سأكون أقلّ حزناً أيّتها الساعة

في ظهيرة يوم لا يُنسى من عام 1994 صرخ أحدهم: “يا جماعة مات جبرا إبراهيم جبرا”. انقطع حواري مع الشاعر سامي مهدي. كنّا في افتتاح معرض رسوم لليزا فتاح الترك، وهي رسّامة ألمانية تزوّجت النحّات إسماعيل فتاح وأقامت في بغداد ولم يرها أحد.

شاي جبرا بارد

نظرت إلى ساعتي. كنت على موعد مع جبرا غداً. لن يكون هناك غد. ذهبنا، شاكر حسن آل سعيد وعلاء بشير وأنا وجلسنا في غرفة الاستقبال ببيته. لم يكن جبرا معنا. كان ميتاً. كان جبرا يحبّ الشاي بارداً، بل مثلّجاً. نظرت إلى مقعده الفارغ. تذكّرت أنّه في يوم الأربعاء الذي مضى فاجأني بكتابه “شارع الأميرات”. نظر إليّ وأنا أتصفّح الكتاب وقال مبتسماً: “لا عليك. أنظر إلى الغلاف الأخير”. وكانت الصدمة. رأيت اسمي هناك. لقد وضع الأستاذ جزءاً من مقالتي عنه على الغلاف الأخير. كان ذلك يومئذٍ حدث حياتي.

جمال لميعة وقصرها

قال لي ذات مرّة “لميعة (الشاعرة عباس عمارة) تريد التعرّف عليك”. وكنت أعتقد أنّ لميعة واحدة من اختراعاته الجمالية الساحرة، فإذا بها امرأة واقعية حين حضرت ملأت المكان ببريقها. كان “شارع الأميرات” عنها. بنى جبرا بيته في ذلك الشارع. قلت له ذات مرّة: “هناك شارع اسمه سبعة قصور في الكرّادة”، فقال: “تمنّيت لو أبني القصر الثامن، قصراً من أجل لميعة التي التقيتها وكانت تستحقّ القصر الثامن”.

لا يعرف الكثيرون أنّ جبرا إبراهيم جبرا كان ممنوعاً من النشر في العراق في السنوات العشر الأولى من حكم حزب البعث الذي بدأ عام 1968

جبرا البيروتيّ والبغداديّ

لا يعرف الكثيرون أنّ جبرا إبراهيم جبرا كان ممنوعاً من النشر في العراق في السنوات العشر الأولى من حكم حزب البعث الذي بدأ عام 1968. كان جبرا حاضراً في الحياة الثقافية بقوّة، غير أنّه كان ينشر كتبه في بيروت وليس في بغداد. ولولا بيروت لما عرفناه شاعراً وروائياً ومترجماً وناقداً. أمّا كونه رسّاماً فإنّ ذلك يعود إلى بدايات حضوره في بغداد عام 1948. تعرّف يومذاك على جواد سليم. وبأفكاره الثورية عن الفنّ استطاع أن يحرّر جيلاً بأكمله من الرؤية التقليدية للفنّ. وهو ما أهّله لأن يكون أباً للحداثة الفنّية في العراق.

كان جبرا عضواً في جماعة بغداد للفنّ الحديث، وكتب بيانها الثاني بعدما كان شاكر حسن آل سعيد قد كتب بيانها الأول. “السفينة” كانت أشهر رواياته، غير أنّ مَن قرأ روايته “صيّادون في شارع ضيّق” كان قد تعرّف على علاقته ببغداد، المدينة التي أحبّها ورفض مغادرتها على الرغم من أنّ الشيوعيين قد عكّروا حياته بشبهة العمالة لشركات النفط الأجنبية.

المسالم مقاتلاً

كان جبرا يرأس تحرير مجلة “العاملون في النفط” التي تصدر عن شركة نفط العراق. تلك شبهة أخذ بها البعثيون من غير أن يمتلكوا دليلاً على عمالته الوهمية. كان هناك مَن يلوّح بالماسونية أيضاً.

ليبرالية جبرا في فكره كانت تزعج الجميع. حين وقف جبرا أمام صدّام حسين يعترض على محاولة تغيير اسم شارع “أبو نؤاس” إلى الشارع العبّاسي في مشهد نقله التلفزيون العراقي، بدا للجميع أنّ ذلك الرجل المسالم هو مقاتل من طراز خاصّ حين يتعلّق الأمر بالحقيقة.

الغزل هو الأصل

كنت في الرابعة والعشرين من عمري حين أرسلت مقالاً طويلاً عن فنّ الخزف في العراق إلى مجلّة “فنون عربية” التي يرأس تحريرها جبرا إبراهيم جبرا. بعد أيام وجدت سهيل سامي نادر، وهو ناقد فنّ أحبّه، في باب بيتي يقول: “الأستاذ يريد أن يراك”. لم يعبّر الأستاذ عن دهشته بسبب صغر سنّي بقدر ما غمرني بفرح استثنائي عدت بسببه إلى البيت وكنت قد تزوجت قبل أيام مؤمناً أنّ الكتابة هي قدري. كانت عاطفته تسبقه. أوصاني ذات مرّة: “كن منصفاً”. غير أنّني هاجمته بطريقة فظّة بسبب مقالة كتبها عن أحد الفنّانين، لا لشيء إلا لأنّه قال إنّ ذلك الفنّان اجترح معجزة.

إقرأ أيضاً: معجزة العراقيّ أن يموت وحيداً

كان عليّ أن أفهم المنسوب العاطفي الذي تتحرّك فيه لغة جبرا. كان خصامه ثقيلاً عليّ. وحين عدنا إلى صداقتنا لم يذكّرني بما كتبت. ربّما يحتاج المرء إلى أن يقرأ كتابه “البئر الأولى” لكي يتعرّف عليه شاعراً وهب حياته للّغة. فعلى الرغم من أنّه كان شاعر قصيدة نثر وكان توفيق الصائغ وأنسي الحاج هما شاعرَيه المثاليَّين، غير أنّه كتب واحدة من أجمل المقالات في مديح نزار قبّاني قال فيها إنّ عشر قصائد لقبّاني ستبقى خالدة.

 

*كاتب عراقي

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…