كيسنجر: أميركا لم تعد “القوّة الوحيدة” في المنطقة

“الولايات المتحدة لم تعُد القوّة التي لا غنى عنها في المنطقة، ولا الدولة الوحيدة القوية أو المرنة بما يكفي للتوسّط في اتفاقيات السلام”. هذا الكلام ليس لمسؤول إيراني أو سوري، أو لأحد المحللين السياسيين التابعين لقوى الممانعة في لبنان، بل هو لعميد الديبلوماسية الأميركية منذ أكثر من نصف قرن، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، والمنظّر الأكثر شهرةً للسياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب الباردة إلى اليوم، هنري كيسنجر.

قد يقول البعض إنّ كلامه هذا استمرار لسلوكه السياسي على مدى أكثر من نصف قرن منذ أول منصب له كمستشار للأمن القومي الأميركي في عام 1969، حين كان يتقصّد إثارة الجدل مستلهماً من خبرته الطويلة في الشؤون الخارجية، وخاصة ما يتعلق منها بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.

الولايات المتحدة لم تعُد القوّة التي لا غنى عنها في المنطقة، ولا الدولة الوحيدة القوية أو المرنة بما يكفي للتوسّط في اتفاقيات السلام

كيسنجر يتحدّث اليوم عن “لعبة جديدة ذات قواعد جديدة في منطقة الشرق الأوسط” نتيجة الاتفاق الإيراني السعودي الأخير برعاية الصين. وقال إنّ ظهور بكين كصانعة سلام “يغيّر الشروط المرجعية في الدبلوماسية الدولية”.  

هذا ما كتبه في “الواشنطن بوست” الكاتب والصحافي الأميركي البارز ديفيد إغناتيوس، قائلاً إنّ كلام كيسنجر ذكّره بدوره في وساطته عام 1971، كوزير خارجية، بين أميركا والاتحاد السوفيتي، لتخفيف توتّر الحرب الباردة. وكما لو أنّها حالة (deja vu)، أي رؤية سابقة، راح “السياسي العجوز” يراقب الصين وهي ترعى التقارب السعودي – الإيراني، كما فعل مع الصين بمواجهة السوفيات قبل 50 عاماً.

بحسب كيسنجر، الذي يوشك أن يكمل عامه المئة، في مقابلة مع إناتيوس الأسبوع الفائت، إنّه يرى في اتفاق بكين “تغييراً جوهرياً في الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط. فالسعوديون يوازنون الآن أمنهم من خلال التلاعب بالخلافات القائمة بين الولايات المتحدة والصين”، مشبّهاً الوضع بما فعله هو والرئيس ريتشارد نيكسون من تلاعب بالتوتّرات بين بكين وموسكو لإنشاء علاقات واشنطن التاريخية مع الصين.

“ما حصل إيجابي للجميع”

كيسنجر اعتبر أنّ “تهدئة التوتّرات في الخليج العربي أمر جيّد للجميع على المدى القصير. وإذا كان الرئيس الصيني شي جينبينغ يريد أن يتولّى كبح جماح إيران وطمأنة السعودية، فنتمنّى له حسن الحظ. هذا ما كانت الولايات المتحدة منذ عام 1979 تحاوله: ثني قوس الثورة الإيرانية نحو الاستقرار”.

لكن على المدى البعيد، رأى كيسنجر أنّ ظهور بكين كصانعة سلام “سيغيّر الشروط المرجعية في الدبلوماسية الدولية”، معترفاً بأنّ “الولايات المتحدة لم تعد القوة التي لا غنى عنها في المنطقة ولا الدولة الوحيدة القوية أو المرنة بما يكفي للتوسّط في اتفاقيات السلام”. وقال: “لقد طالبت الصين بنصيب من تلك القوة الجامعة. وأعلنت في السنوات الأخيرة أنّها بحاجة إلى المشاركة في إنشاء النظام العالمي. ولقد تحرّكت الآن خطوة مهمّة في هذا الاتجاه.”

لكنّ إغناتيوس يضيف أنّ “الدور المتزايد للصين سيعقّد من قرارات إسرائيل، التي يرى قادتها أنّ توجيه ضربة عسكرية استباقية لإيران هو الملاذ الأخير بعدما اقتربت طهران أكثر من أيّ وقت مضى من أن تصبح دولة تمتلك أسلحة نووية”. لكن في رأي كيسنجر أنّ “الضغوط على إيران الآن يجب أن تأخذ المصالح الصينية بالحسبان”.

على المدى البعيد، رأى كيسنجر أنّ ظهور بكين كصانعة سلام “سيغيّر الشروط المرجعية في الدبلوماسية الدولية”، معترفاً بأنّ “الولايات المتحدة لم تعد القوة التي لا غنى عنها في المنطقة

ويكمل إغناتيوس: “الصينيون انتهازيون، فهم استفادوا من الجهود الدؤوبة التي بذلتها الولايات المتحدة (التي لا تلقى الشكر) في دعم السعودية وتقويتها لمقاومة الجماعات الوكيلة لإيران في اليمن والعراق وسوريا. لقد بنت الولايات المتحدة طريق التقارب، إذا جاز التعبير، لكنّ الصينيين قصّوا الشريط”.

وأوضح إغناتيوس دور الولايات المتحدة في تحقيق هذا التقارب، فقال: “لقد بدأت المحادثات السعودية – الإيرانية السرّية قبل عامين في بغداد برعاية رئيس الوزراء آنذاك والشريك الأميركي، مصطفى الكاظمي، وعُقدت بعض الجلسات في عُمان، الحليف الوثيق للولايات المتحدة. في ستّ جلسات تفاوضية، اتّفق ممثّلو إيران والسعودية على خارطة طريق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، التي علّقتها السعودية عام 2016 احتجاجاً على الدعم الإيراني السرّي للمتمرّدين الحوثيين في اليمن. وقبل التوصّل إلى اتفاق نهائي لإعادة فتح السفارات، طالب السعوديون إيران بالاعتراف بدعمها للحوثيين وكبح هجماتهم”.

ماذا عن اليمن؟

في اليمن، أرست واشنطن الأسس لتسوية الحرب المروّعة هناك. ساعد تيم ليندركينغ، مبعوث وزارة الخارجية إلى اليمن، في التفاوض على وقف إطلاق النار في نيسان الماضي. واليوم هناك رحلات جوية مدنية من مطار صنعاء، وتتدفّق البضائع عبر الحديدة، الميناء الرئيسي للبلاد. كما أودع السعوديون أخيراً مليار دولار في البنك المركزي اليمني لتحقيق الاستقرار في البلاد.

وتابع إغناتيوس: “دخلت الصين في اللحظة المناسبة لجني ثمار النوايا الحسنة. عندما زار شي المملكة في كانون الأول، تعهّد بأن يستخدم نفوذ بكين مع إيران لإبرام الصفقة. عندما اجتمعت الأطراف الثلاثة في بكين هذا الشهر، اعترف علي شمخاني، مستشار الأمن القومي الإيراني، بدعم الحوثيين ووافق على وقف إرسال الأسلحة إليهم، بحسب مصدر مطّلع. كما تعهّدت إيران بأنّها لن تهاجم المملكة، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلاء. بعد شهرين من الآن، على افتراض أنّ الإيرانيين سيكبحون الحوثيين، سيعيد البلدان فتح السفارتين في الرياض وطهران. نأمل أن يتمكّن ليندركينغ مبعوث وزارة الخارجية إلى اليمن من التفاوض على اتفاقية سلام في اليمن بحلول ذلك الوقت أيضاً”.

أمّا بالنسبة للقضية الأصعب، أي البرنامج النووي الإيراني، فكتب إغناتيوس: “مع انهيار الاتفاق النووي عام 2015، كثّفت إيران تخصيب اليورانيوم، وبحسب الخبراء ربّما تستطيع اختبار سلاح نووي بسيط في غضون أشهر إذا أرادت ذلك. لكنّها أيضاً تدرك أنّها قريبة من حافة الهاوية، وهي تعهّدت هذا الشهر بأنّها ستسمح للوكالة الدولية للطاقة الذرية باستئناف المراقبة المكثّفة لمواقعها النووية. كما أنّ النظام الديني في إيران في حالة تراجع. انهارت عملتها وتحدّت شابّاتها قرار الحكومة الذي يفرض ارتداء الحجاب. ويقول السكان إنّ الجمهور صار يتكهّن بشأن نوع الدولة التي ستظهر بعد رحيل المرشد الأعلى المسنّ آية الله علي خامنئي”.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا: معركة باشموت.. بانتظار ترامب؟

وختم: “لقد أصبح الشرق الأوسط لعبة موازنة بعدما كان منطقة مواجهة لوقت طويل. أصبحت السعودية صديقة جديدة للصين وإيران، لكنّها تعمل أيضاً مع الولايات المتحدة من خلال تقديم 400 مليون دولار لأوكرانيا وإنفاق 37 مليار دولار على شراء 78 طائرة بوينغ ودعم التكنولوجيا الخلوية الجديدة جي5 وجي 6 المعروفة باسم O-RAN التي يمكن أن تحلّ محلّ شركة هواوي الصينية. من جهتها، تغازل الإمارات العربية المتحدة الصين أيضاً، لكنّها تحافظ مع ذلك على علاقتها الدفاعية مع الولايات المتحدة، وتسوّي الخلافات الإقليمية مع قطر وتركيا وليبيا. لقد تحوّلت الإمارات من “ليتل سبارتا”، كما أطلق عليها وزير الدفاع السابق جيم ماتيس ذات مرّة، لقب “سنغافورة الصغيرة”.

وختم إغناتيوس قائلاً لكيسبجر: “الحقيقة هي أنّ الشرق الأوسط الأحادي القطب، حيث السعودية وإسرائيل حليفتا الولايات المتحدة المهيمنة شجّعتاها في سياسات المواجهة، لم يكن منطقة مستقرّة جدّاً. إنّ الشرق الأوسط المتعدّد الأقطاب، مع تحوّطه وتوازنه المتواصلين، ستكون له مخاطره الخاصة”.

وكما اقترح كيسنجر، ستكون “لعبة جديدة ذات قواعد جديدة”.

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

إقرأ أيضاً

توماس فريدمان: ما الذي تغيّر بين بايدن وشومر ونتنياهو؟

ما الذي حدث في العلاقة بين الولايات المتحدة ونتنياهو. لدرجة دفع شخص مخلص لرفاهية إسرائيل مثل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر إلى دعوة…

فريدمان: سكّان إسرائيل يشربون فضلات غزّة.. بسبب نتنياهو

“إسرائيل اليوم في خطر كبير”. هذا هو تحذير الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان. ويرى أنّه مع وجود أعداء مثل حماس والحزب والحوثيين وإيران، يجب…

دينيس روس: إسرائيل لا تستطيع القضاء على المقاومة الفلسطينية

تحقيق  إسرائيل الانتصار الكامل ضدّ حماس ليس ممكناً. لكنّ تجريدها من السلاح وتحقيق الاستقرار في غزة لا يزالان ممكنين. هذا رأي المبعوث الأميركي السابق إلى…

إيهود باراك: لا سلام… إلا بانتخابات في إسرائيل

“الحرب في غزة كشفت عن العجز الاستراتيجي لحكومة إسرائيل والفراغ القيادي في القمّة. تباطأ الائتلاف الحاكم في اتّخاذ قرارات حاسمة. وفشل في التعاون لإدارة الحرب….