المعارضة اللبنانية: هل يسحقها “اتفاق بكين”؟

قامت المعارضة في لبنان، منذ انتهاء الحرب الأهلية، بتحدّي قدرة نظام الوصاية السورية على طمسها وإلغائها. أي أنّ الوظيفة الرئيسية للمعارضة وقتذاك كانت في وجودها ذاته قبل أن تكون في قدرتها على تغيير الوضع القائم في المدى القريب أو المتوسّط. أمّا الآن فإنّ وظيفتها الأساسية هي في إثبات قدرتها على خلق هامش لبناني إزاء التحوّلات في المنطقة. حتّى إنّ وجود المعارضة نفسه أصبح متوقّفاً على قدرتها على خلق هذا الهامش وليس على تكيّفها الاضطراري مع التحوّلات الجارية.

إذا كان عنوان المعارضة في “الحقبة السورية” رفض نظام الوصاية السورية على لبنان، فإنّ عنوانها الآن وأكثر من ذي قبل يُفترض أن يكون رفض محاولة الحزب تكريس نظام وصاية جديد على لبنان مستفيداً من اللحظة الإقليمية والدولية.

إذا كان من الصعب توقّع الكثير من القوى السياسية المعارضة التي أصبحت أسيرة خطابها وشللها، فمن الصعب أكثر توقّع اندفاعة شعبية نحو الانخراط في السياسة، خصوصاً بعد فشل انتفاضة 17 تشرين

المعارضة…  ومعضلتها

لكنّ وجود المعارضة أيام الوصاية السورية، حتّى قبل عام 2000، كان متّكئاً، بشكل أو بآخر، على مشروع لبناني مدعوم عربياً ودولياً اسمه رفيق الحريري.

المعضلة الآن أن لا وجود لمشروع لبناني مدعوم عربياً ودولياً تستند إليه المعارضة وتستظلّه، بل هناك مشروع وحيد في البلد هو مشروع الحزب المدعوم من إيران بشكل أساسي.

والحال هذه فإنّ مشروع الحريري لم يكن بهذا المعنى مشروعاً اقتصاديّاً بحتاً، بل هو في الأساس مشروعٌ سياسي. وعلى المنوال نفسه فإنّ عنوان إعادة الإعمار لم يكن عنواناً اقتصادياً، بل شكّل ركيزة اجتماعية وسياسية لإعادة بناء الهامش اللبناني الداخلي إزاء “التطبيع” العربي والدولي مع نظام الوصاية.

هكذا خلق الازدهار الذي وعد به مشروع الحريري حافزاً لغالبية اللبنانيين للبقاء والعيش في لبنان بعدما كانت الحرب طاردة لهم. بالتالي فإنّ مشروع الحريري كان قائماً على أرضية ديمغرافية صلبة، وهي الأرضية نفسها التي استعانت بها المعارضة وحفّزتها واتّكأت عليها منذ مطلع عام 2000، وبالأخصّ منذ عام 2005.

متغيّر أساسيّ

ما يحصل الآن هو العكس تماماً، فالانهيار ضرب الديمغرافيا المعارضة بالعمق، بعدما أصبح طارداً لفئات اجتماعية حيوية كانت تشكّل قاعدة اجتماعية للمعارضة بينما هي الآن تبحث عن أوّل فرصة لترك البلد.

في المقابل فإنّ الحزب يستفيد من هذا الاختلال الديمغرافي – السياسي، لا على مستوى العدد وحسب، بل أيضاً على مستوى عدم استعداد الفئات الاجتماعية الحيوية، وخصوصاً الشباب، للبقاء في البلد والانخراط في السياسة. وهذان أمران لا ينفصلان. فلبنان لم يعد مشروع حياة للشرائح الاجتماعية التي يمكن أن تشكّل قاعدة اجتماعية صلبة للمعارضة والتغيير.

إذا كان من الصعب توقّع الكثير من القوى السياسية المعارضة التي أصبحت أسيرة خطابها وشللها، فمن الصعب أكثر توقّع اندفاعة شعبية نحو الانخراط في السياسة، خصوصاً بعد فشل انتفاضة 17 تشرين.

المستوى الأوّل للمتغيّرات الجيوسياسية الجارية هو مستوى دوليّ قبل أن يكون إقليمياً. وهذا معطى أساسي من دونه لا يمكن فهم ما يحصل بشكلٍ كافٍ

وإذا كانت المعارضة أيام الوصاية السورية قد تحرّكت من “فوق” إلى “تحت”، أي من القوى السياسية باتجاه الفئات الشعبية المستعدّة لتلقّف المبادرة، فإنّ عملية الاستنهاض المطلوبة حالياً بوجه نظام الوصاية الجديد لا يمكن أن تتمّ وفق المسار نفسه في ظلّ إفلاس القوى السياسية وضعف حجّتها. لكن في الوقت نفسه يصعبُ بل ويستحيل توقّع أن يسلُك مسار المعارضة مساراً معاكساً، أي من القواعد الاجتماعية باتجاه الأحزاب والنخب السياسية، فالهوّة أصبحت سحيقة بين هذين المستويين وبات من الصعب ردمها. ولذلك فإنّ المخاض اللبناني طويلٌ طول المخاض السوري وربّما أكثر!

الانقلاب: من المنطقة إلى لبنان

إذا كان البحث عن أسباب الأحداث والتحوّلات السياسية الحاصلة في المنطقة مهمّاً، فإنّ الأهمّ هو معرفة النتائج المترتّبة على لبنان والمنطقة من جرّاء هذه الأحداث والتحوّلات. بمعنى أنّ الأجدى هو التعامل مع المتغيّرات الحاصلة بوصفها أمراً واقعاً لا يمكن نكرانه أو تجاوزه، لكن أيضاً لا يمكن الاستسلام له كما لو أنّه لا هامش لبنانياً إزاء المسارات الجديدة في المنطقة.

“الانقلاب” الحاصل في المنطقة يُفترض أن يكون محفّزاً لاستنهاض سياسي جديد في لبنان، خصوصاً أنّه طال حساسيّة لبنانية تاريخية، باعتبار أنّ أيّ سياسة عربية ودولية جديدة تجاه النظام السوري تحمل معها حتماً ارتدادات على الواقع اللبناني، ولو بأشكال مختلفة عن الماضي بالنظر إلى تغيّر الأوضاع في سوريا.

الواقع أنّ الأمر هنا لا يتعلّق بعودة “سوريا” إلى لبنان، ففي ظلّ الظرف الراهن هذا غير مطروح وغير وارد في سوريا ولا في لبنان حيث اللاعب الأساسي هو الحزب ولا مكان للاعبين كبار جددٍ أقلّه في المرحلة الحالية. لكنّ المسألة هي في قدرة الحزب على استغلال المقاربة العربية الجديدة للملفّ السوري لتعزيز قبضته في لبنان.

لذلك الموقف اللبناني المعارض للنظام السوري هو أوّلاً موقف أخلاقي الآن، بينما الموقف السياسي الأساسي يجب أن يتبلور على قاعدة تعزيز الدفاعات اللبنانية أمام اندفاعة الحزب الجديدة بعد التحوّلات في المنطقة.

أولويّات لبنانيّة

لا يتعلّق الموقف السياسي الأساسي بالتطبيع العربي مع النظام السوري بذاته، بغضّ النظر عن ظروف هذا التطبيع ومآلاته، ولا سيّما أنّ الوقت الذي سيستغرقه جدول أعماله للانتقال من مكافحة المخدّرات إلى الحلّ السياسي وإعادة الأعمار لن يكون قصيراً، وخصوصاً أنّ اقتصار الموقف المعارض على رفض هذا التطبيع قد يشكّل تغطية على الموقف الأساسي من سياسة الحزب الجديدة بعد التطبيع.

الأهمّ هنا أنّ موقف المعارضة من الحزب لا يمكن أن يكون هو ذاته قبل التطبيع وبعده، باعتبار أنّ الحزب نفسه سيتبنّى، على وقع التحوّلات الحاصلة، استراتيجية جديدة للتعامل مع الوضع اللبناني. وهنا بالذات يتشكّل الهامش اللبناني إزاء المتغيّرات الحاصلة. أيّ أنّ هذا الهامش يتوقّف على قدرة المعارضة على إظهار أولويات لبنانية لا تتعارض مع الأولويات العربية الراهنة، لكن لا تذوب فيها أيضاً.

مرحلة جديدة

أيّاً يكن من أمر فنحن أمام مرحلة جديدة في المنطقة ككلّ. وهي مرحلة تعكس تحوّلاً في موازين القوى الإقليمية والدولية، باعتبار أنّ العامل الرئيسي في التحوّلات الجارية هو تراجع “الحضور” الأميركي في المنطقة، تماماً كما كان تكثيف هذا الحضور منذ غزو العراق بداية لمرحلة إقليمية جديدة هي الآن في طور الأفول.

المستوى الأوّل للمتغيّرات الجيوسياسية الجارية هو مستوى دوليّ قبل أن يكون إقليمياً. وهذا معطى أساسي من دونه لا يمكن فهم ما يحصل بشكلٍ كافٍ.

كما العادة سيترك دخول المنطقة مرحلة جديدة، ولو كانت تحمل في طيّاتها بعض ملامح مرحلة ما قبل “الربيع العربي”، بصماته في لبنان، باعتبار أنّ التبدّل الحالي في موازين القوى الدولية والإقليمية سيتبعه حتماً تبدّل في موازين القوى الداخلية لصالح الأطراف المهيمنة وعلى رأسها الحزب.

إقرأ أيضاً: هل تنطلق حملة ترشيح جوزف عون من قطر؟

الاستقرار الإقليمي الحالي لا يقوم على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”، لكي تنعكس هذه المعادلة على الوضع اللبناني على شكل قبول الحزب بتقديم تنازلات حقيقية في اللعبة السياسية بدءاً من الانتخابات الرئاسية. على العكس تماماً يعتبر الحزب المرحلة الجديدة في المنطقة لمصلحته، خصوصاً في لبنان. حتى لو تغيّر شكل حضوره في سوريا على المدى المتوسط أو البعيد فإنّ تغيّراً كهذا تأخّر كثيراً لكي تكون له تبعات على نفوذه القويّ في لبنان.

لكنّ ذلك كلّه لا يغيّر في طبيعة الامتحان المفروض على القوى السياسية المعارضة للحزب، باعتبار أنّ المرحلة الجديدة، وخصوصاً لجهة الانفتاح العربي على النظام السوري، تحتّم عليها إعادة النظر في أسلوبها وخطابها لمواجهة اندفاعة الحزب لاستغلال المتغيّرات الحاصلة لمصلحته.

إقرأ أيضاً

لقاءات الخماسية: بحث عن رئيس.. في كومة قشّ الخصومات

عادت اللجنة الخماسية إلى الساحة اللبنانية، لكنّ عودتها كانت قد سبقتها اجتماعات في واشنطن بين الأميركيين والفرنسيين. وعلى أساس توزيع الأدوار والتنسيق في معالجة الملفّات…

الكويت بين “هارفرد” و”إيلينوي”… الصِّدام الحتميّ

يقول التاريخ الكويتي إنّ رئيس الوزراء الذي يذهب لا يعود. أي أنّه يرأس حكومات متتالية ثمّ يمضي من دون أن يأتي مرّة جديدة على رأس…

“سابقة موريس سليم”: الطعن بتعيين رئيس الأركان!

 سجّل وزير الدفاع موريس سليم سابقة لم تعرفها حكومات ما قبل الطائف ولا بعده من خلال الطعن أمام مجلس شورى الدولة بقرار تعيين رئيس الأركان…

نقابة المهندسين: لماذا تعاقب طرابلس تيار المستقبل؟

عقب عودة الرئيس الحريري النسبية إلى الأجواء السياسية في ذكرى 14 شباط، أراد تيّار المستقبل تدشين عودته إلى الملعب السياسي عبر بوّابة انتخابات نقابة المهندسين،…