الحملة ضدّ المضاربين: عقوبات و”كشوفات” و”دولرة”

لم تهزّ تحقيقات الوفد الأوروبي، الذي حضر إلى لبنان منتصف الشهر الفائت، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يقول إنّه يملك طرقاً خاصة لحلّ مسألة الادّعاء عليه أمام القضاء الأوروبي. لكنّ عقوبات الخزينة الأميركية ضدّ شركة CTEX التي يملكها حسن مقلّد، كان لها وقع آخر مختلف، ظهر من خلال الحملة الشرسة التي قادتها الأجهزة الأمنيّة ضدّ المضاربين والصرّافين في اليومين الفائتين.

أمّا هذه الحملة فتحرّكها دوافع ثلاثة، أحدها خارجي والآخران داخليّان:

1- الدافع الخارجي: هناك إشارات عدّة أرسلتها الخزينة الأميركية إلى لبنان تُعرب فيها عن عدم رضاها عن المنحى الذي يسلكه الاقتصاد اللبناني. ويُضاف إليها جنوح مصرف لبنان أكثر فأكثر نحو اقتصاد “الكاش”، الذي يستفيد منه حزب الله والنظام السوري وغيرهما من محور الممانعة.

ظهرت هذه الإشارات في نصّ العقوبات الأميركية على مقلّد وأولاده وشركته، الذي أتى على ذكر مصرف لبنان 5 مرّات، وأكّد أنّ مقلّد، الذي حصل على ترخيص من مصرف لبنان في منتصف عام 2021، بات من خلال الشركة التي يديرها يمتلك “حصّة سوقية كبيرة في قطاع تحويل الأموال”، و”جمع ملايين الدولارات من أجل المصرف المركزي”.

شعر مصرف لبنان أنّه ما عاد متحكّماً بالسوق من خلال لعبة “صيرفة” وبموجب آليّة “العرض والطلب”، وأنّ تدخّله في السوق بائعاً الدولارات ما عاد يأتي بالنتائج المرجوّة

تصبح الحملة ضدّ المضاربين مفهومة أكثر إذا ربطنا هذا الكلام بما يبديه الأميركيون من اهتمام بالملفّ المالي والنقدي اللبناني، وعزمهم الجدّيّ على مواجهة الاقتصاد الموازي وعمليّات تبييض الأموال بعد تحوّل لبنان إلى متنفّس ماليّ لسوريا.

كان هذا كفيلاً بإيصال الرسالة المطلوبة إلى سلامة. وقد استشعر رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الحامي الأوّل للحاكم، الخطر نفسه، وهذا ما استدعى رفع الغطاء عنهم.

2- الدافع الداخلي الأوّل: الحاجة إلى تهذيب المضاربين والصرّافين لإعادتهم إلى قواعد اللعبة التي رسمها مصرف لبنان منذ بداية الأزمة، وبدأ يستشعر فقدانه السيطرة عليها.

فالمضاربون أوجدوا سوقاً إضافية موازية، تشبه الـFutures في سوق الأسهم، وباتوا قادرين على شراء الدولارات وبيعها من دون أن يملكوها. يسجّلون الطلبات على الدولار ويبدأون بجمعها، ثمّ يسدّدون ليراتها لاحقاً بعد تسليم الدولارات لصاحب الطلبيّة. وإذا تدخّل مصرف لبنان محاولاً ضبط سعر الصرف، عمدوا إلى رفع سعر الدولار، لتلافي خسارتهم. كيف لا وبين أيدي هؤلاء مفاتيح التحكّم بأسعار الصرف من خلال التطبيقات، فبـ”كبسة زر” يرفعون سعر الدولار وبأخرى يخفضونه… وفق أهوائهم ومصالحهم؟

لقد شعر مصرف لبنان أنّه ما عاد متحكّماً بالسوق من خلال لعبة “صيرفة” وبموجب آليّة “العرض والطلب”، وأنّ تدخّله في السوق بائعاً الدولارات ما عاد يأتي بالنتائج المرجوّة، فيما مصلحة المضاربين الدائمة هي رفع السعر للحصول على أكبر قدر من الليرات.

حوّلت هذه الحلقة المقفلة مصرف لبنان وحاكمه من قائد أوركسترا إلى “زبون ذي أفضليّة” مضطرّ إلى شراء الدولارات من المضاربين ما دام متعطّشاً إليها.

كان المركزي يعتمد طوال تلك الأشهر على حاجة اللبنانيين إلى الليرات: المواطنون يقصدون الصرّافين ليصرفوا دولاراتهم لسدّ حاجيّاتهم. وبدورهم يجمع الصرّافون الدولارات لصالح مصرف لبنان

3- الدافع الداخلي الثاني: شرارة تسعير السلع بالدولار، التي أطلقها وزير الاقتصاد الأسبوع الفائت، زادت من مخاوف سلامة. إذ دفعت دولرة أسعار السلع الكثير من المتاجر والمصالح إلى اعتمادها قبل أن تعمد الوزارة إلى الخوض في التفاصيل وتحدّد مرجعية التسعير، وحتى محطات الوقود بدأت ترفع صوتها لاعتماد التسعير بالدولار، فكان ذلك بمنزلة “ضربة قوية” لمنصّة “صيرفة”.

كان المركزي يعتمد طوال تلك الأشهر على حاجة اللبنانيين إلى الليرات: المواطنون يقصدون الصرّافين ليصرفوا دولاراتهم لسدّ حاجيّاتهم. وبدورهم يجمع الصرّافون الدولارات لصالح مصرف لبنان… وهكذا دواليك.

أمّا إذا تحوّلت جميع القطاعات إلى التسعير بالدولار، فستنتفي الحاجة إلى قطاع الصرافة، أو في أضعف الإيمان ستتراجع عمليّات الصرف إلى حدودها الدنيا. وبذلك يخسر سلامة مصدر دولاراته، خصوصاً أنّ المتاجر والمطاعم ليست بحاجة إلى الليرات على الإطلاق، لأنّ كلّ بضائعها المستوردة مسعّرة بالدولار. وهذا يعني أنّ الدولارات التي تدخل جواريرها لن تخرج منها إلاّ إذا سلكت طريقها إلى خارج الحدود.

وعليه، كان لا بدّ من إعادة الأمور إلى نصابها. لذا تسعى السلطتان السياسية والنقدية إلى “ترويض جماعاتهما”: رفعتا الغطاء عن المضاربين والصرّافين وخيّرتاهم بين الالتزام أو السجن.

إقرأ أيضاً: “دولرة” الأسعار: المضاربون يتحكّمون بطعامنا بعد أموالنا؟

المضاربون مستمرّون

تفيد المعلومات أنّ المضاربين والصرّافين تحوّلوا اليوم إلى إدارة عمليّاتهم عبر الرسائل النصّية الخاصة، فيما سعر الصرف ما زال يحلّق فوق 60 ألفاً. لكنّ مصادر الصرّافين أفادت “أساس” أنّ هذا السعر “غير موثوق” ولا أحد يلتزم به في عمليات البيع، إذ يعمد الصرّافون إلى شراء الدولارات من المواطنين بنحو 57 أو 58 ألفاً، من باب التحوّط. أمّا استمرار سعر الصرف عند عتبة 60 ألفاً، فمردّه إلى مصلحة المضاربين التي تقضي ببقاء السعر عند هذا المستوى إلى حين بتّ “طلبات الكشف” المسجّلة قبل حملة المداهمات، لأنّ إلغاءها يكبّدهم خسائر تؤدّي إلى إفلاسهم. وهذه قد تكون إشارة صريحة إلى الجهة التي ما زالت تتحكّم بالسوق… أقلّه حتى اللحظة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@

إقرأ أيضاً

الدولار المصرفي بين الخبث واللبس

أيقظت الأعياد آلام أصحاب الودائع بالدولار المحلّي، واستوطن الحزن في نفوسهم. فالضبابيّة المتعمّدة حول سعر صرف الدولار المصرفي هي أداء غير مسؤول يفتقر إلى المناقبية…

الموازنة: المجلس الدستوري علّق 9 مواد… فهل يعلّقها كلّها؟

يقترب موعد بتّ المجلس الدستوري بالطعون المقدّمة ضدّ بعض الموادّ في “قانون الموازنة”. إذ يُنتظر أن يعلن المجلس الدستوري قراره النهائي في غضون أسبوع، أي…

لغز استقرار الليرة في لبنان: ماذا لو هبّت العاصفة؟

حالة الاقتصاد تبدو محيّرة: استقرار لسعر صرف الليرة في لبنان منذ الصيف الماضي. وفائض في ميزان المدفوعات. فيما تعيش البلاد حرباً في الجنوب وشللاً سياسيّاً…

بداية حل الأزمة المصرفية توصيفها

التوقّف عند أرقام الخسارة والفجوة الماليّة، والعودة بالتاريخ إلى الوراء في محاولة لإعطاء حياة لخطط وحلول وُلدت ميتة في الوقت الذي كان يجب أن تكون…