كليوباترا: “عنصريّة إفريقيّة”… ضدّ البيض؟

لم تزل ذات العينين الكحيلتين مثيرة للنقاش والجدل. المرأة التي ذاع صيتها وأصبحت ملء السمع والبصر، امرأة تستحقّ لقب المرأة الحديدية بامتياز سابقة بذلك أيّ امرأة نالت هذا اللقب.

وكيف لا تكون حديدية وقد امتلكت قلباً قاسياً استطاعت به قتل أخيها وهمّت لقتل أختها فيما بعد؟

كيف لا تكون حديدية وقد استطاعت مواجهة رجال القصر الذين أرادوا تنحيتها عن الحكم بعد وفاة والدها؟

بعزمها الشديد تصدّت لهم ونجت من مؤامراتهم. لكنّها على الرغم من ذلك كانت مرهفة الحسّ. وكيف لا تكون مرهفة الحسّ وقد كانت تؤمن بسحر العطور وتأثيرها، حتى إنّها عطّرت سفينتها وأشرعتها في اللقاء الأوّل الذي جمعها بيوليوس قيصر. فكان ذلك سبباً في هيامه بها. وبلغت المرأة من عشقها للعطور أن أقامت مصنعاً لها ولم تزل أنقاضه شاهدة عليه إلى الآن قرب البحر الأحمر.

لكلّ هذا، لمّا تزل كليوباترا، على الرغم من موتها منذ ما يزيد على عشرين قرناً من الزمان، حاضرة وماثلة ومثيرة للنقاش والجدل في الزمان والمكان.

لم تزل ذات العينين الكحيلتين مثيرة للنقاش والجدل. المرأة التي ذاع صيتها وأصبحت ملء السمع والبصر، امرأة تستحقّ لقب المرأة الحديدية بامتياز سابقة بذلك أيّ امرأة نالت هذا اللقب

لماذا أحبّها المصريون؟

هي الآتية من نسل الإسكندر المقدوني، بنت بطليموس الثاني عشر، آخر من حكم مصر من أسرة الحكم البطلمي. أحبّها المصريون في زمانها، وفي زماننا. فقد عاش أسلافهم فترة استقرار سياسي واقتصادي في عهدها. أحبّوها لأنّها على الرغم من كونها يونانية مقدونية، إلا أنّها تعلّمت اللغة المصرية وعشقت الثقافة المصرية واقتربت كثيراً من جوهر الشخصية المصرية.

وأحبّوها كذلك لأنّها شخصية ساحرة وذكيّة حتى بلغت من الذكاء أنّها استطاعت أن تلهب عاطفة يوليوس قيصر الذي جاء إلى مصر ووقع في غرامها وأنجب منها ابناً غير شرعي ووقع في غرامها من بعده مارك أنتوني وأنجب منها أبناء شرعيين وجلب على نفسه كراهية الرومان الذين كانوا يجرّمون الزواج من أجنبيات.

ربّما أحبّها المصريون لأنّها مثّلت لديهم رمزاً من رموز الصلابة والدفاع عن أحقّيّتها في حكم مصر بعد وفاة والدها. وربّما لأنّها كانت مثقّفة وتجيد التحدّث بلغات تسع. ولأنّها كانت تلبس الملابس الوطنية وتشارك المصريين احتفالاتهم ومناسباتهم. وربّما أحبّوها لكبريائها الذي دفعها إلى أن تفضّل الموت منتحرةً على أن تُقيّد بالسلاسل وتُجرّ إلى روما مهدرة الكرامة والكبرياء.

لكلّ هذه الأسباب تُحظى هذه المرأة القوية بحبّ المصريين، وهبّوا ليدافعوا عنها، باعتبارها ركناً من أركان هويّتهم الوطنية، وتاريخهم.

“مؤامرة” نتفليكس

ربّما ظنّت شركة نيتفليكس الأميركية، التي أُسّست في عام 1997 في كاليفورنيا، وبلغ عدد مشتركيها ما يقرب من 137 مليوناً، أنّ الظروف الاقتصادية الطاحنة التي يمرّ بها العالم وتمرّ بها مصر باعتبارها قلب العالم ونبضه سيجعلها تنشغل عمّا يُحاك لها في الخفاء من جرائم غير نمطية يقوم بها أناس غير عاديّين.

ظنٌّ خاطئ وقعت فيه الشركة بإعلانها الترويجي عن فيلم بعنوان “الملكة كليوباترا” قالت عنه إنّه وثائقيّ. اعتقدت خاطئة أنّ الرسالة ستمرّ في غفلة من الزمن وفي غمرة انشغال المصريين بأحوالهم المعيشية، بل وانشغالهم بما يجري على حدودهم من صراعات وحروب من شأنها إرهاق مصر ثمّ دخولها دوّامة غريقة ودائرة جهنّمية.

لكن المصريون يعرفون تماماً متى ينتفضون من أجل هويّتهم وتاريخهم وحضارتهم. فلم يكن يتوقّع أكثر المتشائمين أن تشتعل السوشيل ميديا هذا الاشتعال من أجل فيلم وثائقي تنتجه إحدى الشركات الخاصة بالدراما.

هذه المرّة تعرّض المصريون لـ”ظلم” مستغرب من المدافعين عن “المركزية الأفريقية”. ضحايا الاستعمار الأبيض، قرّروا بدل أن يواجهوا “الرجل الأبيض”، أن يمدّوا أيديهم إلى “تاريخ” المصريين

باسم يوسف “يعلن الحرب”

لحظة لمح المصريون عامّة، وبعض مثقّفيهم النابهين خاصة، رسالة الفيلم وجدناهم ينسون معاناتهم الاقتصادية والسياسية وينحّون كلّ الاختلافات جانباً، وراحوا يتناقشون ويحلّلون مضمون الفيلم ورسالته، وربّما يكون من أهمّ ما استوقفنا ولفت أنظار الجميع اختيار الممثّلة الأميركية Adeel gemes ذات البشرة السمراء لبطولة هذا الفيلم، وهو ما أثار استهجان النخبة المثقّفة المصرية وشرعوا في مناقشة القضية بشكل كبير.

طرح مثقّفون أميركيون وجهة نظر أخرى. أحدهم “واجه” الإعلامي باسم يوسف في برنامج “بيرس مورغان”، وهو “إيرنست أوينر”، الكاتب في شؤون الدفاع عن ذوي البشرة السمراء، والذي وصفه باسم يوسف بأنّه من جماعة “حركة المركزية الإفريقية”، متّهماً إيّاهم بسرقة تاريخ مصر وتزويره ونسبة بناء الأهرامات إلى الأفارقة واليهود. وهو اعتبر أنّه “عمل فنّيّ”. فردّ باسم بأنّه “وثائقي”.

الحقيقة أنّ المصريين ما انتفضوا وراحوا يسخرون من هذا الاختيار إلا لعلمهم مضمون الرسالة الفنّية غير البريئة، وهنا يثور سؤال فنّي مهمّ: هل من الضروري أن يخضع فيلم وثائقي تاريخي لمعايير بعينها لا يتجاوز فيها الواقع التاريخي أم للخيال أن يلعب دوره حتى لو كان ذلك على حساب الحقائق التاريخية؟

لا يحقّ لفيلم وثائقي يتناول مباشرة تاريخ شخصية تاريخية لها ثقل سياسي باعتبارها آخر ملوك الفراعنة المصريين، وباعتبارها ذات أثر واضح في التاريخ المصري الذي لم تزل آثاره ممتدّة حتى الآن، أن يتجاوز الحقائق ولا ليّ عنقها من أجل تمرير رسالة ما.

ما هي “حركة المركزيّة” الإفريقية”؟

ربّ ضارّة نافعة. إذ أثار هذا الفيلم شكوكاً وطرح حوله أسئلة من قبيل: هل لـ”المركزية الإفريقية” دور في دعم هذا الفيلم، لأنّها تروّج لأفكار تتّسق تماماً مع أهدافها العامة، فهي تتبنّى هذا النهج العنصري باعتبار إفريقيا كلّها سوداء وأنّ البيض فيها إن هم إلا غزاة مستعمرون؟ هذه الحركة التي أُسّست في عشرينيّات القرن الماضي في أميركا لها فلسفة عجيبة بعض الشيء. فبحسب هذه الفلسفة، راح الأفارقة يحاربون كلّاً من هو أبيض في قارّتهم انتقاماً من الأبيض الذي استعمرهم بدل أن يردّوا على احتلال الأوروبيين لأراضيهم واستعمارهم وابتزاز ثرواتهم بأن يثبتوا قوّة وصلابة في بناء أوطانهم وأنّهم يستحقّون أن تكون لهم الريادة من غير تهميش الآخرين أو إنكارهم.

ولأنّ مثل هذه الأفكار شديدة القسوة فلا بدّ أن تمرّ مروراً ناعماً وتستقرّ في عقول الناس الواعية واللاواعية على حدّ سواء، وهل هناك أفضل من الفنّ والدراما لتمرير هذه الأفكار؟

لذا ليس غريباً أن تدعم الحركة مثل هذه الأفلام لإثبات أنّ الرموز والأعلام والشخصيات المؤثّرة في القارّة الإفريقية ليسوا سوى شخصيات سمراء اللون، إفريقية الأصل.

وإذا ما استقرّت فكرة كهذه يتبعها بالضرورة أنّ الأعمال التي خلّدتها تلك الشخصيات ليست إلا آثاراً لذوي البشرة السوداء لأنّها صنع أيادي أجدادهم. وإذا كان الأمر كذلك فإنّ حضارة مثل الحضارة المصرية تكون صنيعة هؤلاء وليست من إنتاج ذوي البشرة البيضاء الذين هم أصحاب الأرض بالضرورة. وفق منهج “حركة المركزية الإفريقية”، فإنّهم يصيرون مستعمرين غزاة ومحتلّين أيضاً، وقد يترتّب على ذلك نفيهم وتهجيرهم وربّما استعبادهم أيضاً.

هكذا فهم المصريون رسالة الفيلم الضمنية فثاروا وهاجوا مطالبين بوقف هذه المهزلة. وليس ذلك عن عنصرية مقيتة بل عن تمسّك بالموضوعية وإنصافاً للحقائق التاريخية ثمّ المحافظة على الحضارة والهويّة.

الدفاع عن ملكة “يونانيّة”

ربّما قفز إلى الذهن سؤال مهمّ: ما الذي يدفع المصريين للدفاع عن ملكة من أصول يونانية ولم تكن مصرية خالصة؟

هنا تبدو الأمور أكثر وضوحاً، إذ إنّ المصريين في الدفاع عن ملكتهم إنّما يدافعون عن تاريخهم وهويّتهم وحضارتهم لأنّهم لو سلّموا بهذه المغالطة التاريخية فسيكون عليهم التسليم بأنّ العنصر الإفريقي هو صانع الحضارة المصرية ثمّ سيتوجّب عليهم الاعتراف بأنّهم، أي المصريين، غزاة ومستعمرون وسارقو حضارات.

إقرأ أيضاً: 20 عاماً بين مصر وإردوغان: ماذا لو غادر المشهد؟

لذا كان لا بدّ أن يقف المصريون إلى جانب ملكة مصرية بحكم امتلاكها زمام الحكم في فترة معيّنة وليس باعتبارها ذات أصول مصرية خالصة. “المصرية” من عدمها ليست الأساس، ليس لأنّ المصريين عنصريون. والدليل على ذلك أنّ هناك من الممثّلاث نجمات السينما العالمية بهوليود، ومنهنّ إليزابيث تايلور وصوفيا لورين وفيفيان لي وكاتي بيري ومونيكا بيلوتشي وكلوديت كولبير وليونور فاريلا وأماندا باري، مَن قُمن بتجسيد شخصية كليوباترا ولم يحدث أن ثار الرأي العامّ ضدّهنّ لأنّ اختيارهنّ كان أقرب إلى المنطق التاريخي.

هذه المرّة تعرّض المصريون لـ”ظلم” مستغرب من المدافعين عن “المركزية الأفريقية”. ضحايا الاستعمار الأبيض، قرّروا بدل أن يواجهوا “الرجل الأبيض”، أن يمدّوا أيديهم إلى “تاريخ” المصريين، الذين عمرهم آلاف السنوات، قبل حضارة الرجل الأبيض هذا.

*كاتب مصري، عضو اتحاد كتّاب مصر، وعضو مجلس إدارة نادي القصة المصري. صدر له العديد من المجموعات القصصية.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…