… عن حياد لبنان و”تحييد” المقاومة

أعاد إطلاق الصواريخ من الجنوب على إسرائيل هواجس الماضي وكوابيسه، لكنّه سلّط في الوقت نفسه أضواءً كاشفة على الحاضر. وكأنّ الماضي يعيد نفسه أو لا يزال حاضراً مع فارق اللاعبين وتبدّل الظروف المحلية والإقليمية، وإن بقيت القضية الفلسطينية عالقة ومعها تبعاتها في “دول الطوق”.
ما يعقّد الموقف من أحداث الأسبوع الماضي ليس صعوبة قراءة ظروف المواجهة بين إسرائيل و”جبهة الممانعة” وحدود هذه المواجهة واحتمالاتها، وإنّما قراءة الحدث من زاوية الموقف من إسرائيل نفسها كدولة احتلال تواصل سياسات الاستيطان والتمييز والعنصرية بحقّ الشعب الفلسطيني. وهو ما يجعل الموقف منها موقفاً مبدئياً، سياسياً وأخلاقياً، يتجاوز ما إذا كانت إسرائيل تريد الاعتداء على لبنان أو لا، باعتبار أنّ الموقف من إسرائيل هو أوّلاً موقفٌ من سياساتها ضدّ الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة، وتحديداً في القدس والضفّة الغربية.

موقفٌ داخليّ
هذا الموقف لا يمليه دعم القضية الفلسطينية أو قضية الفلسطينيين، لكي نخفّف عن التعبير حمولاته التاريخية التوظيفية، وحسب، بل يمليه أيضاً تحقيق الشروط السياسية والأخلاقية لقيام دول ديمقراطية لا تميّز بين مواطنيها على أيّ أساس كان، أي دول توفّر إمكانات المساواة بين مواطنيها وتحقّق العدالة الاجتماعية وتتيح الحرّيّات العامّة والفردية.

إذا كان سلاح حزب الله في الداخل وفي حركته الإقليمية مشكلة لبنانية رئيسية، فإنّ خلفيّات المواقف الرافضة له تفاقم، في مجملها، تلك المشكلة

لذلك الموقف من إسرائيل هو أيضاً موقف داخلي لبناني لأنّه بموازاة السؤال عن أيّ سياسة دفاعية وخارجية نريد للبنان، هناك سؤال آخر لا يقلّ أهمّية وهو: أيّ دولة نريد؟ بمعنى أيّ نظام سياسي نريد وأيّ نموذج حكم؟ هل نظام عصري، أي يسعى إلى تحقيق أفضل شروط العيش في عالم اليوم. وهو ما يقتضي وعياً بالديناميكيات العالمية على المستويات السياسية والاقتصادية والقيمية؟ أم نظام يصادر الوعي ويكيّفه مع مصالح وقيم قواه الرئيسية، ولو كانت هذه المصالح وهذه القيم ضدّ مصالحة لبنان مع عالم اليوم؟
هذا يحيلنا إلى المقاربة الموضوعية لمسألة إسرائيل وقضية فلسطين، بوصفهما ساحة اختبار عالمي، لا عربي وحسب، لقدرة الأفراد والدول على صوغ موقف سياسي وأخلاقي من الأحداث الجارية، سواء داخل إسرائيل أو على مستوى الصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال.
والحال فإنّ طريقة مقاربة هذين الموضوعين تعكس المنظومة القيمية التي تملي حركة الأفراد والقوى، سياسياً وأخلاقياً، داخل دولهم.

إشكاليّة مزدوجة
تحيلنا هذه المقاربة إلى الإشكالية المزدوجة الرئيسية في الواقع اللبناني، أي إشكالية حزب الله والمقاومة مقابل إشكالية الحياد.
إنّ هذه الإشكالية بوجهَيها، أي المقاومة والحياد، تقوم من جهة حزب الله على مقاربة المسألة الإسرائيلية وقضية الفلسطينيين مقاربة أمنيّة وعسكرية بحت تحرّكها الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة. وتقوم من جهة الداعين إلى الحياد على بناء الموقف من هذه المسألة وتلك القضية على قاعدة أنّ رفض العمل المسلّح ضدّ إسرائيل من لبنان، أي الدعوة إلى حياد لبنان عسكرياً، أدّى ويؤدّي إلى الحياد السياسي والأخلاقي عن هاتين المسألة والقضيّة.

خطر رئيسيّ
الخطر الرئيسي في هذه المعضلة اللبنانية البنيوية يكمن في أنّ الموقف من سلاح حزب الله وارتباطه بالمنظومة الإيرانية يجذّر دعوات الحياد المطلق عن قضية الفلسطينيين وكأنّها لا تعني الداخل اللبناني من قريب أو بعيد. أي أنّ الحزب بمصادرته “القضية المركزية” وبتحويلها إلى قضية أمنيّة وعسكرية بحت، يُجري عن وعي أو لا، عملية كيّ للوعي الجمعي إزاء تلك القضية الأساسية، بحيث “يموت” الموقف منها أو “ينحرف”، بينما هو موقفٌ ضروري لبناء تصوّر عن لبنان المستقبل، أو لاختبار منظومة القيم التي ستعيد تشكيل العقد الاجتماعي في لبنان.
إذا كان سلاح حزب الله في الداخل وفي حركته الإقليمية مشكلة لبنانية رئيسية، فإنّ خلفيّات المواقف الرافضة له تفاقم، في مجملها، تلك المشكلة، أو لا تنبئ بأنّ البدائل عن نموذج الحكم الذي يقدّمه الحزب هي بدائل عصرية قادرة على اقتراح مستقبل عصري للبنان. تماماً كما أنّ ما يحصل في إسرائيل هو صراعٌ على مستقبلها ونوعيّته، بغضّ النظر عن هامش الفوارق في موقف طرفَي ذاك الصراع من الفلسطينيين.

لو سلّمنا جدلاً بضرورتها كجزء من سياسة دفاعية عامّة، فإنّ مسألة “تحييد” المقاومة هي مسألة إشكالية

أيّاً يكن من أمر، لم يواجَه المحتجّون في إسرائيل، حتى الآن، بعنف الميليشيات كما حصل في لبنان والعراق من جانب “قوى المقاومة”.

وظائف جانبيّة
يحيلنا هذا الواقع إلى الوظائف “الجانبية” لتلك القوى في الداخل. وهي وظائف تستند أساساً إلى “تحييد” المقاومة عن الداخل، أي عزلها في مساحة طائفية لا يدخل إليها أحد من خارجها، فتغدو بذلك جزءاً من الصراع الطائفي عوض أن تكون أحد المخارج منه. وهذا بغضّ النظر عن نقاش مسألة المقاومة الأمنيّة لناحية ضرورتها وشروطها.
لكن حتى لو سلّمنا جدلاً بضرورتها كجزء من سياسة دفاعية عامّة، فإنّ مسألة “تحييد” المقاومة هي مسألة إشكالية، ولا سيّما عندما “يُتاح” لقوى غير لبنانية الانخراط في المقاومة من خارج أيّ سياق دفاعي لبناني!

أيّ إجماع؟
في المقابل تُطرح إشكالية دعوات الحياد نفسها، إذ هي لا تنطلق أساساً من “التحييد الطائفي” للمقاومة وتحوُّلها قوّة طائفية في اللعبة الداخلية. وهذا قبل نقاش مسألة المقاومة بذاتها، أو السياسة الدفاعية للبنان. أي أنّ هذه الدعوات تحيّد نفسها عن “تحييد” المقاومة، وهذا عطبٌ أساسي فيها.

إقرأ أيضاً: بين الحراك الداخليّ والتحوّلات الإقليميّة: أيُّ سياسة لبنانيّة؟

في موازاة ذلك، فإنّ تناولَ حزب الله لقضية الإجماع اللبناني حول المقاومة يستبعد كلّيّاً تأثيراتِ “التحييد الطائفي” للمقاومة على مقاربة قضية المقاومة وتحوُّلها أحد عناوين الانقسام الطائفي.
هذا كلّه نقاش لبناني لم يُفتح بعد ولم تتحقّق أدنى شروط الخوض فيه، ولا مؤشّرات إلى إمكان تحقّقها قريباً، بينما يمرّ الوقت ثقيلاً وتتفاقم الأزمة حتّى حدود سقوط الدولة… وكأنّ المقاومة لا تنتصر إلا بسقوط الدولة حتّى الرمق الأخير!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: eliekossaifi@

إقرأ أيضاً

هل يزور البخاري فرنجية قريباً؟

يلتقي سفراء اللجنة الخماسية الرئيس نبيه برّي مجدّداً بداية الأسبوع المقبل لوضعه في حصيلة اللقاءات مع القوى السياسية. بعد ذلك، لا “برمة” جديدة لممثّلي واشنطن…

لقاءات الخماسية: بحث عن رئيس.. في كومة قشّ الخصومات

عادت اللجنة الخماسية إلى الساحة اللبنانية، لكنّ عودتها كانت قد سبقتها اجتماعات في واشنطن بين الأميركيين والفرنسيين. وعلى أساس توزيع الأدوار والتنسيق في معالجة الملفّات…

الكويت بين “هارفرد” و”إيلينوي”… الصِّدام الحتميّ

يقول التاريخ الكويتي إنّ رئيس الوزراء الذي يذهب لا يعود. أي أنّه يرأس حكومات متتالية ثمّ يمضي من دون أن يأتي مرّة جديدة على رأس…

“سابقة موريس سليم”: الطعن بتعيين رئيس الأركان!

 سجّل وزير الدفاع موريس سليم سابقة لم تعرفها حكومات ما قبل الطائف ولا بعده من خلال الطعن أمام مجلس شورى الدولة بقرار تعيين رئيس الأركان…