الجيش الموازي في السودان: دولة أم لا دولة؟

2023-03-14

الجيش الموازي في السودان: دولة أم لا دولة؟

مدة القراءة 8 د.

في السودان يهاجم قادة “القوات المسلّحة” قادة “قوات الدعم السريع”، ويهاجم قادة القوات الثانية قادة القوات الأولى. وبعدما كان عنوان الأزمة في السودان العلاقة بين الجيش والسياسة، أصبح العنوان هو العلاقة بين الجيش و”شبه الجيش”.

الإخوان 2013.. السلطة فوق الدولة

في عام 2003 اندلعت المعارك في إقليم دارفور غرب السودان، وراحت السلطة الإخوانية تقاتل هناك، من دون أن يعرف أحد حقيقة ما جرى ويجري.

وبعد سنوات من المعارك الضارية، لجأ النظام إلى دعم ميليشيات محلّية للقتال نيابةً عنه، واشتُهرت هذه الميليشيات باسم “الجنجويد”.

راحت الميليشيات التي ضمّت، حسب تقارير، بعض المرتزقة من دول إفريقية، تعمل لحساب الرئيس عمر البشير، وتقاتل نيابةً عنه.

بعد سنوات من المعارك الضارية، لجأ النظام إلى دعم ميليشيات محلّية للقتال نيابةً عنه، واشتُهرت هذه الميليشيات باسم “الجنجويد”

وبمرور الوقت أصبحت هذه الميليشيات أكثر قوة، فجرى اعتبارها جزءاً من قوات حرس الحدود السودانية، وكان ذلك أول اعتراف رسمي بها. وفي صيف عام 2013 أصبحت هذه الميليشيات قوات “شبه نظامية” تابعة لجهاز الأمن الوطني السوداني (جهاز المخابرات حالياً). وقد واصلت القيام بأدوار لصالح نظام البشير في دارفور وفي ولايتَي كردفان والنيل الأبيض.

في عام 2017 قرّر البشير اعتماد هذه القوات بشكل أكثر رسميّة، حيث أجاز البرلمان قانوناً ينظّم وضع القوات، ونقل تبعيّتها من جهاز المخابرات إلى الجيش.

هكذا كانت رحلة الصعود الكبيرة من “ميليشيا” إلى “حرس حدود” إلى “قوات شبه نظامية تابعة للمخابرات” إلى “قوات الدعم السريع” التابعة للجيش بقانون أجازه البرلمان.

لم يكن القانون حاسماً في كوْن هذه القوات جزءاً من الجيش، فقد كانت ألفاظه عامّة ومبهمة، وكأنّها كُتبت على استحياء، وربّما أراد البشير بذلك اعتبارها قوات خاصة له، تساعده في مواجهة الجيش إذا انحاز لإرادة الشعب في أيّ وقت.

القرار الغامض

في عام 2019 قام رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان بإلغاء تبعيّة قوات الدعم السريع للجيش، وبالتالي عدم خضوعها لقانون القوّات المسلّحة السودانية.

كان القرار غريباً للغاية، إذْ لم تكن التبعيّة حقيقية أو كاملة، لكن كان يمكن دفع الأمور إلى ذلك. لكنّ قرار البرهان أعطى استقلالية كاملة لقوات الدعم السريع، وألغى الإمكانية القانونية لإقالة الجيش قادتها. وهكذا أصبح الفريق محمد دقلو “حميدتي” أقوى كثيراً ممّا مضى، فقد أصبح قائداً لـ”قوات مسلّحة مستقلّة” واحتفظ بمنصبه نائباً لرئيس مجلس السيادة.

أمّا شقيقه الفريق عبد الرحيم دقلو فهو الرجل الثاني في “الجيش الخاصّ” بعدما أصبح نائباً لقائد قوات الدعم السريع.

هجمة مرتدّة

في نهاية عام 2022 تمّ توقيع “الاتفاق الإطاري” بين مجلس السيادة والقوى المدنية. وكان أهمّ بندَيْن في ذلك الاتفاق: نقل السلطة إلى المدنيين، وتوحيد القوات المسلّحة.

قام قائد قوات الدعم السريع بالتوقيع على الاتفاق بصفته نائباً لرئيس مجلس السيادة، وكان ذلك إنجازاً كبيراً للجيش، إذْ يمثّل دمج قوات الدعم السريع في وحداته الهدف الأهمّ من هذا الاتفاق.

أخذ آل دقلو المسيطرون على قوات الدعم السريع الفريق أول محمد دقلو والفريق عبد الرحيم دقلو بالتراجع عن الاتفاق ورفض دمج قوات الدعم السريع، ثمّ المزايدة على الجيش في العملية الديمقراطية وانتقال السلطة إلى المدنيين في مشهد سينمائي بامتياز.

في عام 2019 قام رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان بإلغاء تبعيّة قوات الدعم السريع للجيش، وبالتالي عدم خضوعها لقانون القوّات المسلّحة السودانية

مئة ألف أو يزيدون

في عام 1972 تمّ دمج قوات سودانية خاصة تدعى “قوات الأنانيا” في الجيش، بموجب اتفاق أديس أبابا، وفي عام 2005 تمّ دمج قوات الحركة الشعبية في الجيش بموجب اتفاق نيفاشا. فهل ينجح السودان عام 2023 في دمج قوات الدعم السريع في الجيش بموجب الاتفاق الإطاري؟

في السودان قرابة 12 حركة مسلّحة. كلّها حركات مخيفة، وتمثّل خطراً على الأمن، لكنّ “قوات الدعم السريع” تتجاوز ذلك وتمثّل خطراً كبيراً على الدولة.

راحت “قوات الدعم السريع” تصنع صورة نموذجية لها في حقبة ما بعد البشير، إذ تعمّدت نشر أخبار عديدة عن مكافحتها التهريب والاتجار بالبشر، وذلك كي تتقرّب من أوروبا، وراحت تروّج لقيامها بتأمين المنشآت الحيوية في البلاد وحماية المواطنين العزّل في أوقات الاضطرابات، وضبطها أشخاصاً ينهبون ممتلكات أو طائرات تهرّب ذهباً، وذلك في إطار الدفاع عن اقتصاد البلاد.

زاد عديد قوات الدعم السريع في السودان إلى أكثر من 50 ألف شخص. ويشير البعض إلى أنّ العدد ربّما تجاوز 100 ألف من المقاتلين. كما تعاظم تسليح هذه القوات، وظهرت لديها أسلحة ثقيلة وخفيفة، وأشارت تقارير إلى امتلاكها طائرات بدون طيار وأنظمة تجسّس متقدّمة.

 

جيش واحد أم جيشان؟

أيّدت “قوات الدعم السريع” عمر البشير وعملت لحسابه في كلّ مكان، ثمّ انقلبت عليه. كما أيّدت الإطاحة بالحكومة المدنية برئاسة حمدوك في عام 2021، ثمّ قالت إنّ ما حدث كان انقلاباً فاشلاً. أيّدت القوات أيضاً الاندماج في الجيش، ثمّ تراجعت وهاجمت الجيش، ثمّ أيّدت الحركات الثورية قبل أن يجري اتّهامها بقتل أعداد كبيرة من عناصرها. وعادت تهاجم الجيش وتغازل الثوريين من جديد!

في صيف 2021 أعلن “حميدتي” رفض دمج القوات في الجيش، وقال إنّ أيّ محاولة لذلك ستؤدّي إلى تفكيك البلاد. وفي ربيع 2022 قال: “نرغب في وحدة القوات. كنّا نحتاج إلى تبادل الثقة بين الجميع”.

في أول آذار 2023 نفى عبد الرحيم دقلو اندلاع حرب بين الجيش والقوات، وبعد أيام هاجم دقلو الجيش لأنّه لا يريد تسليم السلطة للمدنيين، ثمّ قال مهدّداً: الدعم السريع لن يسمح بالتعرّض للتظاهرات أو الاعتقال السياسي. يجب تسليم السلطة بدون لفّ أو دوران”. وبعد أيّام أخرى واصل القول: “الخلاف ليس مع الجيش، بل مع من لا يريدون تسليم السلطة إلى المدنيين”.

كان ذلك صادماً للغاية بالنسبة للشعب والجيش، فأولى خطوات تنفيذ الاتفاق الإطاري إلغاء الميليشيات، ودمج القوات في الجيش. إذ لا يمكن إقامة ديمقراطية في ظلّ وجود جيشيْن.

وصف الجيش مزايدات الدعم السريع بأنّها محاولات للتكسُّب السياسي والاقتصادي والشخصي وعرقلة مسيرة الاقتصاد، وأعلن أنّه ملتزم بكلّ ما في الاتفاق الإطاري وبتنفيذ شعار “شعب واحد.. جيش واحد”، إذْ “ليست هناك دولة محترمة لها جيشان، ولتأسيس دولة حديثة لا بد من وجود جيش واحد خاضع للسلطة السياسية للدولة. أمّا امتلاك جيش آخر فسوف يؤدّي إلى انهيار كيان الدولة”.

لا توجد معلومات حاسمة بشأن مصادر ميزانية قوات الدعم السريع. وبينما يؤكّد مختصّون أنّها لا تتلقّى أيّ دعم ماليّ يخصّ الرواتب أو غيرها من الجيش، فإنّ ارتباط قوات الدعم في

زمن البشير بمؤسّسة الرئاسة وأجهزة البشير الأمنيّة قد وفّر لها موارد ماليّة استثنائية وغير معروفة.

لذلك لا يزال الغموض يحيط بتمويل تلك القوات وبما إذا كانت تقوم بأنشطة اقتصادية غير قانونية أو تتلقّى دعماً خارجياً، ومن المؤكّد أنّ أحد معطيات الأزمة الراهنة سيكون الكشف عن المزيد من موارد قوات الدعم السريع، وربّما محاولة تجفيفها.

إقرأ أيضاً: الخيل والإعلام: السعوديّة “تسابق العالم”

على مفترق طرق

يخشى السودانيون أن ينتهي الأمر إلى مواجهة عسكرية. ومع وجود “الدعم السريع” في العاصمة والمدن الكبرى فإنّ الأمر قد يتحوّل إلى حرب أهلية أو كارثة إنسانية.

الجيش السوداني يحتلّ المرتبة الـ75 في العالم، ويمكنه هزيمة “الدعم السريع”، لكنّ تكاليف ذلك قد تكون انهيار الدولة إذا لم تمضِ الأمور كما هو مخطّط لها. ثمّ إنّ انضمام قوات الدعم إلى الجيش، لن يكون منعاً لاحتمالات حرب أهلية فحسب، بل سيكون إضافة مهمّة وتعزيزاً كبيراً للقوات المسلّحة.

يقف المبعوث الأممي فولكر بيرتس مع رؤية الجيش أو بنود “الاتفاق الإطاري”. ويقول بوضوح: “يحتاج السودان إلى جيش قوي موحّد ومهني. يجب دمج القوات والحركات المسلّحة جميعاً في الجيش. إنّ البلد الذي يضمّ 5 أو 6 أو 7 جيوش مختلفة لن يكون مستقرّاً أبداً”.

هكذا يبدو السودان على مفترق طرق: إمّا إلى جيش موحّد، وحكومة مدنية، أو إلى جيشيْن يتصارعان في بلد أنهكه الإخوان ثلاثين عاماً، وقد ينهكه هذا الصراع ثلاثين أخرى!

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

إقرأ أيضاً

من يجرؤ على مواجهة الحزب.. قبل تدمير لبنان؟

تكمن المشكلة المزمنة التي يعاني منها لبنان في غياب المحاسبة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبرى في مستوى دخول حرب مع إسرائيل بفتح جبهة جنوب…

لماذا لا يرى أتباع إيران الحقيقة؟

لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة….

حسابات أنقرة في غزة بعد 200 يوم

بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده…

مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة

لا يُلام مقتدى الصدر على استعراضاته المتكرّرة بل يقع اللوم على مَن يصدّق تلك الاستعراضات ويشارك فيها. وقد انخفض عدد مناصري الصدر بسبب ما أُصيبوا…