رمضان طرابلس: فِرَق “الوداع” و”شعرة النبيّ”…

لرمضان في طرابلس نكهة وطقوس مختلفة عن تلك الموجودة في أيّ منطقة أخرى، ومنها وداع الليالي الأخيرة من رمضان من خلال جولات تقوم بها فرق “وداع رمضان” في الأحياء، فتنقلب الحياة في تلك الليالي إلى مهرجان فرح روحيّ ودينيّ. إضافة إلى ذلك يزور المؤمنون “الأثر الشريف” في آخر يوم جمعة من هذا الشهر.
تشمل جولة “الوداع” مختلف الأحياء في المدينة، وتكون في الليالي العشر الأخيرة من الشهر الفضيل، وتحمل فيها الفرق الطبول والدفوف، وتقوم بإنشاد موشّحات دينية متنقّلةً بين الأبنية والمحلّات التجارية المختلفة لجمع تبرّعات من الناس. تنقسم هذه الفرق وفق مناطق معيّنة، ففي الزاهرية والمئتين آل بارودي، وفي منطقة أبي سمرا آل منوري، وفي منطقة الضم والفرز آل الخولي، وفي حارة البرّانية والقبّة آل الزاهد.
أمّا اليوم وبعد موت أصحاب الخبرة في هذا المجال فقد بات ورثتهم يعهدون بالمهمّة إلى شخص واحد ذي اهتمام بهذا الطقس يشكّل فرقاً من الشباب تطوف على البيوت مودّعة شهر رمضان المبارك، لكنّ هذه الفرق تفتقر إلى التنظيم والكثير من مواصفات الوداع القديمة. 
[VIDEO]

كيف نشأت هذه العادة؟
بحسب المؤرّخ خالد تدمري، “ظهر الوداع في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي عندما أمر بجمع ما يسمّى “النوبات” لأنّها أدخلت البهجة إلى قلب رسول الله عندما هاجر إلى المدينة واستقبله أهلها بـ “طلع البدر علينا”. وأقرّ السلطان الأيوبي العمل بهذه النوبات، فكانت تسير في مواكب الأعياد والمناسبات الدينية، إضافة إلى استخدامها في جمع الناس في أماكن الذكر والوعظ. وانبثق عن هذه النوبات ما يسمّى بالوداع الذي تسلّمه مشايخ مختصّون ينتمون إلى بعض العائلات الطرابلسية، كانوا يقومون في شهر رمضان بتسحير الناس بشكل يومي، ويجمعون الطبول في العشر الأواخر من رمضان ويطوفون في الأحياء والمنازل مبشّرين بقدوم عيد الفطر السعيد، وكان الأهالي يعملون على تكريمهم وإعطائهم ما تيسّر من المال”.
يضيف تدمري: “كان المسؤول المباشر عن هذا الموضوع الشيخ حسن القدوسي الذي كان يحمل فرماناً من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بذلك. وقد التزم ولده الشيخ توفيق القدوسي هذا الأمر، ثمّ حفيده حسن القدوسي، بمشاركة آل الزاهد وآل اللوزي الذين يحافظون على هذا التقليد”.

تشمل جولة “الوداع” مختلف الأحياء في المدينة، وتكون في الليالي العشر الأخيرة من الشهر الفضيل، وتحمل فيها الفرق الطبول والدفوف، وتقوم بإنشاد موشّحات دينية لجمع تبرّعات من الناس

الفرق بين “وداع” الأمس واليوم
هناك فرق كبير جداً بين وداع الأمس ووداع اليوم، فقد كان أهل العلم والفقه والمشايخ والعلماء هم الذين يقومون بهذه المهمّة، وكانت أصواتهم جميلة يطلقونها في مدائح ذات قيمة ومعنى. أمّا اليوم فقد تغيّر كلّ هذا ولم يعد يوجد من يضبط هذه الأمور، فأصبح الوداع عادةً وتقليداً لا أكثر ولا أقلّ، إذ يقوم ورثة أصحاب هذه المهنة بتلزيم مهمّة التوديع إلى بعض الأشخاص الذين يقومون بها بشكل سنوي، إضافة إلى فرق جديدة انتشرت بحكم اتّساع الدائرة العمرانية في المدينة، بحسب تدمري.
لعب ارتفاع عدد السكّان في المدينة دوراً مهمّاً في دور فرق الوداع. فهذه الفرق كانت تكتفي بتجوّلها في آخر أيّام رمضان، لكن بسبب الكثافة السكانية التي ازدادت بشكلٍ واضح، يُضطرّ هؤلاء إلى التجوّل في الشوارع في بداية العشر الأواخر من رمضان أو بعد منتصف رمضان، وفق ما يقول لـ”أساس” خضر خالد بارودي المسؤول عن فرقة الوداع في مناطق الزاهرية، المئتين، خان العسكر والغرباء.

امتعاض وفوضى
لا يُخفي الكثير من الطرابلسيين امتعاضهم من تجوّل أكثر من فرقة في المنطقة الواحدة أو الحيّ الواحد، وقيام بعض الأهالي بإعطاء تبرّعات أكثر من مرّة، وافتقار هذه الفرق إلى التنظيم والكثير من مواصفات الوداع القديمة.
يلفت بارودي إلى وجود فرق تتعدّى على عملهم: “نحن نحصل من الأوقاف الإسلامية على ورقة تكون بمنزلة رخصة تسمح لنا بالعمل في نطاق جغرافيّ محدّد، لكن نجد فرقاً أخرى تجول في منطقتنا، وهذا الأمر غير مسموح لأنّه يُسيء إلى سمعتنا ويدفع الناس إلى اتّهام بعض الفرق بالنصب عليهم، وهذا غير صحيح”.

ما هو الأثر الشريف وكيف وصل إلى طرابلس؟
يروي أستاذ التاريخ في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية وصاحب العديد من الكتب التاريخية الدكتور ماجد درويش لـ”أساس” حكاية وتاريخ هذا الأثر قائلاً: “في عام 1889، وصلت فرقاطة (اسم يطلق على نوع من السفن الحربية السريعة) عسكرية عثمانية إلى الميناء بقيادة خالص باشا تحمل هديّة السلطان عبد الحميد الثاني إلى طرابلس، وهي عبارة عن شعرة من لحية النبي محمد (ص)، وذلك لمناسبة إعادة ترميم المسجد التفّاحي في حيّ النصارى في الزاهرية الذي أطلق عليه فيما بعد اسم “الحميدي” تيمّناً باسم السلطان عبد الحميد. وخرجت حينها المدينة بشيبها وشبابها لاستقبال “الأثر الشريف” يتقدّمهم المشايخ والعلماء، وعمّت الأفراح أرجاء المدينة لأكثر من أسبوع، وأُقيمت الموالد في المساجد وحلقات الذكر، ووُزّعت اللحوم والموادّ الغذائية على الفقراء احتفالاً بتخصيص السلطنة العثمانية طرابلس بأثر نبوي”.
يذكر مؤرّخ طرابلس الدكتور عمر تدمري، نقلاً عن شيخ قرّاء طرابلس محمد نصوح البارودي، أنّه “في سنة 1309هـ/1891م، تمّ تجديد بناء جامع الحميدي المعروف قديماً بجامع التّفّاحي، والذي يُعرف الآن بجامع الحميدي. وليجري الاحتفال بافتتاح الجامع بعد تجديده، طلب مسلمو طرابلس من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أن يأذن لهم بذلك ويُصدر براءة بتعيين خطيب للجامع، فاغتنم السلطان هذه الفرصة، وأهدى أهل طرابلس شعرة من أثر الرسول (ص)، تقديراً لولائهم للدولة العليّة”.
ويتابع: “وُضعت الشعرة في علبة من الذهب الخالص، وأُرسلت مع أحد الباشوات في فرقاطة خاصة، وعندما وصلت إلى الميناء خرج أهالي المدينة، من مسلمين ومسيحيين، لاستقبالها، وعندما نزل الباشا العثماني حاملاً العلبة، تناولها منه الشيخ حسين الجسر، ووضعها على رأسه وحملها إلى الجامع الكبير. وكان الأثر الشريف مُهدى في الأصل ليوضع في جامع الحميدي، لكنّ الشيخ علي رشيد الميقاتي أقنع رجالات البلد بأن يوضع الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير لكونه أكبر مساجد المدينة”.
وقد كتب على الهلال الذهبي الذي يشكّل غطاء الشعرة الشريفة العبارة الآتية: “أهدى هذه الشعرة المكرّمة مولانا السلطان عبد الحميد خان سنة 1309 بعنوان “لحية سعادت”. منحنا الله شفاعة صاحبها الأعظم صلّى الله عليه وسلّم. الموجه عليه خدمتها محمد رشدي ميقاتي”.

أمّا حول غطاء الأنبوب الذي يحتضن الأثر الشريف فقد نقش هذا البيت من الشعر:
لم نُعْطِ في كلّ العوالم شعرةً
خُلِقَتْ جميع الكائنات لأجلها.
في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك يتمّ إخراج “الأثر الشريف” من غرفة خاصة وعرضه أمام الزوّار الذين يأتون لتقبيله والتبرّك به وسط ابتهالات ومدائح نبوية، وتضرّع إلى الله بالدعاء. يجلس في الغرفة المخصّصة لحفظ الشعرة القرّاء يتلون القرآن الكريم بعد صلاة العصر طوال أيام رمضان، ويختمونه في اليوم الـ29 من الشهر الكريم بحضور مفتي المدينة وعلمائها. وهي لا تُعرض طوال العام حتى لا تتمّ سرقتها كما سُرِق الأثر في بيروت خلال الحرب الأهلية في عام 1975، عندما تعرّض الجامع العمري للسرقة.

يروي مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام: “كما في كلّ عام في الجمعة الأخيرة من رمضان، وكما جرت العادة تُعرض شعرة النبي صلّى الله عليه وسلّم المعروفة بالأثر الشريف ليتبرّك بها الصائمون والمصلّون والأتقياء. وفي أيار من عام 2019 أعادت وكالة التنسيق والتعاون التركية “تيكا” ترميم وتحديث غرفة حفظ الأثر النبوي الشريف في الجامع”.

[PHOTO]

إقرأ أيضاً

حين “يَعلَق” موكب ميقاتي بعجقة السير!

تتّسع دائرة الجفاء والتباعد على خطّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام المولوي والمدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. آخر الأخبار تؤكّد…

انتخابات روسيا: المسلمون واليهود صوّتوا لبوتين.. لماذا؟

حقّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية الروسية التي أُجريت بين 14 و17 آذار الجاري. وإذا كان الغرب، وعلى رأسه أميركا، قد…

حلفاء “المحور” في لبنان… يخططون لـ”ما بعد طوفان الأقصى”

شهدت العاصمة اللبنانية بيروت في الأسبوع الفائت إنعقاد لقاء لقوى ومنظمات حزبية من محور الممانعة، منها قيادات في الحزب والجماعة الإسلامية وحركة حماس، وذلك بهدف…

هل يُسلّم البيطار ملفّه لمدّعي عام التمييز؟

من موقعه القضائي كرئيس لمحكمة التمييز الجزائية كان القاضي جمال الحجّار يتابع مراحل التحقيقات في انفجار المرفأ. وكانت لديه مقاربته القانونية-الشخصية للتعقيدات التي كبّلت الملفّ…