زلزال بلا أطبّاء.. المأساة الإغريقيّة في سوريا

في أول 24 ساعة بعد زلزال 2023 في تركيا وسوريا، فقدت الدولتين خمسة آلاف شخص، وعدّاد الموت يواصل عمله المروِّع.

في سوريا تتراكم ظلمات، وأزمات تتناسل من أزمات، علاوة على طقس سيّئ، وبرد شديد، وانعدام الغذاء والطاقة، وهشاشة المباني التي قصفتها حرب عبثية منذ أكثر من عشر سنوات.

لم تصمد المساكن التي يقطنها أناس منهكون من كلّ شيء، فراحت تتصدّع وتتهاوى كأن لم تكن.

قال الناس لوسائل الإعلام: لا نريد العودة إلى منازلنا، فالشارع أكثر أمناً من المنازل. وهكذا يعيش ملايين السوريين، الذين تشرّدوا بسبب الحرب، التشرُّدَ بسبب الزلزال. فمن الشارع بسبب السياسة إلى الشارع بسبب الطبيعة.

 

50 ألف طبيب

تشبه المشاهد في سوريا يوم القيامة. الأصوات مسموعة من تحت الأنقاض، من الأب الذي عُثر عليه وهو يحتضن ابنه في لقاء الوداع، إلى مشاهد الفارّين من الموت وهم نصف أحياء.

تلكّأ العالم في مساعدة سوريا بحجّة سياسية. وكانت سوريا نفسها غير جاهزة لفعل الكثير. عشرات الآلاف من المصابين لم يجدوا عدداً كافياً من المسعفين والأطبّاء، وكان ذلك واحداً من معالم المأساة الكبرى.

تشبه المشاهد في سوريا يوم القيامة. الأصوات مسموعة من تحت الأنقاض، من الأب الذي عُثر عليه وهو يحتضن ابنه في لقاء الوداع، إلى مشاهد الفارّين من الموت وهم نصف أحياء

في السنوات الأخيرة غادر الأطبّاء السوريون سوريا: أكثر من 50 ألف طبيب سوريّ من إجمالي 70 ألف طبيب غادروا البلاد. لم يبقَ في سوريا سوى 20 ألف طبيب فقط.

بعض الأطبّاء هرب من الأزمة إلى الأزمة. فمنهم من غادر إلى اليمن والصومال وليبيا. في الصومال وحده يوجد 500 طبيب سوري، وما يزال نزيف الهجرة يتواصل بعدما وصل راتب الطبيب إلى 70 دولاراً في الشهر.

وسط آلام الزلزال لا يوجد عددٌ كافٍ من أطبّاء التخدير لتخفيف الآلام، فلقد غادر معظمهم، وفي كلّ ريف دمشق يوجد 10 أطبّاء فقط!

يُضاف إلى ذلك كلّه وجود 4 ملايين لاجئ سوري في تركيا، معظمهم في مناطق الزلزال. في مشهد إغريقي مأساويّ أليم تتّسع مساحة الموت.

 

حين كان لبنان مستشفى الشرق الأوسط

يمثِّل لبنان أزمة موازية لأزمة الهجرة الطبّية السورية، وتمثِّل مصر والأردن والسودان نماذج مشابهة لهجرة آلاف العاملين بالقطاع الطبّي في سوريا ولبنان.

كان لبنان يُسمّى “مستشفى الشرق الأوسط”، حيث كان البلد الجميل مقصداً للسياحة الطبّية، وموئلاً لعلاج أعداد هائلة من الزائرين العرب.

غادر أكثر من 3,500 طبيب لبناني البلاد، ولم تعد المرافق الطبّية قادرة على مواجهة الطلب الداخلي، فضلاً عن تقديم المساعدات الطبّية الخارجية.

فمن أزمة السياسة إلى كارثة المرفأ إلى أزمة الدولار، غادر الأمل آلاف الأطبّاء، فغادروا بلادهم إلى كلّ مكان.

 

مصر: 5,000 طبيب.. والأردن: 500%

حسب المجلس الطبّي البريطاني فإن أعداد الأطبّاء الأردنيين المهاجرين إلى بريطانيا قد تضاعف بنحو 500% من عام 2017 إلى عام 2021.

أمّا مصر فقد هاجر منها في تلك السنوات أكثر من 5 آلاف طبيب إلى بريطانيا وحدها، وهاجر عدد أكبر من طواقم التمريض والخدمات الطبّية المساعِدة.

على نحو عامّ يصل عدد الأطبّاء البشريّين المصريين إلى أكثر من 200 ألف طبيب، يعمل نحو 80 ألف منهم، أي 38%، في القطاعين الطبّيَّين المصريَّين العامّ والخاصّ، فيما تسرّب من المنظومة الطبّية 62% من الأطبّاء.

من عام 2019 إلى 2022 استقال 12 ألف طبيب، وهو أكبر عدد استقالات للأطبّاء في تاريخ مصر. يُضاف إلى ذلك أنّ عدداً كبيراً من الأطبّاء الجُدد لا يرغبون في تسلُّم عملهم الحكومي.

وهكذا هبط حجم المنظومة الطبّية في مصر بنسبة 60%، وحسب بيان نقابة الأطبّاء المصرية “الوضع ما يزال سيّئاً.. أو أسوأ وزيادة”.

ترى نقابة الأطبّاء المصرية أنّ افتتاح كلّيّات طبّ جديدة لن يكون الحلّ، ذلك أنّه مع استمرار تدنّي الأجور، وضعف بيئة العمل، وضعف رواتب التقاعد، وهجوم الإعلام، واستمرار المحاسبة الجنائية للأطبّاء من دون إقرار قانون المحاسبة الطبّية، الذي يفرِّق بين مضاعفات المرض والخطأ الطبّي والإهمال الجسيم، لن يتراجع الأطبّاء عن الهجرة، وسيلحق الأطبّاء الجُدد بالذين هاجروا.

من بين نحو 9 آلاف طبيب مصري جديد سنويّاً، يغادر أكثر من النصف البلاد، وفيما يصل المعدّل المطلوب للأطبّاء إلى السكّان نحو 1 طبيب لكلّ 333 نسمة، هبطت النسبة في مصر إلى 1 طبيب لكلّ 1,200 نسمة. وقد فاقمت هجرة طواقم التمريض مشكلة الخدمة الطبّية.

 

الزلزال يدقّ ناقوس الخطر

كان هول صدمة الزلزال في تركيا وسوريا بلا حدود، وفيما يجب تقديم كلّ المساعدات الممكنة للمنكوبين، لا بدّ من الدراسة السياسية العميقة لذلك الحادث الجلل.

ليس المطلوب فقط التطهّر الروحي والأخلاقي وإدراك الحجم المحدود لحياة الإنسان، ومدى قِصر الرحلة في دنيا مضطربة وعالم نصف عاقل، وإنّما أيضاً مراجعة الأمن الإنشائي للمباني والمنازل، واتّخاذ قرارات جريئة وقاسية بالهدم. إذ يجب إسقاط بلا تردّد كلّ الأبنية الآيلة إلى السقوط، وكذلك مراجعة خريطة المنظومة الطبّية وما أصابها من التدهور كمّاً وكيفاً.

لا يجب على الأحياء أن يحمدوا الله على نجاتهم أو ابتعاد مركز الزلزال عن ديارهم فقط، بل يجب البدء بتقديم العون، والشروع في المراجعة الشاملة لِما يجب أن يكون.

إقرأ أيضاً: سوريا… من الزلزال السياسيّ إلى الزلزال الطبيعيّ

لا أحد يمكنه منع مأساة لا دخل للإنسان فيها، لكن يمكن الاستعداد لإدارتها في حدودها حتى لا تتحوّل من أزمة طبيعية إلى مأساة إغريقية.

خالص العزاء للشعب السوري الشقيق، ولعلّها تكون آخر الأحزان في هذا الوطن العظيم.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…