950 يتدخّلون في الشؤون الداخلية بالبلاد ويُسقطون حكومات، أو يُعدمون سياسيّين، ويغيّرون الدستور، كان اليساريون الأتراك يتّهمون أميركا بالوقوف وراء الانقلاب أو الانقلابات، ليس من أجل العلمانية، بل من أجل الحرص على موقف تركيا في الحرب الباردة. لكنّ الأميركيين أنفسهم كانوا يضغطون على العسكريين للعودة إلى الحكم المدني. بيد أنّ الحرب الباردة انتهت، وصار الموقف الأميركي هو إمكان دعم الاتجاهات الإسلامية المعتدلة في تركيا والعالم العربي. ومن هنا جاءت زعامة إردوغان غير العاديّة، وبالاستحسان الأميركي منذ عام 2002. فلماذا غيّر الأميركيون توجّههم بعد عام 2016، أو بالأحرى: من الذي غيّر سياساته؟
في كتابٍ صدر بالولايات المتحدة قبل أشهر قليلةٍ عن سقوط أميركا في الشرق الأوسط، يضع المحرّرون نموذج تركيا بعد نموذج إيران لفشل الولايات المتحدة بالشرق الأوسط. يقولون إنّ الشعب الإيراني ربّما تحوّلت عواطفه ومصالحه مرّةً أخرى باتجاه الولايات المتحدة بعد المعاناة من عهد الملالي الطويل، لكنّ سياسات الخصومة مع الولايات ما تزال تعطي إردوغان شعبية في تركيا. لكنّهم يشكّون في ما إذا كانت موجات العداء لأميركا ستؤثّر كثيراً الآن في الانتخابات التركية. فكليتشدار أوغلو زعيم المعارضة والمرشّح ضدّ إردوغان يصرّح بصداقته مع الولايات المتحدة، ويعتقد أنّ ذلك يُكسبه شعبية.
النموذج الثالث للفشل الأميركي في الشرق الأوسط، هو النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. وقد كانت الولايات المتحدة دائماً مع إسرائيل في الحرب والسلم. لكنّها أيضاً وسيط قَبِله الطرف الفلسطيني والعربي العامّ. وفي ذلك أساءت الولايات المتحدة على طول الخطّ ولم تُحسن، فصار الوضع إلى ما هو عليه الآن. حكَم اليمين المتطرّف في إسرائيل وهو لا يسمع للولايات المتحدة.
أمّا النموذج الرابع فهو النموذج العراقي، حيث غزت أميركا العراق عام 2003 بدون مبرّرٍ مقنع. وبعد الخراب الطويل، تسيطر ميليشيات متأيرنة على الداخل العراقي، ويقول الأميركيون إنّ عسكريّيهم الباقين هناك لتدريب الجيش العراقي ضدّ تنظيم داعش، وليس للقتال. ومن ضمن المهمّات غير المعلنة حماية المنطقة الكردية بالعراق مثلما يفعلون بسورية. وهكذا شاؤوا أم أبوا ساعدوا ويساعدون إيران في السيطرة على العراق.
والنموذج الخامس للفشل الأميركي هو أفغانستان. فقد دخل إليها الأميركيون بعد هجوم تنظيم القاعدة من أفغانستان على الولايات المتحدة عام 2001. ثمّ عندما خرجوا شبه هاربين من البلاد عام 2021 كانت حركة طالبان التي ضربوها عام 2002 قد عادت إلى السلطة. وهي تعمل بشكلٍ ما اليوم مع الصين.

حكاية الأميركيين في الشرق الأوسط
لماذا حصل الفشل الأميركي في الشرق الأوسط في النهاية؟
لأنّ الولايات المتحدة راهنت أوّلاً بعد الحرب الثانية على العسكر. ثمّ راهنت على الإسلاميين (المعتدلين)، وكما يتبيّن من الموقف الأميركي في السودان، فإنّهم هم والأوروبيين يراهنون على القوى المدنية واليساريّين.
الأميركيون ينسون أنّ العسكر باستثناء تركيا ومصر، عندما يصلون إلى السلطة يحكمون فئويّاً. ولذلك تحصل تمرّدات عليهم من الفئات الأخرى التي تصبح ميليشيات مسلّحة تُدعَم من هذه الجهة أو تلك. ولأنّهم يتحوّلون ضدّ العسكر بعد عقدٍ أو عقدين، فإنّهم يظهرون بمظهر من يدعم الميليشيات المناوئة للأنظمة أو المتحكّمة فيها (!). ولا بقاء لفكرة الدولة في الصراع بين العسكر والميليشيات. أمّا الإسلاميون فقد ثبت أنّ شيمتهم شيمة الميليشيات وبينهم وبين الجيش خصومة قديمة.
كيفما تصرّفت الولايات المتحدة، في الشرق الأوسط أو في غيره، فإنّ ديدن الكُتّاب الاستراتيجيّين الأميركيين أنّ أميركا فشلت، وأنّ العالم الآن هو عالم ما بعد أميركا.

إقرأ أيضاً: الولايات المتّحدة: رغبات الهيمنة ودروس الحروب!

فهل يمكن بالفعل القول إنّ أميركا فقدت الشرق الأوسط؟ ولصالح من؟ وما قيمة استنتاج تعدّدية الأقطاب؟ في أميركا أقوى جيش، وأقوى اقتصاد، وهي “موديل” الحضارة في العالم، فهل نستطيع القول ببساطة إنّها فشلت وغادرت هذا المكان أو ذاك؟ وإذا نجح إردوغان فهل تكون أميركا قد انهزمت؟ وإذا فشلت المبادرة السعودية – الأميركية بالسودان، فهل يُحسب ذلك على أميركا أم أنّ الضرر الأكبر وقد يكون الوحيد هو الذي يقع على السودان! باكرٌ جداً الحديث عن عالم ما بعد أميركا، وإلّا فانظروا ما يحصل بين روسيا وأوكرانيا، وإلى أين قادت أميركا روسيا في تلك الحرب الضروس. ولنتصوّر استدراج الصين إلى حرب ضدّ تايوان. تستطيع الصين احتلال تايوان. لكنّ عالم شرق وجنوب شرق آسيا سيندفع كلّه إلى أحضان أميركا، وهذا العالم هو محيط الصين، وسوقها المتقدّم، ولنفكّر في موقف الهند وموقعها من كلّ ذلك.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…