السعوديّة وإيران: نضوج “التاريخ”؟

قد يكون من باب التسطيح قراءة اتفاق بكّين، بين المملكة العربية السعودية وإيران، برعاية الصين وضمانتها، من باب “المصالح” فقط، أو من شبّاك “الحاجة” إلى الهدوء في المنطقة. حتّى العودة إلى “تاريخ” العلاقات بين هذين العملاقين في المنطقة، وتحقيب مراحل الهدوء وأزمان المواجهات، لا يفيان حقّ التغيير الكبير الذي نحن على مشارفه وأعتابه.

هل يمكن القول دون تأكيد أنّ إيران دخلت إلى هذا الاتفاق من بوّابة “نضج” عسكري وسياسي، ذهبت إليه “بالتجربة” وليس بالاختيار؟

يمكن اختصاره بالآتي:

1- سقوط العواصم الخمسة

أيقنت إيران أنّ مشروعها التوسّعي وصل إلى حدوده القصوى:

طهران: مركز هذا المشروع وقبلته، تعرّضت في السنوات العشر الأخيرة، سنوات “انفلاش” المشروع التوسّعي نفسه، لموجات من الثورات المضادّة لثورة 1979 الخمينيّة.

صنعاء: بدل أن يكون احتلال عاصمة اليمن فاتحة “تحرير مكّة”، بالمعنى الفارسي، واحتلال بلاد الحجاز، من السعودية إلى بقية دول الخليج، تحوّلت إلى عاصمة “متعفّنة” بالمعنى السياسي والحقيقي، تملؤها أمراض القرون الوسطى، من الكوليرا إلى الطاعون، ويجوع أهلها ولا يجدون كسرة خبز.

دمشق: تأكّدت إيران، باليوميات والدماء، أنّ سوريا، في “القسمة الدولية”، يتناتشها القيصر الروسي مع النسر الأميركي، وفيها أسهم عربية، “مهما طال السفر”، كما أنّ للتركي منها نصيباً، ولأهلها الأصليّين، مهما تأخّر الحلّ السياسي، فكلمة “انتخابية” ستعيد للملايين المشرّدة “وجوداً” لا يمكن إنكاره.

بيروت: بات واضحاً أنّ لبنان لا يمكن أن يكون واحة إيرانية. لا الصواريخ التي أتخمته إيران بها، ولا الـ”100 ألف مقاتل”، ولا قوات النخبة التي اجتاحت دمشق وحلب وحمص، يمكنها أن تطعم جائعاً، أو أن تسند جهازاً أمنياً أو إدارياً، أو أن تبقي مريضاً على قيد الحياة على باب مستشفى. انهارت بيروت بين يدي الملالي ونظامهم ومندوبيهم.

بغداد: لم يكن من مصطفى الكاظمي بدّ. الرجل الذي تقاطعت عليه إيران مع أميركا والسعودية. ما عاد في إمكان إيران أن تحكم بلاد ما بين النهرين بأمثال نوري المالكي. حين قرّرت إيران أن تستبدل الكاظمي، ذهبت إلى محمد شياع السوداني، الذي لبس العباءة العربية من يومه الأوّل، وأعلن في “وول ستريت جورنال” أنّ “بقاء القوات الأميركية ضرورة” للعراق، وجيّر كأس الخليج “العربي” إلى تلميع صورته كعروبيّ حقيقي، في مواجهة من طالبوه بأن يسمّي الخليج “فارسيّاً”.

قد يكون من الظلم قراءة اتفاق بكّين، بين المملكة العربية السعودية وإيران، برعاية الصين وضمانتها، من باب “المصالح” فقط، أو من شبّاك “الحاجة” إلى الهدوء في المنطقة

2- “سقوط” المشروع الإيرانيّ

تعفّنت عواصم المشروع الإيراني. وهناك من يذهب إلى القول إنّ “الغرب”، بمراكز دراسات دوله العميقة، “وضع هذه العواصم في فم إيران المفتوحة شهيّته، كي يغصّ بها”. وما هي إلا 10 سنوات، بين 2008 و2018 منذ بدء احتلال بيروت (7 أيّار) ودمشق (2011) وصنعاء (2014)، حتّى بدء إفلاس “الدول” التي احتلّتها إيران، وصولاً إلى اغتيال قائد مشروع “التوسّع” الجنرال قاسم سليماني في بداية 2020… 10 سنوات كانت كافية لـ”تغصّ” إيران، وتفهم أنّ من المستحيل أن تحكم عواصم العرب. تستطيع أن تدمّر المدن، كما فعلت في حلب وحمص، وأن تشنّ حملة تأديب ذكّرت اللبنانيين بمشانق جمال باشا السفّاح، وأن تقمع ثورة أهل بغداد في تشرينهم الأبيض عام 2019، لكنّ “السيطرة” شيء، و”الحكم” شيءٌ آخر تماماً.

على هذا السقوط، ولدت قناعة في مركز مشروع “حلم اليقظة” الإمبراطوري الفارسي. قناعة لم يكن هناك من بدّ إلا أن تصل إلى مشارف “التراجع”. لكن قبل الانكفاء، يريد هذا الحلم بعضاً من “الحقيقة”، بعد كلّ الدماء والأموال والدمار الذي عاثه وحقّقه ودفعه.

يريد هذا المشروع أن “يقرّش” نفوذه الأمني والعسكري في الأنظمة السياسية للعواصم الأربعة: بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء. وهذا التقريش لا ميكن “صرفه” إلا على أبواب “حكّام” المنطقة. وأصلاً لم تعد إيران في حاجة “للاجتياح”. في لبنان لديها “نصف” الطبقة السياسية تقريباً، مع “نصف الشعب، أو ثلثه. وفي العراق الأمر مشابه، كذلك في اليمن، وفي سوريا لديها سيطرة جزئية على مدن أساسية، قد تساعدها على إيجاد موطىء دور في زمن الحلّ السياسي الآتي.

3- فوائد المشروع الصهيونيّ

يقول أحد الظرفاء إنّه لو سألنا رفيق الحريري اليوم، وخيّرناه بين حلف مع إيران، وحلف مع إسرائيل، فلن يتردّد في اختيار إيران. وكذلك هو مزاج العرب، أيّاً كانت قياداتهم، وأيّاً كانت آلامهم، شعوباً وقياداتٍ.

فطهران، على ما هي عليه من فجور عسكري ومذهبية دينية، تظلّ أهون على العرب السُّنّة وغير السُّنّة، من المشروع الصهيوني، الآخذ في التحوّل إلى دولة تطرّف عنصري، لا مكان فيها حتّى لأحلام السلام التي ازدهرت أيّام الرئيس المصري أنور السادات وبعده بين الرئيس الإسرائيلي إسحق رابين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.

حتى “اتفاقات أبراهام” التي عوّل البعض عليها للتخفيف من “عنصرية” هذا “الإستبلشمنت” الإسرائيلي المتطرّف، انتهت إلى إعلان الإمارات إلغاء صفقة شراء منظومة دفاعية من إسرائيل اعتراضاً على سلوك حكومة بنيامين نتانياهو ووزير الأمن إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش.

حتّى أقصى الحالمين بأن تلعب إسرائيل دوراً “رادعاً” لإيران، بضربة عسكرية مثلاً، تصبّ في صالح خصومها العرب، أيقنوا أنّ إسرائيل لا يؤمَن جانبها، وأنّها دولة شديدة الأنانية، حتى الإدارات الأميركية المتعاقبة والمختلفة ما عادت تطيق معها صبراً وحلفاً.

جاء الاتفاق السعودي الإيراني في لحظة تهديد إسرائيلية – أميركية باقتراب لحظة الضربة العسكرية المباشرة ضدّ إيران. هنا كان للسعودية رأيٌ آخر، بناءً على قراءتها لمصالحها ومصلحة المنطقة، والرغبة التاريخية الصادقة بالاستقرار والهدوء حماية للإنماء والتقدّم.

تعفّنت عواصم المشروع الإيراني. وهناك من يذهب إلى القول إنّ “الغرب”، بمراكز دراسات دوله العميقة، “وضع هذه العواصم في فم إيران المفتوحة شهيّته، كي يغصّ بها”

4- الخروج الأميركيّ.. والجرس العربيّ

بعد اجتياح العراق في 2003، بدأت ترتفع أصوات أميركية تطالب بانسحاب أميركي من المنطقة.. وجاء الرئيس باراك أوباما في 2008 مع وعود “الخروج من المنطقة”.

1- منذ 2011، بدأ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ماراتون “الخروج من المنطقة”. أعلن أنّه سيسحب قوات بلاده من العراق في نهاية 2011. طبعاً لم ينفّذ وعوده، وما زال جزء من القوات الأميركية في العراق إلى لحظة كتابة هذه السطور.

2- استراتيجية الخروج استمرّت في عهد دونالد ترامب (2016 – 2020) الذي طلب من الحلفاء أن يدافعوا عن أنفسهم وطلب من الحلفاء الأوروبيين المزيد من الإنفاق في إطار حلف الناتو.

3- جاء الرئيس جو بايدن (2020 – …) وأخرج قوات بلاده ذلك الخروج المهين من أفغانستان، تاركاً الحلفاء الذين آمنوا بالقيم الغربية وحالفوها وناصروها. ثمّ حاول الاعتداء على القيادة السعودية، قبل أن يعود صاغراً طالباً ضخّ المزيد من النفط لخفض الأسعار التي اكتوى بها ناخبوه. ولم يكن له ما أراد.

قال له السعوديون “لا” جديّة. وتوجّهوا شرقاً نحو تعزيز الشراكة مع روسيا في إطار “أوبك بلاس” (2021)، ومع الصين في “القمّة الصينية” التي حضرها الرئيس الصيني في الرياض (2022)، وانتهت إلى توقيع اتفاقات بأكثر من 29 مليار دولار بين البلدين، وبناء شراكة جديدة، انتهت إلى “إعلان بكّين” السعودي الإيراني.

التقط قادة السعودية إشارة الخروج الأميركي، وأيقنوا أنّ عليهم تنويع تحالفاتهم لتأمين أوسع مظلّة لحماية المنطقة العربية من المخاطر المتأتّية من الخروج الأميركي. وكان التوجّه صوب موسكو وبكّين “ضربة معلّم”.

بعض العرب بالغ وتوجّه صوب تل أبيب، لكنّهم داسوا على الفرامل سريعاً، كما فعلت الإمارات. واستقرّ المنطق على التوازن في العلاقات، كما فعل العرب في “حيادهم” اتجاه الحرب الضروس بين أوروبا الغربية مدعومة من أميركا، وبين روسيا.

جاء الاتفاق السعودي الإيراني في لحظة تهديد إسرائيلية – أميركية باقتراب لحظة الضربة العسكرية المباشرة ضدّ إيران. هنا كان للسعودية رأيٌ آخر، بناءً على قراءتها لمصالحها ومصلحة المنطقة، والرغبة التاريخية الصادقة بالاستقرار والهدوء

4- نهاية زمن “العصا والجزرة” الأميركي

حتّى الرهان على “حماية” أميركية للعرب في المنطقة، بات من زمن مضى.

ثمّة جيل عربي نشأ على فكرة أنّ “الغرب” يفرّق بين العرب، وبين شعوب المنطقة، ليؤبّد سيطرته عليها. تماماً كما كان حال الاستعمار القديم الذي قرأ عنه أبناء هذه المنطقة في كتب التاريخ.

لكنّ الواصلين إلى مراكز القرار في العقدين الأخيرين، نشأوا على فكرة مشتركة، غير معلنة، وهي أنّ “في الاتّحاد قوّة”، وأنّ شعوب المنطقة يجب أن تأخذ مصيرها بيدها، لا أن تكتفي بتسليم زمام أمرها لمن يعدها بالحماية أو بالمساعدات.

أصلاً ما عادت المساعدات الأميركية ذات قيمة تُذكَر، مع ارتفاع الناتج القومي لدول المنطقة إلى أرقام غير مسبوقة. على سبيل المثال، فإنّ 1.3 مليار دولار هو حجم المعونة الأميركية لمصر، من أصل ميزانية حكومية تزيد على 166 مليار دولار، وناتج قومي يقارب 400 مليار دولار. أي أنّ المعونة لا تكفي لإطعام المصريين في يوم واحد. يمكن للمصريين أن يصوموا يوماً كاملاً فيستغنوا عن هذا المليار اليتيم. وما تحجبه أميركا عن مصر من هذه المعونة يبدو كأنّه “مزحة”، حين تحجب 90 مليون دولار وتحاول فرض شروط لدفعها. هذه الملايين الكاريكاتورية لا تكفي لإطعام المصريين “طبق طعميّة” في صبيحة واحدة.

هذه الجزرة. أمّا العصا الأميركية فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّها باتت ضعيفة، أو غير موجودة في المنطقة. فماذا فعلت أميركا لمعاقبة بشّار الأسد حين قصف أطفال الغوطة بالسلاح الكيمياوي في عام 2013؟ وماذا فعلت أميركا حين قصف الإيرانيون شركة آرامكو في عام 2020؟ وماذا فعلت أميركا لحماية العراقيين حين ثاروا ضدّ إيران في 2019؟ وماذا فعلت أميركا لحماية اليمنيين من اجتياح الحوثيين لمعظم مساحة اليمن منذ 2013 إلى اليوم؟

لا شيء.

باتت العصا الأميركية “افتراضية”، تراوح بين “القلق” و”الدعوة إلى ضبط النفس”. في 7 أيار 2008 تصرّفت أميركا كأنّ هناك “خلافاً مرورياً” في بيروت. وإذا انتهى زمن العصا والجزرة، فكيف ستفرض أميركا سيطرتها على المنطقة؟

الخًلاصة: نُضجان… يصنعان المستقبل

هما نُضجان، قد يصنعان المستقبل، والمستحيل في المنطقة. نُضجان توصّلا إلى التلاقي، وإلى الاعتراف بأنّ وحدة “الجغرافيا” أقوى من الشهوات العسكرية من جهة، وأقوى من الأحلاف العابرة للقارّات من جهة أخرى:

1- “نضوج” إيراني: من خلال الاستعداد للتخلّي عن المشروع التوسّعي، على ما ورد في إعلان بكّين: “التأكيد على احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية”. تماماً كما سبق أن فعلت إسرائيل حين انسحبت من جنوب لبنان ومن غزّة ومن الضفّة الغربية.

2- “نضوج” عربي: في التدرّج نحو التخلّي عن “وحدانيّة” الارتباط التاريخي بأميركا، وعن التزام سياساتها وتحالفاتها وخصوماتها، والالتفات إلى مصالح المنطقة وشعوبها.

إقرأ أيضاً: بالوقائع والأدلّة والقانون الدوليّ: إليكم منظومة الخيانة العظمى

التقى هذان النضجان في منطقة وسطى، حيث إيران تريد اتفاقاً مع الغرب، وتريد هدوءاً واستقراراً في المنطقة، بعد وصول مشروعها إلى طريق مسدود، لتعيد توازنها في الداخل المهزوز، وفي الخارج المأزوم… وحيث السعودية تريد تصفير مشاكلها مع محيطها، من تركيا إلى سوريا والخليج (المصالحة مع قطر) وصولاً إلى أميركا وروسيا والصين، وحيث الأمير محمد بن سلمان يعمل على توفير استقرار يُنتج بيئة آمنة لاستكمال النهضة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السعودية.

ليس تحالفاً سياسياً ما نحن على أبوابه، بل “نضوج” التاريخ.

لمتابعة الكاتب على تويترmdbarakat@

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…