الاتّفاق السعوديّ – الإيرانيّ: نص مكتوب أو فعل مطلوب؟

ماذا يعني الاتفاق السعودي الإيراني الذي تمّ توقيعه (يوم الجمعة الفائت) في بكين برعاية صينية؟ إنّه نص واحد مكتوب بعناية، لكنه يعني الكثير وله ردود فعل متباينة على كل طرف من الموقّعين، وعلى المنطقة، والقوى الكبرى. وكانت السعودية قد أغلقت سفارتها في طهران وقنصليتها في مشهد عام 2016 عقب الاعتداء عليهما.

ترتيب 4 ملفّات

يقول مصدر مطّلع إنّ هذا الاتفاق جوهري في إعادة ترتيب 4 ملفات رئيسية:

1- ملف العلاقات الثنائية بين البلدين.

2- ملف التوتّرات والصراعات في المنطقة، وأهمّها الحرب اليمنية واحتمالات أن تنتهي الهدنة إلى تسوية.

3- الأوضاع الداخلية غير المستقرّة في لبنان وسوريا والعراق التي تلعب إيران دوراً رئيسياً في إدارة مؤشّر صناعة القرار فيها.

4- ملف “الاتفاق المعطّل” (الاتفاق النووي) حتى الآن بين طهران وواشنطن.

رفضت واشنطن وأصرّت على أن الاتفاق “نووي” بامتياز، وكانت دول الخليج ترى أنّ الاتفاق كما هو يشكّل خطراً ويشجّع على استمرار الانفلات الشديد لسياسات الحرس الثوري بالمنطقة

الجدير بالذكر أنّ السعودية ودول الخليج كانت على خلاف مع إدارات أوباما وترامب وبايدن بسبب اقتصار الاتفاق على سلوك إيران النووي وحصر الخطر الإيراني في مسألة التخصيب، فيما الخطر كما تراه دول الخليج هو في “التدخّلات التخريبية” لطهران في مصالح وشؤون دول المنطقة.

حينما التقى الوفد الخليجي برئاسة وليّ العهد السعودي في حينه الأمير محمد بن نايف بالرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2015 ورفض الأخير أن تتعهّد إيران خطّيّاً، سواء في خطاب ضمان أو بإضافة ملحق على الاتفاق مع إيران، بـ”احترام سيادة الدول” وعدم التدخّل في شؤون الآخرين واتّباع سياسة حسن الجوار.

رفضت واشنطن وأصرّت على أن الاتفاق “نووي” بامتياز، وكانت دول الخليج ترى أنّ الاتفاق كما هو يشكّل خطراً ويشجّع على استمرار الانفلات الشديد لسياسات الحرس الثوري بالمنطقة.

أمّا إيران فكانت تدعو دائماً إلى أن ينأى تماماً ملف المنطقة عن أيّ تدخّل أميركي وأن يكون على طاولة الحوار المباشر بين السعودية وإيران.

هكذا تمّ إنجاز هذا الاتفاق بدون رعاية أميركية وبحوار مباشر في مسقط وبغداد على مدى عامين، ثمّ باحتضان ومبادرة من الزعيم الصيني شي جينبينغ.

من هو الوزير مساعد بن محمد العيبان؟

قاد الوفد السعودي في عملية التفاوض أحد أهمّ الخبراء السياسيين والفاهمين للقانون والبارعين تقنياً في صياغة الاتفاقات والمواثيق الوزير مساعد بن محمد العيبان، مستشار الأمن الوطني وأحد أهمّ خبراء الديوان الملكي. يحظى العيبان بثقة كاملة من رؤسائه في عهود الملكين فهد وعبدالله واليوم الملك سلمان ووليّ عهده الأمير محمد.

من الجانب الإيراني علي شمخاني مستشار المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي يلعب دوراً أساسياً في جولات الحوار المتعلّقة بالاتفاق النووي الإيراني.

بهذا الاتفاق جعلت كلّ من السعودية وإيران الصين “ضامناً دولياً لهذا الاتفاق” على الرغم من اختلاف أسباب كلّ منهما في هذا المجال.

في المفاوضات النهائية التي جرت في بكين بين السادس والعاشر من هذا الشهر برعاية كاملة من وزير الخارجية الصيني أثبتت كلّ من الرياض وطهران الحاجة إلى هذا الاتفاق

أهمّ ما في هذا الاتفاق أنّ فيه أمرين: الأول تعهّدات، والثاني إجراءات.

أهمّ التعهّدات، وهي تشمل ما كانت الرياض وباقي دول المنطقة تسعى إليه:

أ- عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول.

ب- حسن الجوار بين دول المنطقة.

ج- احترام سيادة الدول.

الإجراءات هي إعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارتين في طهران والرياض والقنصليتين في مشهد وجدّة.

تمّ الاتفاق على إعادة تفعيل الاتفاقية الأمنية بين البلدين التي وُقّعت عام 2001 ثمّ جُمّدت لسنوات، وتمّ الاتفاق أيضاً على تدعيم العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية. مع الإشارة إلى أن السعودية لم تقُم خلال أقسى درجات التوتّر بتسييس موقفها في مجموعة “أوبك بلاس” التي تضمّ إيران، مثبتةً أن الرياض حريصة على حصر القرارات في هذه المجموعة بالجانب التقني المحض وفقاً لمصالح الأعضاء وبناءً على أسس العرض والطلب التي تفرضها حالة الأسواق.

الحاجة المتبادلة إلى الاتّفاق

في المفاوضات النهائية التي جرت في بكين بين السادس والعاشر من هذا الشهر برعاية كاملة من وزير الخارجية الصيني أثبتت كلّ من الرياض وطهران الحاجة إلى هذا الاتفاق.

بالنسبة للرياض، مشروع الأمير محمد بن سلمان يعلو ولا يُعلى عليه، ويتضمّن تنفيذ رؤية السعودية 2030، وهذا لا يمكن أن يُنجز بشكل “مطمئنّ” و”مضمون” إلا في ظل خلوّ البلاد من صراعات خارجية في المنطقة.

لا بدّ من إنهاء حرب اليمن سعودياً عبر تسوية سياسية لا يمكن ضمانها إلا من خلال تسوية إقليمية سعودية يمنية.

كانت شروط الرياض أكثر من 18 شرطاً أو مواصفة تتعلّق بتسوية الشغور الرئاسي ووضعية حكومة تصريف الأعمال وعودة الدعم الخليجي المالي والاقتصادي والسياسي للبنان

في الرياض يرون أن إيران هي المشغّل الرئيسي لِما يحدث في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، وأن القوى المحلية المتعاونة معها في هذه الدول بمنزلة “وكلاء”.

ما تمّ في بكين هو اتفاق السعودية مع المشغّل الرئيسي لكثير من الملفّات في المنطقة.

هذا الاتفاق تمّ برعاية صينية لا أميركية.

هذا الاتفاق تم في ظل عقوبات أميركية مستمرة ضد إيران، وجدّدها الرئيس بايدن أمس الأول لمدة عام جديد.

هذا الاتفاق كما يراه البعض من الخبراء في الرياض “يجب أن يتحوّل من نص مكتوب إلى فعل مطلوب”، ويجب التعامل معه بتقدير لكن بتفاؤل حذر.

ماذا عن لبنان؟

قبل أن ينطلق خبراء التحليل التآمري بلبنان في تقويم أثر هذا الاتفاق على حلحلة الأوضاع الداخلية المأزومة في البلاد، صرّح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود أنّ “العنصر الأساس في التهدئة في لبنان ليس التقارب الإيراني السعودي، بل أولاً التقارب بين اللبنانيين أنفسهم”. وأضاف: “يجب أن يقدّم الساسة في لبنان مصلحة بلادهم على أيّ مصالح أخرى”.

يتوافق هذا التصريح مع القائمة التي تقدّمت بها الرياض في لقاء باريس الخماسي الأخير لبحث شروط التسوية في لبنان.

كانت شروط الرياض أكثر من 18 شرطاً أو مواصفة تتعلّق بتسوية الشغور الرئاسي ووضعية حكومة تصريف الأعمال وعودة الدعم الخليجي المالي والاقتصادي والسياسي للبنان.

أهم ما في جوهر خطاب الرياض في هذا المجال أنّ حل الإشكالية اللبنانية يجب أن يكون بتسوية لبنانية بعيداً عن التدخّلات الإقليمية التي تعزّز الانقسامات الداخلية.

ترى الرياض أنّه لا يمكن دعم أو تمويل “المشروع اللبناني” بشكله الانقسامي الحالي وبوجود سلطة و”يد عليا” لحزب الله اللبناني المدعوم إيرانياً.

زمنياً، لن تكون عودة العلاقات بين إيران والسعودية قبل شهرين، إذ ستراقب الرياض بشكل دقيق وحذر التطبيق الإيراني لخطوات التقارب مع السعودية ثنائياً وإقليمياً.

لقد شهد ملف العلاقات بين البلدين “شهور عسل” ومراحل “طلاق بائن”، فكان المسار في صعود وهبوط.

قال مسؤول خليجي مطّلع: “هناك 3 شروط أساسية لنجاح هذا الحوار: أولاً وثانياً وثالثاً مدى صدق والتزام الجانب الإيراني في ظل الانقسامات الداخلية في إيران وتدهور صحّة المرشد الأعلى”

كان التفاؤل هو الداعم للعلاقات في مراحل، ولا سيّما حين تُوّجت بالاتفاق الأمني بين البلدين، وحين زار الرئيس هاشمي رفسنجاني المملكة، وكانت زيارته الأطول لمسؤول إيراني رفيع المستوى، إذ استغرقت أسابيع وشملت الرياض وجدة ومكة والمدينة، وصرّح خلالها: “أنا سعيد لأنني في الشقيقة الغالية السعودية”.

يجب النظر لهذا الاتفاق سعودياً على أنّه جزء من المقاربة الحالية للأمير محمد بن سلمان في سياسته الإقليمية والدولية التي تعتمد على 5 ركائز:

1- المصلحة الوطنية وحدها هي أساس  حركة الدبلوماسية السعودية.

2- إطفاء حرائق الصراعات الإقليمية ضرورة وشرط أساس للتفرّغ لمشروع رؤية 2030.

3- في ظل الإدارة الديمقراطية في واشنطن يجب تنويع الرهانات الاستراتيجية في المنطقة، وهنا يمكن فهم القمّة السعودية الصينية، ويمكن فهم الزيارات المتبادلة بين وزيرَي خارجية روسيا والسعودية والتقارب الحالي مع تركيا.

4- الحوار وحده هو الوسيلة لحلّ المشكلات الإقليمية.

5- رغبة السعودية في لعب دور رئيس في رسم سياسات المنطقة والعالم (أوبك بلاس، مجموعة العشرين، مجلس التعاون، تنوّع العلاقات مع القوى الدولية، التقدّم بطلب لعضوية مجموعة البريكس).

تمّ توقيع هذا الاتفاق في ظل عدة علامات استفهام كبرى حول مصائر العديد من القوى الأساسية في المنطقة والعالم:

1- مستقبل الرئيس الأميركي صحّياً وإمكانية فوزه في الانتخابات المقبلة.

2- صحة المرشد الأعلى الإيراني والخلاف المحتدم على خلافته.

3- التأكّد من استقرار النظام الصيني بعد تجديد انتخاب الرئيس شي للمرّة الثالثة.

4- علامة استفهام حول مستقبل إردوغان وحزبه في انتخابات 14 أيار المقبل.

إقرأ أيضاً: من مرشح السعودية في لبنان؟*

كيف نتعامل مع هذا الاتّفاق؟

بموضوعية وحيادية نقول هو اتفاق مهمّ للغاية تمّت صياغته بصعوبة وعناية فائقة ودقّة تحترم مصالح الطرفين. ولكن يجب التعامل مع الاتفاق بحذر شديد وربط نتائجه بالإجراءات الفعلية التي يجب أن تظهر في التطبيقات الخاصة لحسن الجوار ومعالجة تحدّيات الأمن الإقليمي من خلال الحوار.

قال مسؤول خليجي مطّلع: “هناك 3 شروط أساسية لنجاح هذا الحوار: أولاً وثانياً وثالثاً مدى صدق والتزام الجانب الإيراني في ظل الانقسامات الداخلية في إيران وتدهور صحّة المرشد الأعلى”.

لمتابعة الكاتب على تويتر: Adeeb_Emad@

إقرأ أيضاً

الفضيحة الشاملة: قصة هجوم لم يقع

كان الهجوم الإيراني على إسرائيل وهماً من الوهم المستمرّ منذ أربعين عاماً وأكثر من العداوة بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة. وقد تبيّن أنّ المقصود من…

إمبراطورية إيران “العاقلة”… ونحنُ شعوب الدرجة الثانية المنذورين لحروبها

ردّت إيران على إسرائيل لأنّها قصفت قنصليّتها في سوريا. ردّت بـ”عقل” و”حكمة”. ردّت بتنسيق مع الرئيس الأميركي جو بايدن. لحماية “مصالح إيران”. وقال قادتها إنّهم…

الليلة التي أربكت استاتيكو الشّرق الأوسط

تأخّر الردّ الإيراني على إسرائيل عقوداً لا أيّاماً. امتلكت طهران كلّ الأسباب الشرعية والمنطقية للردّ المباشر حين نفّذت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة عمليات داخل الأراضي…

من يدفع ثمن الأزمة في باكستان؟

أُدين رئيس حكومة باكستان السابق عمران خان بالفساد وتعريض الأمن القومي للخطر والإساءة للدين الإسلامي، وحُكم عليه بالسجن لمدّة 31 عاماً. وهو اليوم يقضي هذه…