نهاية “مصانع النسيج” اللبناني…

لماذا في كلّ مرّة يُدعى مجلس النواب اللبناني إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية تتعذّر وتتعطّل الانتخابات أشهراً وسنوات؟
لم تكن صدفة أن يتضمّن الدستور اللبناني مادّة تنصّ على تجميد دور المجلس النيابي التشريعي أثناء فراغ منصب الرئاسة، وعلى حصر دوره في الانتخاب. فالرئيس هو الرمز، وهو حامي الدستور. من دون توقيعه لا تشكَّل حكومة ولا يصدر قانون. هو ربّان سفينة الوطن.
لكن هل للوطن سفينة؟
يتألّف لبنان من 14 طائفة. تعيش هذه الطوائف في سفينة واحدة اسمها الوطن اللبناني أو الدولة اللبنانية. ويتولّى رئيس الجمهورية مهمّة القبطان. وتتوزّع الطوائف في غرف السفينة الأربع عشرة.
غير أنّ الواقع ليس كذلك، أو لم يعد كذلك. أصبح لبنان أسطولاً من أربعة عشر قارباً. ولم يعد سفينة واحدة من أربع عشرة غرفة (كابين). ولكلّ قارب قبطانه. ولكلّ قبطان وجهة سير.. ومصدر للرياح تنفخ في “جيوب” شراع قاربه. وهكذا تبحر هذه القوارب على غير هدى في مياه الشرق الأوسط المضطربة. فلا هي محصّنة ذاتياً، ولا هي محميّة خارجياً، لكنّها كلّها تموَّل وتستخدَم أدوات تخويف وابتزاز في صراعات خارجية ولتصفية حسابات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
تبحر هذه القوارب على غير هدى في مياه منطقة مضطربة. اعتاد ربابنتها أن يمدّوا أيديهم طلباً للمساعدة مثنى وثلاث ورباع، حتّى ملّ المسعفون ويئسوا. ارتطمت القوارب بصخور الواقع واصطدم بعضها ببعض. غرق كثير من ركّابها من المواطنين في وحول البطالة والفقر وفي الظلام الدامس. فيما تواصل إبحارها على غير هدى، بانتظار مرشد مخلّص يأتيها من وراء البحار أو من وراء الحدود، أو حتى من خارج الكون.

الرئيس هو الرمز، وهو حامي الدستور. من دون توقيعه لا تشكَّل حكومة ولا يصدر قانون. هو ربّان سفينة الوطن

نهاية مصانع “النسيج اللبناني”
عندما كان لبنان يبحر في مياه الشرق الأوسط المضطربة، كان يستخدم شراعاً من نسيج فلسفة الوحدة في التنوّع، وهو نسيج محلّي تمنّى حتى البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني من شدّة إعجابه وتقديره له أن يصنع لنفسه عباءة منه. لكنّ مصانع النسيج اللبنانية توقّفت عن الإنتاج، وآثرت اعتماد نسيج فلسفة “كل مين إيدو إلو”. وهات على تنظير للتقسيم وللفدرالية وللاختلاف على جنس الملائكة، وحتى الاختلاف على التوقيت الصيفي!!
أدهش اللبنانيون العالم مرّتين:
– المرّة الأولى في العهد الفينيقي عندما اكتشفوا الأرجوان وصبغوا به ملابس الأباطرة والأمراء.
– والمرّة الثانية في العهد الاستقلالي عندما أرسوا أركان دولة واحدة على قيم التعدّد الديني والثقافي، في وجه ثقافة الاحتكار الاستعلائي والاختيار الإلهي.
انقرض الأرجوان ولم ينقرض الفينيقيون. فالدراسات الأنتروبولوجية التي أجرتها مجلّة “ناشيونال جيوغرافيك” العالمية المشهورة أثبتت أنّ الـ”دي.إن.إيه” الفينيقي موجود اليوم في كلّ دول شمال وجنوب حوض البحر الأبيض المتوسط.
اليوم أيضاً ينتشر اللبنانيون في أصقاع الدنيا من الخليج العربي إلى خليج المكسيك، ومن زنجبار في إفريقيا إلى بلاد البلغار في أوروبا. لكن هذه المرّة من دون أن يحملوا معهم الأرجوان ولا فلسفة الوحدة في التنوّع. حملوا معهم جوعهم وطموحهم. فانتشروا تخلّصاً من الظلام والفقر وبحثاً عن النور ولقمة العيش الكريم.
خرجوا من جهنّم التي هُدّدوا بها بحثاً عن جنّة يحلمون بها، فاكتشفوا أنّ جهنّم كانت أمراً واقعاً، وأنّ جنّتهم الموعودة هي حلم ليلة صيف.

إقرأ أيضاً: لبنان الرهينة: هل الحزب قَدَرٌ لا مَرَدَّ له؟

قد لا يجدون الجنّة حيث هاجروا، ولن يجدوها. لكنّهم على الأقلّ يتخلّصون من جهنّم حيث كانوا وتعذّبوا بنيرانها وبانفجاراتها. فلبنان الممزّق والمهترئ والجاثي على ركبتيه يكاد اللاجئون إليه يزيدون عدداً على المهاجرين منه. وهنا تتكامل الهجرة غير الشرعية إليه مع الهجرة القسرية منه في تبديد الحلم الجميل وفي تحويله إلى كابوس مخيف.
وسط هذه الأمواج المتلاطمة تواصل القوارب الأربعة عشر إبحارها على غير هدى تدفعها رياح من هنا، وتشدّها حبال من هناك، وكلّ قارب منها يعتقد أنّه وحده قارب النجاة والمؤهّل لحمل اللبنانيين إلى شاطئ الأمان. حتى إذا تراءى له الشاطئ عن بُعد، سرعان ما يدرك أنّه الشاطئ الخطأ. فيندم، كما حدث مراراً في السابق، لكن بعد فوات الأوان.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…