لبنان الرهينة: هل الحزب قَدَرٌ لا مَرَدَّ له؟

بذلت المملكة العربية السعودية جهداً كبيراً في الملف السوري في المدّة الأخيرة. دعت وزير الخارجية السوري إليها واستمعت إلى مطالبه، وأطْلعته على ما يكون على النظام أن “ينجز” لتقريب الحلّ. ثمّ جمعت دول مجلس التعاون الخليجي ودول الجوار السوري على مشارف القمّة العربية في شهر أيار بالمملكة. وفي الاجتماع قالت عدّة دولٍ عربيةٍ إنّ الأفضل استقبال النظام بالجامعة من جديد، وتشكيل لجنة من الدول العربية (= القيادة العربية لرعاية الشأن السوري) لإنفاذ الخطوات باتجاه الحلّ السياسي من الجانبين. السعوديون ذكروا في بنود الحلّ (السياسيّ): مكافحة الإرهاب، وإخراج الميليشيات، والاهتمام بالشؤون الإنسانية، وإيقاف تجارة المخدّرات، والترتيب لعودة اللاجئين. وبقيت أربع أو خمس دول عربية ضدّ العودة السورية إلى الجامعة إلّا بالسير خطوات في البنود التي ذكرها السعوديون ووافق عليها السوريون في البيان المشترك بين وزير الخارجية السعودي ووزير الخارجية السوري بجدّة. وهناك دولتان عربيّتان طالبتا مباشرةً بالدخول في الحلّ السياسي بالسعي إلى إنفاذ القرار الدولي رقم 2254. والتعليل لذلك أنّه لا بدّ من إعطاء شيء للمعارضة السورية في المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام حتى الآن. والأمر الآخر أنّ الأميركيين والأوروبيين لن يوافقوا على الحلّ والمساعدة في إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين إلّا بالسير في إنفاذ القرار الدولي 2254. وعلى هذا انفضّ اجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون ودول الجوار بدون نتيجة واضحة، ودفع ذلك وزير الخارجية السوري إلى القول إنّ النظام ليس مهتمّاً بالعودة إلى الجامعة، بل هو مهتمّ بالعلاقات الثنائية مع الدول العربية التي أقامت علاقات معه بدون شروط. ولذلك مضى من فوره إلى الجزائر.

نصر الله لا يكتفي بمحاولة الإرغام على فرض رئيس للبنان، بل يريد أيضاً أن يظلّ التوتّر سائداً في الجنوب بحيث يتعذّر التفكير في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيدٍ للبلد

الازدحام الدولي يمنع الحلّ السوري
لقد صار الحلّ في سورية شديد التعقيد. وذلك بسبب الحضور الدولي والإقليمي الكثيف على الأرض السورية. هناك الوجود العسكري الروسي والأميركي. وهناك الوجودان الإيراني والتركي على الأرض بالمباشر وعبر الميليشيات. وهناك الاستقلالية الكردية المتحقّقة بقوّة حزب العمال الكردستاني (التركي) والدعم الأميركي. ولذلك هناك حاجة إلى مفاوضاتٍ كثيرةٍ وكثيفةٍ مع الأطراف المتدخّلة حتى قبل الحديث بين النظام والمعارضة. فالمسألة الآن أنّ عودة علاقات النظام مع دول الجامعة، حتى وإن جرت، لا تكفي لاستعادة وحدة الأرض السورية، وسط إصرار إيران على البقاء، وإصرار تركيا على عدم الخروج بدون شروط، ووضع مدينة إدلب الخاص، وكذلك الوضع الخاص للإقليم الكردي. وقبل ذلك وبعده الصراع الدولي الناشب بين أميركا وروسيا الذي يجعل من العسير التفاوض بينهما على الخروج مع استمرار النزاع على أوكرانيا.

إذا كان النظام مشلَّعاً في سورية على هذا النحو ولا تغيب عن سمائه وأرضه الغارات والصواريخ الإسرائيلية، فإنّ “ميزة” لبنان العظيمة أنّه خاضعٌ لسلطةٍ واحدةٍ هي سلطة حزب الله الإيراني. وفي كلّ فترةٍ يختار الحزب شريكاً صغيراً يدّعي الاستناد إليه، سواء في صراعاته الداخلية، أو في صراعه الاستراتيجي مع إسرائيل. خلال حوالى عقد ونصف عقد، استند الحزب في صراعه على السيطرة في لبنان في مواجهة عدّة أطراف إلى التيار الوطني الحرّ وبطلَيْه الرئيس عون وصهره جبران باسيل. لكنّه في الشهور الأخيرة وقد زاد فائض القوّة لديه، استغنى عن باسيل وانفرد بترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. وفرنجية حليف قديم لبشّار الأسد وللحزب وشبكاته المتنوّعة. ولذلك هناك إجماع حزبي مسيحي الآن على معارضة حزب الله ومرشّحه، وكلام عالي المستوى على استخدامات الحزب للجنوب اللبناني.

لبنان إلى مزيد من الارتهان
في المجال الاستراتيجي، كان الحزب يستند إلى “حماس” و”الجهاد” إنّما من غزّة، إلى أن اضطربت الأمور بعض الشيء عندما رفض الحماسيّون والجهاديّون القتال مع النظام أثناء الثورة السورية بخلاف أحمد جبريل وتنظيمه. “حماس” اتّجهت نحو تركيا وقطر، و”الجهاد” ظلّ بين بين. إنّما في السنتين الأخيرتين استعاد التنظيمان علاقاتهما بإيران وبالنظام السوري. ولذلك منذ سنتين وعلى طريقة “إعطاء من لا يملك من لا يستحقّ”، وهب الحزب مراكز وقواعد لحركة حماس في المخيّمات وفي بعض نواحي الجنوب اللبناني. لقد حسب السذّج منّا أنّ اتفاق الحزب مع إسرائيل على ترسيم الحدود البحرية بالجنوب سيغيّر من طبيعة الصراع. لكنّ ذلك لم يصحّ. فقد أخبرنا مراقبون أجانب منذ حصول انفجار في مخزن للذخيرة تابع لحركة حماس في مخيّم البرج الشمالي عام 2021، أنّه صار لـ”حماس” نصيب في استباحة الجنوب وإرسال رسائل منه. عادت قوّات “حماس” خارج غزّة إلى الانتشار في سورية ولبنان. أمّا قياداتها الميدانية التي تخرج من تركيا وقطر فقد اتّجهت أيضاً إلى لبنان وسورية بإشراف الحزب ومتابعته وتوجيهه. جاء إسماعيل هنيّة إلى لبنان قبل شهر، وكان سيبقى للاحتفال بيوم القدس العالمي الذي يقيمه الإيرانيون في رمضان، لكنّه خرج فجأةً. وعلى أثر خروجه يقال إنّ الحماسيّين هم الذين أطلقوا الـ 34 صاروخاً باتجاه الجليل الأعلى المحتلّ. وخرجت كلّ أنواع الشائعات التي تقول إنّ الحزب كان يعلم أو لا يعلم، حتى خرج حسن نصر الله منتصراً بالمقذوفات وساخراً من الردّ الإسرائيلي “المحدود والسخيف”: لماذا تخاف إسرائيل من الحزب في لبنان ولا تخاف منه في سورية؟! جاء في “وول ستريت جورنال” أنّه قبل إطلاق المقذوفات بأسبوعين جاء إلى لبنان الجنرال قاآني قائد الحرس الثوري والتقى بنصر الله وهنيّة وجرى الاتّفاق على الواقعة. فيكون في ذلك ردٌّ على تهجّمات الإسرائيليين على المسجد الأقصى، وتحسينٌ لسمعة نصر الله وحماس معاً.

إقرأ أيضاًً: الشرّ والمسألة اللبنانيّة أيضاً وأيضاً

ما حصل في الجنوب يزيد من التوتّر والارتهان على الساحة اللبنانية. فنصر الله لا يكتفي بمحاولة الإرغام على فرض رئيس للبنان، بل يريد أيضاً أن يظلّ التوتّر سائداً في الجنوب بحيث يتعذّر التفكير في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيدٍ للبلد الصغير ما دام حزب الله قَدَرٌ لا مردَّ له. وقد كنّا نسخر من ميشال عون عندما قال إنّ سلاح الحزب باقٍ لنهاية أزمة الشرق الأوسط، فإذا هو مُحقٌّ في ذلك، كما كان محقّاً في أنّ وطننا الصغير سائر إلى جهنّم.
اعتاد إسماعيل هنيّة في السنتين الأخيرتين على الإشادة بالحوثيين بدون مناسبة، لكنه لم يقُل شيئاً بهذا الصدد في المدّة الأخيرة. كلّ الصراخ باسم فلسطين، ولا شيء على الإطلاق لفلسطين: يا أمّةً ضحكت من جهلها الأمم.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…