سيرة المختفين… والتفّاحات الأربع

كنت أفكّر في ذلك الشخص الذي حاول أن يوقفني ولم أقف لأنصت، عندما كانت الحمائم تضرب بهواء أجنحتها أهداب عيني. لن أبكي من أجل ذلك الرجل، بل لأنّني تأخّرت عن إلقاء النظرة اليومية على الفتاة التي صعدت إلى الباص بعدما تلفّتت باحثة عنّي ولم تجدني. حين تحرّك الباص رأيتها تجلس قرب النافذة. رفعت يدي. وضعتْ كفّها على النافذة. تركت أصابعها الخمسة أثراً جارحاً على سطح عيني فلم أعُد أرى العالم إلا من خلال زجاح معشّق كنتُ قد رأيته في كنيسة تقع في بغداد الجديدة.

كتاب وكنيسة

كان الأب فيليب قد استقبلنا في الكنيسة ليُسمعنا توكاتة باخ الكنسية. البنت التي أسرتني يوم ارتطمت يدي بيدها ونحن نلتقط الكتاب نفسه، تركته وتركتُه وضحكنا. غير أنّ يدها شقّت طريقها إلى أعماق روحي وصارت أصابعها تتحرّك بخفّة كلّما تذكّرتها. “الدكتور زيفاكو” لبوريس باسترناك كان الكتاب الذي تنافسنا عليه وجمعنا في اللحظة نفسها. قالت: “أنا طالبة في مدرسة الراهبات”، فأجبتها “أنا طالب في مدرستك”. ضحكتْ وتركنا الكتاب في مكانه. يا لنعومة ذلك الزمن.

غصّت مدرّجات كليّة الهندسة بالجمهور حين كان يوسف الصايغ يقرأ قصيدتَيه “انتظريني عند تخوم البحر” و”اعترافات مالك بن الريب”. كان الرجل يغصّ بكلماته كما لو أنّه سيبكي

بعد عشرين سنة وقفت في المكان نفسه، على الجانب الأيمن من شارع السعدون قريباً من ساحة التحرير، فشعرت أنّ أصابعها لا تزال تتحرّك في المكان نفسه. تذكّرت أنّها اختفت أياماً فذهبتُ إلى الكنيسة. حين دخلت رأيت مشهداً عجيباً: أبونا فيليب يجلس عند ركبتي الفتاة المدهشة رافعاً رأسه إليها كما لو أنّه كان يصلّي. حين وقف فيليب ورآني أشار إليّ أن اقترب. وضعت يدي على رأسها فتنهّدت. كانت تبكي وهي تقول: “لن تراني مرّة ثانية”. 

المناديل البيض

سنتعلّم فنّ الاختفاء. كم دقيقة تحتاج الوردة لكي تُخفي عطرها؟ يحتاج المختفون إلى عيني فأر كي لا يقعوا في المصيدة. وهم حين أجادوا تمثيل ذلك الدور لم يخطر في بالهم أنّ القطّ كان قد فتح أمامهم دروب النجاة. كانت النجاة فكرة مضلّلة. فقد كان الفارّون مرئيّين. وكانت اللعبة تهدف إلى إبعادهم عن الحكاية. حين نجوا كانوا أشبه بأبطال معدومي الهويّة فيما كانت سلطات الأمن تفكّر في أنّها تخلّصت من شهداء لن يكونوا نافعين.

حين عاد سعدي يوسف من الجزائر إلى العراق، لم يكمل قراءة قصيدته “نهايات الشمال الإفريقي”. بكى في السطر الثاني منها، فقام محمود درويش بقراءتها بدلاً منه. ولكنّ الشاعر الذي أصدر في طبعة مترفة كتابه الشعري “الأخضر بن يوسف ومشاغله”، وبعده “تحت جدارية فائق حسن”، لم يقرّر الهروب بطريقة الفئران. صحيح أنّ السلطات تعاملت معه باعتباره عضواً في الحزب الشيوعي لا باعتباره الشاعر الكبير. غير أنّه صمد إلى أن وجد له شفيق الكمالي، وكان وزيراً للإعلام، حلّاً مريحاً ومترفّعاً. عام 1979 اختفى الشيوعيون الذين أعرفهم. كانوا شعراء وقصّاصين وموسيقيين ورسّامين وصحافيين. أصدقائي الذين حرمهم موقفهم العقائدي من النظر إلى حقيقة أنّني كنت كائناً شعرياً حرّاً ومستقلّاً. من وجهة نظرهم كان المستقلّ خائناً للقضية.

حين عاد سعدي يوسف من الجزائر إلى العراق، لم يكمل قراءة قصيدته “نهايات الشمال الإفريقي”. بكى في السطر الثاني منها، فقام محمود درويش بقراءتها بدلاً منه

في سينما روكسي رأيت فيلم الدكتور زيفاكو وأنا أبكي من أجل عمر الشريف الذي سقط ميتاً على الأرض بعدما رأى حبيبته من غير أن يتمكّن من الكلام معها. كنّا فئراناً. مَن أخذه القطار بعيداً ومَن سقط على الأرض ميتاً ومَن تمكّن من التلويح بمنديل أبيض.

بتفّاحاته الأربع اختفى

غصّت مدرّجات كليّة الهندسة بالجمهور حين كان يوسف الصايغ يقرأ قصيدتَيه “انتظريني عند تخوم البحر” و”اعترافات مالك بن الريب”. كان الرجل يغصّ بكلماته كما لو أنّه سيبكي. وكان الجمهور يتأوّه من غير تصفيق. كان هناك نوع من اللوعة المشتركة. حين زرت الصايغ في بيته بعد سنوات راعني أنّه ملأ جدران البيت برسوم فاحشة. يومها قرأ لي قصائد قصيرة من كتابه “سيّدة التفّاحات الأربع”. هي مرثيّته لزوجته التي شهد موتها في حادث مروري.

كان شيوعياً قرّر أن لا يقع في المصيدة التي نصبها القطّ. لم يكن فأراً. ولأنّه قرّر أن لا يزعج الجيران ببكائه فقد كان يخطّ على الجدران رسوماً إباحية. لم يكتب مذكّراته، وليته فعل ذلك. فيما بعد قيل إنّه كتب قصيدة في مديح صدّام حسين بعنوان “المعلّم”. كانت قصيدة رائعة ولم يكن فيها ما يشير إلى التهمة التي أُلصقت به. حين كان الصايغ في دمشق احتلّ الأميركيون بغداد فرفض العودة إليها. لم يستجب لعروض شيوعية أغرته بالعودة إلى بغداد ومات في دمشق. لقد كره الفئران في فرارهم ولم يحبّ عودتهم إلى بلاد مستباحة.

إقرأ أيضاً: سأكون أقلّ حزناً أيّتها الساعة

قال يوسف الصايغ: “سوء الفهم هو السفّاك/ سمك يتعشّى سمكا/ فبماذا يتعشّى السمّاك؟”. اختار الصايغ الطريقة التي تليق به للاختفاء.

إقرأ أيضاً

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…

عن فلسطين ولعنة وحدة السّاحات

“راح أحمدُ يلتقي بضلوعه ويديه… كان الخطوةَ النجمهْ ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط… كانوا يُعدّون الرماحَ وأحمدُ العربيّ يصعد كي يرى حيفا…

ردّ إيران.. وردّ إسرائيل: لبنان سيكون الضحية؟

حصل الردّ على الردّ. عادةً إسرائيل “لا تنام على ضَيم”. تردّ خلال ساعات على أيّ استهداف ضدّها في الداخل أو الخارج. بيد أنّ استهدافها يوم…

إسرائيل في الضفة الغربية: تفاصيل حرب تهجير صامتة

ها هي حرب غزة تلد في الضفة الغربية حرباً لا تقلّ ضراوة وخطراً على القضية الفلسطينية. نابلس وجنين وطولكرم والخليل والبلدات المحيطة بها والمخيّمات، يستبيحها…