أسئلة الشقّ الإقليميّ في التفاهمات السعوديّة الإيرانيّة؟

قوّتان إقليميتان على طرفَي نقيض تلتقيان في بكين بعد قطيعة عمرها 7 سنوات لوضع أسس انطلاقة جديدة في علاقاتهما الأمنية والسياسية والاقتصادية. مفاجأة غير متوقّعة بالنسبة للكثيرين. خيبة أمل لآخرين أيضاً. لكنّ الدبلوماسية السعودية تنجح في تحقيق ما تتطلّبه التوازناتُ الإقليمية والبحث عن فرص جديدة تحمي مصالح المنطقة وأمنها واستقرارها.

 

الطاولة المثلّثة الأضلاع

سياسة سعودية إقليمية مرنة في الأعوام الأخيرة فتحت الطريق أمام الكثير من المصالحات والتحوّل في التعامل مع الملفّ السعودي القطري والخليجي الخليجي والسعودي التركي. لكن ما لم يكن في الحسبان جاء من بكين وأمام الطاولة الثلاثية التي جمعت الوفدين السعودي والإيراني برعاية صينية لبحث ما لم يكن في الحسبان.

الطاولة المثلّثة الأضلاع لها تعريفها وخصوصيتها ومفهومها التقني والسياسي والقانوني في منطق العلاقات الدولية والقانون الدولي العام. سبق أن رأيناها في أكثر من حوار وتفاهمات تتعلّق بتسوية نزاعات وخلافات بين دولتين، حيث تنجح دولة ثالثة دخلت على الخط في قبول ودعم المتنازعين لتجلس على مسافة واحدة منهما، وتفاوض وتحاور وتكون ضامنةً لما يتمّ التوصّل إليه ومخوّلة التدخّل عند اللزوم لتذكير الأطراف بما تم الاتفاق عليه. الطاولة الثلاثية التي أعدّتها بكين مستضيفة الوفدين السعودي والإيراني على مدى 4 أيام مهمة هنا، على الرغم من أنّنا لا نعرف الكثير بعد حول نوع الوساطة الصينية ودرجتها القانونية والدبلوماسية والسياسية في إعداد الاتفاقيات الموقّعة ومتابعة تنفيذها.

تريد واشنطن أن تعرف هل تلتزم طهران بالتعهّدات المقدّمة للرياض. لكن الذي سيراقب ويتدخّل لإلزام إيران بالتنفيذ هو الجانب الصيني

هي تفاهمات سريعة ووعود باتخاذ إجراءات أكثر ممّا قد تكون حلولاً جذرية لملفات خلاف وتباعد مكدّسة. لكنها تشكّل أرضية ثلاثية مشتركة من الممكن البناء عليها وتطويرها وتفعيلها. الحوار الاستكشافي انطلق قبل عامين على خطّ مسقط وبغداد، ثمّ تُوّج في بكين قبل أيام. ما جرى حتى الآن مهمّ طبعاً، لكنّ الأهم سيكون مدى نجاح الأطراف في تنفيذ بنود الاتفاقيات وترجمتها عملياً على الأرض. الخلافات أمنية بالدرجة الأساسية، ولذلك كان من الطبيعي أن يقود المحادثات المسؤولون الأمنيون في البلدين. الخطوة المقبلة ستكون مرتبطة بتنفيذ ما اتُّفق عليه في العاصمة الصينية، وعندها سينتقل الحوار إلى المرحلة السياسية والاقتصادية كما يبدو.

 

فتح أبواب الحلحلة

الواضح حتى الآن أنّ التقارب السعودي الإيراني سيفتح الأبواب أمام حلحلة في ملفات وأزمات إقليمية عالقة منذ سنوات طويلة. فهل طهران جاهزة لتحمّل المسؤوليات أمام طاولات حوار ومحادثات مع الرياض، ستنتقل لاحقاً إلى تفاهمات مع العديد من العواصم العربية والإقليمية للوصول إلى اتفاقيات مشتركة تزيل حالة التوتّر والشرذمة والانقسامات؟ ستعبّد هذه التفاهمات الطريق باتجاه التقارب بين خصوم السعودية وأصدقاء إيران في أكثر من مكان وملف، فهل طهران على استعداد لخوض التجربة أم تفرّط بمثل هذه الفرصة الاستراتيجية البعد التي قد لا تسنح لها مرة أخرى؟ وهل يسمح لها الشركاء في بكين وموسكو بإهدار ما تعرضه وتقدّمه الرياض على طريق التهدئة والحلحلة في قضايا إقليمية دائمة السخونة والتوتّر؟

أين ستظهر أولى نتائج التفاهمات الجديدة؟ في أزمات ومشاكل اليمن وسوريا والعراق ولبنان. 60 يوماً على سبيل الاختبار ربّما لمعرفة مدى جدّية الجانب الإيراني في مراجعة مواقفه وسياساته في الساحة العربية والتخلّي عن النهج المعتمد منذ عقود في المنطقة. الامتحان الأول للاتفاق سيكون في مدى جديّة طهران وحلفائها المحليين باليمن في دعم المسار الجديد للملف. وبعدها تتّسع ساحة الاختبار بإتجاه الملف السوري والساحتين العراقية واللبنانية.

ترحيب غربي حذر مع تشكُّك في احترام إيران للتفاهمات. واشنطن تقول إنّها على علم، لكنّها لم تتدخّل. هناك حتماً انزعاج أميركي من نتائج الحوار السعودي الإيراني. لكنّ الانزعاج الآخر سببه جهود الوساطة الصينية ونجاحها أمام الطاولة الثلاثية في بكين. قرّرت الصين من خلال لعب هذا الدور إعلان سياستها الإقليمية الجديدة والدخول سياسياً وأمنياً إلى قلب منطقة الشرق الأوسط بعد الاختراق التجاري والاقتصادي الذي تحقّق قبل عقدين، وهي لن تفرط بمثل هذه الفرصة التي حصلت عليها عبر جمع هاتين القوّتين الإقليميّتين أمام طاولة واحدة.

الحضور الصينيّ الإيجابيّ

كان للحضور الصيني الإيجابي في المنطقة تأثيره في الأعوام الأخيرة. لكنّ الفشل الأميركي المتعمّد في حلّ العديد من الملفات الخلافية الإقليمية، هو الذي فتح الطريق أمام لاعبين آخرين يعرضون خدماتهم في المنطقة. وكان للمرونة والسرعة والسرّية والثقل السياسي والانفتاح على البلدين دورها الكبير في نجاح الوساطة الصينية. ربّما يكون بين أهداف بكين إعادة تفعيل الاتفاقيات السعودية الإيرانية الموقّعة في عامَي 1998 و2001. لكنّ ما تبحث عنه الصين هو أبعد من ذلك ويدخل في إطار سياستها الإقليمية الجديدة.

ما أُنجز في بكين سيكون له حتماً ارتداداته السياسية والأمنية والاقتصادية على علاقة البلدين وعلى التوازنات الإقليمية القائمة. أميركا وإسرائيل والعديد من العواصم الغربية ستكون أول من سيحاول ترتيب طاولة مماثلة للتعامل مع هذا الامتحان الصعب ومخرجاته المحتملة.

أين وكيف ستردّ واشنطن وتل أبيب على ما يجري؟ الإجابة تعني طهران قبل غيرها إذا ما كانت نواياها صادقة. فهي تدرك أكثر من غيرها قيمة وأهمية ما جرى ومدى تأثيره وحجم ارتداداته على العلاقات الثنائية والإقليمية.

نجاح المسار الجديد في الحوار السعودي الإيراني يعني أنّ أميركا وإسرائيل ستدفعان ثمن مواقفهما وسياساتهما من خلال الإصرار على تعقيد الكثير من المشاكل والحؤول دون حلحلة بعضها في الإقليم. وتفاهمات بكين تحمل معها أيضاً رسالة تنبيه لواشنطن وتل أبيب إلى ضرورة مراجعة المواقف والسياسات لأنّ ما قد يحدث لاحقاً سيتسبّب بخيبة أمل مصحوبة بكلفة أكبر.

الوسيط الصيني يريد التمدّد والانتشار سياسياً في المنطقة. هو يسعى إلى أكثر من ذلك. يريد أن ينجح في لعب الورقة الإيرانية بعد الروسية في الإقليم. لكنّ من سيدفع الثمن هو المسؤول الأول والأخير عن إيصال الأمور إلى هذه المرحلة. اللاعب الأميركي الذي أهدر وفرّط بالكثير من الفرص والعروض.

تعدّ موسكو لتفاهمات تركية جديدة مع النظام في دمشق، وتقود بكين مسار التقريب بين الرياض وطهران. هل من ضربة استراتيجية قادرة على قلب المعادلات وخارطة التوازنات في المنطقة أكبر من تلك التي تلقّتها واشنطن؟

تريد واشنطن أن تعرف هل تلتزم طهران بالتعهّدات المقدّمة للرياض. لكن الذي سيراقب ويتدخّل لإلزام إيران بالتنفيذ هو الجانب الصيني. من سيراقب هذه المرّة هو اللاعب الأميركي المفترض أنّه المؤثّر الأول في المنطقة، ومن سيعمل على إزالة العراقيل والعقبات أمام نجاح الاتفاقيات هو اللاعب الصيني الذي يريد تحويل المسار إلى فرصة اختراق وتوغّل في الشرق الأوسط، وهذا ما يحدث للمرّة الأولى في التاريخ السياسي الحديث للمنطقة من دون الضوء الأخضر الأميركي.

تقول القراءات الأوّلية إنّ بكين نجحت في توجيه سهم موجع إلى صدر الأسد الأميركي في الإقليم. ليست الإصابة قاتلة لكنها قد تصبح كذلك إذا ما راهنت واشنطن على قوة الأسد المصاب وتمكّنه من تجاوز حالة الخطر وهو طريح في عرينه.

إقرأ أيضاً: السعوديّة – إيران: ماراتون النجاح أو الفشل؟

التفاهمات تعني تل أبيب أيضاً لأنّ التوازنات الإقليمية القائمة حالياً قد تتغيّر. فكيف ستتصرّف تل أبيب؟ هل تكتفي بتحميل واشنطن مسؤولية ما جرى أم تعمل على مراجعة سياساتها وأساليبها وخططها بعيداً عن خيار مواصلة ما بدأته في التعامل مع ملفات المنطقة والرهان على قدراتها العسكرية لأخذ ما تريد؟ في الوقت الذي كانت تل أبيب تنتظر الفرج الأميركي لتسجيل اختراق ما على خطّ الرياض، فاجأت بكين الجميع وهي ترفع أمام العدسات نسخة التفاهمات السعودية الإيرانية حول مسار جديد محتمل في العلاقات الثنائية والإقليمية.

أنشأت في عام 2004 منظمة إقليمية “على الورق” وتحدّثت عن كلّ تفاصيلها في كتاب مطوّل بالتركية تحت عنوان “أوسغيت”، وهو الاسم المختصر لتكتّل شرق أوسطي افتراضي متعدّد الأهداف والرؤى، تؤسّس له نواة سداسية في عالم جديد غير عالم اليوم. لم يعجب العديد من الأحزاب والقوى الحزبية والسياسية التركية والعربية وقتها. من المحتمل أنّ موعد إنزاله عن الرفّ ورفع الغبار المتراكم عليه مع إجراء بعض التعديلات يقترب يوماً بعد يوم.

 

*كاتب تركي

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

إقرأ أيضاً

العرب لا يثقون بأميركا… وينتظرون “حلّ الدولتين”؟

كان مجال اهتمامنا في ترقّب ضربة إيران ضدّ إسرائيل، هو القدرة والضرر الذي تُحدثه. بيد أنّ الأميركيين والأوروبيين، الذين كانوا يعرفون حدود القوّة الإيرانية، ما…

الحرب قد تدوم سنةً والفوضى الإقليميّة والترانسفير قادمان؟

المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران فصل من فصول الحرب الإقليمية الدائرة انطلاقاً من غزة، التي تنتظر بدورها مصير رفح… ويتوقّع بعض المتشائمين أن تستمرّ الحرب…

إردوغان يحمل ملفّ غزّة إلى البيت الأبيض: “الحركة” بلا سلاحها

كان غريباً انكفاء تركيا النسبي عن لعب دور نشط في المرحلة التي تلت مباشرة عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في 7 أكتوبر (تشرين…

معاناة بايدن :تصعيد المشاكل وفشل تصفيرها!

“لا يوجد أسوأ ولا أصعب من الوضع الحالي لمنطقة الشرق الأوسط. والخشية أن تتفلّت الأمور بحيث تخرج تماماً عن سيطرة الجميع فنصل إلى حالة الكارثة…