أزمة مصارف أميركا ولبنان: أوجه الشبه… والاختلاف

ماذا حصل في مصرف “سيليكون فالي” بالولايات المتحدة الأميركية؟

وهل هذا يشبه ما حصل في لبنان بالنسبة إلى الإفلاس المصرفي؟

السؤالان مركزيان يشغلان المتابعين والخبراء. بعض هؤلاء حاول إسقاط ما حصل في كاليفورنيا على أزمة المصارف في لبنان. فيما بعضهم الآخر توسّع في مخيّلته أكثر، فأطلق العنان لحسّه الفكاهي مستهزئاً من فكرة دعوة الدولة إلى إنشاء “صندوق سيادي” تعيد من خلاله تكوين المال اللازم لإعادة أموال المودعين، أو راح هذا البعض يتهكّم لأنّ الأميركيين “لم يدعوا الإدارة الأميركية إلى تحمّل مسؤولياتها، وتسييل أصول الدولة أو استثمارها لحلّ الأزمة”، في إشارة إلى الدعوات المصرفية لتتحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية صرف الودائع بقرارات من حكوماتها المتعاقبة.

قصة انهيار بنك “سيليكون فالي” صعدت إلى العلن يوم الجمعة الماضي، لكنّها لا تنفصل عن الأزمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي، واتساعها منذ الـlockdown نتيجة جائحة كورونا والإقفال الذي أثّر على اقتصادات العالم كلّه، ثمّ ترسّخت أخيراً مع الحرب الروسية – الأوكرانية

هذه الأسئلة، ثمّ الإجابات المتهكّمة عليها، تنمّ عن حال من سوء التقدير يقترب من الاستخفاف بالعقول، لأنّه بكلّ بساطة لا وجود لأيّ شبه، إن في الشكل أو حتّى في المضمون. فتشبيه أزمة مصرف وحيد في أميركا (وربّما أزمة مصرفين أو أكثر مستقبلاً) لا تشبه بأيّ شكل من الأشكال أزمتنا هنا في لبنان.

ماذا حصل في “سيليكون فالي”

باختصار، فإنّ قصة انهيار بنك “سيليكون فالي” صعدت إلى العلن يوم الجمعة الماضي، لكنّها لا تنفصل عن الأزمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي، واتساعها منذ الـlockdown نتيجة جائحة كورونا والإقفال الذي أثّر على اقتصادات العالم كلّه، ثمّ ترسّخت أخيراً مع الحرب الروسية – الأوكرانية.

أمّا السبب المباشر خلف انهيار المصرف، فكان نتيجة رفع الاحتياط الفيدرالي الأميركي لأسعار الفائدة. هذا الإجراء أفسد “شهيّة” المستثمرين أمام المخاطرة والاستثمار، فأدّى إلى تراجع قيمة السندات ذات الأجل الطويل التي كان “سيليكون فالي” يستثمر فيها.

ربّما يمكن اختصار وجه الشبه الوحيد بين أزمة المصارف اللبنانية وذاك المصرف الأميركي بما يلي:

1- تخمة الودائع التي فاقت قدرة “بنك سيليكون فالي”، كما المصارف اللبنانية، على استيعابها.

2- إدارة مخاطر سيّئة.

أمّا المتحمّسون لإسقاط سلوك السلطات الأميركية على ما حصل في لبنان ومصارفه، وبالتالي تشبيه ما حصل في بنك “سيليكون فالي” بأزمة القطاع المصرفي في لبنان، فقد فاتتهم التفاصيل التالية:

1- الأزمة في الولايات المتحدة، إن صحّت تسميتها “أزمة عامة” على الرغم من المخاوف من انتقال العدوى إلى مصارف أخرى، تتعلّق بمصرف واحد من أصل نحو 4,746 مصرفاً تجارياً، على الرغم من ضخامة الخسارة المقدّرة بنحو 200 مليار دولار (منها نحو 175 مليار دولار ودائع).

2- “السلطة” في الولايات المتحدة لم تصرف أموال مودعي مصرف “سيليكون فالي” على الفساد والمحاصصة ودعم الكهرباء ورواتب القطاع العام الأميركي، ثمّ على دعم السلع بعد الأزمة، ثمّ لاذت بـ”خطّة تعافٍ” غير مفهوم كيف ستعيد أموال المودعين من خلالها.

3- أزمة سيليكون فالي “مُقرّشة” بالعملة الأميركية الوطنية، وليست بعملة أجنبية أخرى، وبالتالي لو كانت أزمة المصارف اللبنانية بالليرة اللبنانية، فحتماً لما كنّا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.

4- أزمة مصرف “سيليكون فالي” بملياراتها الـ200 تمثّل 3.1% من حجم موازنة الإدارة الأميركية لعام 2022 (6.27 تريليونات دولار)، التي تمثّل بدورها 25% من الناتج المحلّي الإجمالي للولايات المتحدة، بينما أزمة المصارف في لبنان تفوق حجم الناتج الإجمالي اللبناني العام بنحو 5 أضعاف.

5- ما قامت به وزارة الخزانة الأميركية أنّها استدعت عدداً من منظّمي القطاع المالي في ولاية كاليفورنيا وناقشتهم في الأزمة المستجدّة، وأكّدت لهم أنّها تملك “ثقة كاملة” بقدرتهم على اتّخاذ الإجراءات المناسبة. أمّا في لبنان فالسلطة السياسية تتهرّب من إقرار “بديهيات” القوانين لمواجهة الأزمة مثل قانون “الكابيتال كونترول” وغيره… وهذا تقصير يقع على عاتق السلطة السياسية وليس على المودعين أو على المصارف.

السبب المباشر خلف انهيار المصرف، فكان نتيجة رفع الاحتياط الفيدرالي الأميركي لأسعار الفائدة. هذا الإجراء أفسد “شهيّة” المستثمرين أمام المخاطرة والاستثمار، فأدّى إلى تراجع قيمة السندات ذات الأجل الطويل التي كان “سيليكون فالي” يستثمر فيها

أزمة 2008 المصرفيّة في أميركا

أغفل هؤلاء المتحمّسون للحلّ الأميركي، ربّما عن قصد وربّما عن حسن نيّة، سلوك الإدارة الأميركية خلال أزمة 2008. وهي أزمة طالت جميع القطاع المصرفي في حينه، وهي الحالة التي وجب عليهم إسقاطها على حالة لبنان، نظراً لشمولها جميع المصارف في أميركا، وليس إسقاط حالة مصرف واحد على القطاع المصرفي اللبناني.

وقتها، قامت الإدارة الأميركية بشراء جميع الديون العقارية الهالكة التي تعود بمعظمها إلى “السياسة الخاطئة” التي اعتمدها المضاربون الماليون في بورصة “وول ستريت”، وقيمتها نحو 250 مليار دولار. كما أنقذت الإدارة الأميركية شركتين خاصّتين متخصّصتين بالرهونات العقارية هما: “Fannie Mae” و”Freddie Mac”. وكذلك منحت إعفاءات ضريبية بلغت نحو 100 مليار دولار للطبقة الوسطى والشركات من القطاع الخاص على السواء.

أمّا في لبنان، ومن باب المقارنة العادلة، يمكن العودة إلى ما قامت به السلطات المالية في حالات مشابهة، أي في حالة “البنك اللبناني الكندي” أو “جمّال ترست بنك”. يومها وَضَعَ مصرف لبنان يده على المصرفين، واستطاع أن يحمي المودعين (ليس بسرعة الولايات المتحدة طبعاً، وبنسب متفاوتة بين البنك الكندي و”جمّال ترست بنك” لأنّ الأزمة الاقتصادية أعقبت قرار إقفاله مباشرة).

المُلهم … ميت رومني!

تغريدة واحدة من المرشّح السابق للرئاسة الأميركية ميت رومني على “تويتر” حول تعثّر بنك “سيليكون فالي” تسبّبت لبعض الخبراء والصحافيين اللبنانيين بنشوة مصرفية. انهال نشر التغريدة والـRetweet على مواقع التواصل الاجتماعي مع تعليقات تدعو إلى الاقتداء بالأسلوب الذي يتعاطى به الأميركيون مع أزمة مصرفهم اليتيم.

كلّ ما قاله رومني في تلك التغريدة أنّ الحلّ لأزمة تعثّر المصرف يقضي بأن “يخسر المساهمون والمسؤولون التنفيذيون في البنك كلّ شيء. بينما المودعون أصحاب النيّة الحسنة يستردّون ودائعهم وتُدفع حتى لا تنقل العدوى إلى مصارف أخرى”. 

هذا كلّ ما قاله الرجل الذي لا يتبوّأ أيّ منصب رسمي، وتغريدته كأيّ تغريدة تصدر عن أيّ سياسي أو شخص مهتمّ بأزمة طارئة ببلاده، لكنّ البعض في لبنان اعتبرها دستوراً أو كتاباً منزلاً وجب التقيّد بوصاياه وتطبيقها، مصوّرين تعثّر مصرف واحد على أنّه تعثّر لسائر القطاع المصرفي الأميركي.

العقليّة الفرديّة تسيطر على عقول “أصحاب الحلول”

مشكلتنا الحقيقية في مقاربة الأزمة اللبنانية تنطلق من الخلط بين العامّ والخاصّ. هذا الخطأ يقع فيه أغلب المراقبين والمنظّرين في المجال الاقتصادي والنقدي، بل حتى تقع فيه السلطة القضائية التي تُصدر أحكاماً تعتبر أنّ المصرف “أ” يتحامل على مودع “ب”، وكأنّ الأزمة تُختصر بهذين الطرفين فحسب ولا تتعلّق بكلّ المودعين وكلّ المصارف.

تلك الفئة ترفض مقاربة الأزمة بشكل شمولي يخصّ الجميع، فتتنكّر للأزمة باعتبارها “أزمة وطنية” تخصّ مستقبل اللبنانيين جميعاً. وهذا يدخل في إطار “النوايا المبيّتة” أو “الشعبويّات” نتيجة الوقوع تحت تأثير “رأي عامّ” ساد بدايات انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وما زال مستمرّاً ولا يُعرف كيف التخلّي أو الإقلاع عنه لصالح نظرة أكثر شمولاً وأبعد نظراً.

إقرأ أيضاً: أزمة البنوك الأميركيّة: الإفلاس الذي يشتهيه اللبنانيّون

في المحصّلة، فإنّ أزمة القطاع المصرفي في لبنان هي أزمة تخصّ كلّ المصارف وكلّ المودعين صغاراً كانوا أم كبار. وبالتالي من الظلم إسقاطها على تعثّر مصرف أميركي أو حتى قوقازي واحد. أمّا “الشعبويّات” التي يُقارب بها البعض أزمة المودعين والودائع، فلن تقود إلّا إلى إمعان السلطة في التهرّب من مسؤولياتها، وإلى قذف المشكلة من حضن مسبّبها الأساسي (السلطة) إلى حضن المودعين قبل المصارف. ولذا لا بدّ أن يتوقّف الشعبويون عن تضليل الرأي العام والاستقراء والتستّر خلف “أوراق التين”.

لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@

إقرأ أيضاً

السلطة V/S المصارف: الأزمة بحاجة لـ”عقل محايد” يحسم خلافاً

يستعر الخلاف بين المصارف من جهة وبين مصرف لبنان والسلطة السياسية من جهة أخرى، حول الأزمة الاقتصادية، وذلك منذ ما يزيد على 4 سنوات، ولا…

مفاوضات صندوق النقد: لبنان في حالة موت سريريّ

كثرت في هذه الأيام الرسائل الموجّهة إلى صندوق النقد الدولي من قبل جهات عديدة من المجتمع اللبناني في محاولة لإرشاده إلى كيفية مقاربة حلّ “للمصيبة…

عمولة 8 مليار$: إلى متى سيبقى مصرف لبنان صامتاً؟

أثير ضجيج كثير حول تقرير التدقيق الجنائي في حسابات شركة “أوبتيموم” المتعاونة مع مصرف لبنان. لكنّ الأخير لا يزال صامتاً حتى اللحظة. على الرغم من…

كفى ثرثرة.. إنصرفوا إلى معالجة الأزمة

كفى ثرثرة. . . الكلّ يدّعي المعرفة وامتلاك المعلومات التي تسمح له بتصنيف الناس بين فاسد وغير فاسد، ويرمي بالأرقام والأسماء التي  تُربك وتشوش على…