“بيبي… أو نحرق البلد”

ليس ما شهدته إسرائيل في الأيّام القليلة الماضية، وما زالت تشهده، سوى دليل آخر على وجود دولة مريضة أخرى في منطقة تمرّ في مخاض ليس معروفاً ما الذي سيؤدّي إليه. لن يغيّر شيئاً تأجيلُ “بيبي” نتانياهو الإصلاحات التي يقترحها في شأن دور السلطة القضائية نظراً إلى أنّ الأزمة الإسرائيلية أعمق من ذلك بكثير.

مثلما بات مطروحاً إعادة تركيب سوريا ولبنان والعراق، بات مطروحاً، أكثر من أيّ وقت، إعادة تركيب إسرائيل. هل يمكن إعادة تركيب إسرائيل في ظلّ سيطرة اليمين المتطرّف على مقدّرات دولة تُعتبر من بين أكثر الدول في العالم تقدّماً تكنولوجيّاً وبين أكثرها تخلّفاً من ناحية التمسّك بالخرافات الدينيّة والعنصرية والإصرار على ممارسة الاحتلال؟

ليس ما شهدته إسرائيل في الأيّام القليلة الماضية، وما زالت تشهده، سوى دليل آخر على وجود دولة مريضة أخرى في منطقة تمرّ في مخاض ليس معروفاً ما الذي سيؤدّي إليه

شعب الله المحتار

كان الإسرائيليون يسمّون أنفسهم “شعب الله” المختار. صاروا في سنة 2023 شعب الله المحتار، بعدما تبيّن أنّ الأزمة الداخلية الإسرائيلية أزمة مركّبة يحتاج الخروج منها إلى الخلاص من بنيامين نتانياهو أوّلاً. لم يعد ينقص رئيس الحكومة الإسرائيلية سوى اعتماد الشعار الذي رفعه النظام السوري في مواجهة الثورة الشعبية التي اندلعت في مثل هذه الأيّام من عام 2011، وهو شعار “الأسد أو نحرق البلد”. لم يعد مستبعداً أن يرفع أنصار نتانياهو هذا الشعار في ضوء إصراره على جعل السلطة القضائية تابعة للسلطة التنفيذية وللأكثريّة اليمينيّة في الكنيست، وهي أكثرية حجرُ الزاوية فيها المستوطنون في الضفّة الغربيّة.

تبدو الأزمة الإسرائيلية مركّبة نظراً إلى أنّها تعبير عن انقسام عمودي للمجتمع. طال الانقسام الجيش الإسرائيلي والإدارات المختلفة، بما في ذلك الاتحاد العامّ للنقابات وقطاعات مثل القطاعين الطبّي والتعليمي.

تبدو الحياة معطّلة في إسرائيل في ظلّ تجاذبات ليس معروفاً ما يمكن أن تنتهي إليه، وفي ظلّ إصرار “بيبي” على أنّ مستقبله السياسي أهمّ من مستقبل إسرائيل. لم يعد ما يمنع حصول “حرب أهليّة”، حذّر منها رئيس الدولة إسحق هرتسوغ وسياسيون آخرون.

هناك من يزايد على بنيامين نتانياهو في ما يخصّ وقف تشريع الإصلاح القضائي. يهدّده وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بالتخلّي عنه وإسقاط حكومته في الكنيست في حال تراجَع عن ضرب السلطة القضائية، لكنّه يوجد وزراء آخرون يملكون حدّاً أدنى من التعقّل. كتب وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي ميكي زوهار على “تويتر”: “عندما تشتعل النيران في المنزل، لا تسأل من هو على حقّ، بل تسكب الماء وتنقذ قاطنيه”. وأضاف: “إذا قرّر رئيس الوزراء إيقاف التشريع من أجل منع الشرخ في الأمّة، فيجب علينا دعم موقفه”.

واقترح وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات على نتانياهو “وقف” خطّته للإصلاح “وإعادة حساباته”. حذّر، بدوره، من أنّ الخطة الهادفة إلى إصلاح القضاء دفعت البلاد إلى شفا حرب أهلية. قال: “الإصلاح ضروري وسنفعله لكن ليس على حساب حرب أهلية”.

تصلح حكومة “بيبي” بالكاد للقضاء على السلطة القضائية في إسرائيل لحماية رئيسها من تهم الفساد التي تلاحقه يومياً. تفعل ذلك تحت شعار “بيبي أو نحرق البلد” المستعار من نظام في حرب يومية مع شعبه!

مسيرة صعود اليمين

ليست الأزمة التي تمرّ فيها إسرائيل سوى تعبير عن مسار معيّن. يتمثّل هذا المسار في الصعود المستمرّ لليمين منذ وصول تكتّل الليكود إلى السلطة في عام 1977. عرف المجتمع الإسرائيلي دائماً كيفيّة الحدّ من التطرّف اليميني. وُقّعت معاهدة السلام المصرية – الإسرائيليّة في مثل هذه الأيام من عام 1979، أي قبل 44 عاماً، مع حكومة برئاسة مناحيم بيغن. لكنّ المقلق حالياً أنّه لم يعُد من حدود للتطرّف اليميني بعدما صار متطرّف من طينة “بيبي” تحت رحمة متطرّفين آخرين. يزايد هؤلاء عليه وصولاً إلى حمله على إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت لمجرّد اعتراضه على خطوة المسّ بالسلطة القضائية.

في مسيرة صعود اليمين، كانت نقطة التحوّل اغتيال إسحق رابين في الرابع من تشرين الثاني 1995 في أثناء احتفال في تل أبيب على يد متطرّف يدعى ييغال عمير. دفع رابين ثمن توقيع اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية من جهة، واعتقاده، من جهة أخرى، أن ليس في الإمكان بقاء إسرائيل دولة ديمقراطية ذات أكثرية يهودية في غياب تسوية مع الفلسطينيين كشعب موجود في الضفة الغربيّة وغزّة وفي داخل إسرائيل نفسها، أي داخل ما يسمّى “الخط الأخضر” (حدود 1948).

منذ الرابع من تشرين الأوّل 1995، يحكم إسرائيل قاتل إسحق رابين. كيف يمكن السماح لقاتل بالتحكّم ببلد وبسياستَيْه الداخليّة والخارجيّة؟ من يتمعّن في هذه المعادلة يستوعب لماذا لا تستطيع حكومة “بيبي” إخراج إسرائيل من دائرة العنف، خصوصاً أنّها تضمّ وزراء من أمثال بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وزراء لا يختلفون في فكرهم عن الفكر الذي قاد إلى اغتيال إسحق رابين.

يصعب الكلام عن عودة إلى منطق السياسة في الداخل الإسرائيلي وعلى الصعيد الإقليمي ما دام قاتل رابين لا يزال يحكم إسرائيل الساعية إلى تنسيق جدّيّ مع الولايات المتحدة ومع دول المنطقة في مواجهة الخطر الإيراني الداهم.

في النهاية لا يمكن اتّباع سياسة اغتيال الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة والعداء للأردن من جهة، والشكوى في الوقت ذاته من إيران ومشروعها التوسّعي في المنطقة واحتمال حصولها على سلاح نووي من جهة أخرى.

من يلجأ إلى سياسة الاغتيالات، أي السياسة التي اتّبعها قاتل رابين، لا يمتلك سياسة من أيّ نوع كان، لا تجاه الشعب الفلسطيني ولا تجاه الداخل الإسرائيلي وكلّ ما يدور في المنطقة، بما في ذلك خطر تحوّل الجنوب السوري إلى قاعدة صواريخ ومسيّرات إيرانيّة أخرى في المنطقة.

إقرأ أيضاً: بين إسرائيل وفلسطين: صراعات.. لا صراع واحد

حكومة “بيبي”

فقدَ المجتمع الإسرائيلي، الذي تحوّل إلى مجتمع مريض، أيّ تماسّ مع منطق السياسة. لعلّ أكثر ما يدلّ على ذلك تشكيلة الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تضمّ وزراء دينوا في قضايا ذات علاقة بالإرهاب والفساد. الأكيد أنّ مثل هذه الحكومة، التي يمكن أن تتسبّب بانفجار كبير في داخل إسرائيل نفسها وفي الضفّة الغربيّة، لا تصلح للتعاطي مع تعقيدات الشرق الأوسط والعالم.

تصلح حكومة “بيبي” بالكاد للقضاء على السلطة القضائية في إسرائيل لحماية رئيسها من تهم الفساد التي تلاحقه يومياً. تفعل ذلك تحت شعار “بيبي أو نحرق البلد” المستعار من نظام في حرب يومية مع شعبه!

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…