جنون الطوائف… و”العصفورية” مقفلة

“العصفوريّة” اسم ارتبط بالجنون منذ أكثر من قرن. إنّه اسم مصحّ المرضى العقليّين والنفسيّين الذي أسّسه السويسري ثيوفيلوس فالدماير في عام 1896. وتعود التسمية إلى كثرة العصافير في منطقة الحازمية، حيث أُقيم المصحّ. كانت منطقة حرجيّة في ذاك الزمن. انتشر الاسم في كلّ دول المنطقة التي كانت ترسل مرضاها إلى “العصفوريّة” اللبنانيّة.

صدق نجيب ميقاتي حين قالها مستعيراً أغنية صباح. وصلنا “ع العصفورية” في ظلّ رئاسته للحكومة. لبنان اليوم عصفوريّة. تدور فيه حفلة جنون غير مسبوقة في تاريخه القديم والوسيط والحديث، ولا في تاريخ أيّ من البلدان القديمة والحديثة النشأة.

البدء من الجنون القضائيّ الأخير

أليس جنوناً أن يقوم قاضي التحقيق في قضية تفجير مرفأ بيروت، على الرغم من تعقيداتها القضائية والسياسيّة، باستعادة نشاطه في القضية بالاستناد إلى اجتهاد، بعد 13 شهراً على كفّ يده عن الملفّ، وأن يذهب إلى اتّهام أمنيّين كبار ومدّعي عامّ التمييز؟

أليس جنوناً أن يردّ هذا الأخير على اتّهام قاضي التحقيق له بأن يدّعي عليه ويُصدر قراراً بإطلاق كلّ الموقوفين في القضيّة إرضاءً للأميركيين الذين طالبوا بإطلاق محمد زياد العوف، فزاد الانقسام في الجسم القضائي المهترئ والمنقسم أصلاً؟

لبنان اليوم عصفوريّة. تدور فيه حفلة جنون غير مسبوقة في تاريخه القديم والوسيط والحديث، ولا في تاريخ أيّ من البلدان القديمة والحديثة النشأة

أليس جنوناً أن ينقسم مجلس القضاء الأعلى أمام قضيّة بهذا الحجم في ظلّ تعقيدات قانونيّة وسياسيّة داخليّة ودوليّة وتأرجح البلد على “كفّ عفريت”؟

الجنون السياسيّ

حالة الجنون في مؤسّسة القضاء هي نتيجة الجنون السياسي الذي نعيشه منذ سنوات.

أليس جنوناً أن انفجاراً دمّر العاصمة ووُصف بأنّه “ثالث أقوى انفجار غير نووي في التاريخ”، ولا يستقيل أو يُقال حينذاك أيٌّ من المسؤولين السياسيين أو الأمنيين أو العسكريين أو القضائيين، ويُعرقَل تحقيق القضاء في هذا الملف منذ أكثر من سنتين؟

أليس جنوناً أن تقوم انتفاضة شعبية عارمة (في17 تشرين الأول 2019) امتدّت على مساحة الوطن اعتراضاً على الأوضاع المعيشيّة الصعبة وللمطالبة بمحاربة الفساد، ويتنكّر لها رئيس الجمهوريّة ويعتبر الاستقالة هروباً من المسؤوليّة؟

أليس جنوناً أن ينهار البلد اقتصادياً وماليّاً ولا تقوم الطبقة الحاكمة بأيّ تدبير لوقف الانهيار وتستمرّ في صراعاتها السياسيّة وكأنّ البلاد في حال طبيعيّة؟

أليس جنوناً أن يتعنّت الحكّام في رفضهم إجراء أيّ إصلاح في الكهرباء أو في غيرها من القطاعات على الرغم من مطالبات الدول والمؤسّسات الدوليّة بهذه الإصلاحات منذ سنوات لمساعدتنا، في وقت تنهار مؤسّسات الدولة تباعاً، وآخرها مؤسّسة القضاء؟

أليس جنوناً أن لا يتراجع حزب الله عن سياساته تجاه دول الخليج العربيّ والدول المانحة، وأن لا يتوقّف عن مهاجمتها في السياسة، وألا ينسحب من ميادين الحروب التي تُشنّ ضدّها، وألا يسهّل انتخاب رئيس يمكنه قيادة مسيرة عودة لبنان إلى البيئة العربيّة والمجتمع الدوليّ اللذين بدونهما لا يمكن وقف الانهيار ولا الخروج منه؟

ربّما يقول البعض إنّها السياسة، مقابل  أفلاطونيّات سياسيّة. ولكن لا. فالصراعات السياسيّة في الدول والمجتمعات الناضجة سقفها الحفاظ على الدولة وشعبها ومؤسّساتها. والساسة اللبنانيون، بغالبيّتهم، تخطّوا هذا السقف. فدمّروا الدولة والشعب والمؤسّسات.

أمراض الجماعات اللبنانيّة

هذا الجنون في السياسة اللبنانيّة هو أيضاً نتيجة الحالات المَرَضيّة التي تعاني منها الجماعات اللبنانيّة التي لم ولن تتّفق على تأسيس وطن وشعب ما لم تشفَ من أمراضها.

بعض “الموارنة” يعانون عقدة تأسيس “لبنان الكبير”. مرّ على “جمهوريّة الطائف” أكثر من ثلاثة عقود ولا يزال البعض منهم يرفض الإقرار بخسارة ما كان لهم من سُلطة ويبحث عن استعادة الصلاحيّات. هذا ما برز بشكل واضح في عهد ميشال عون. لم يقدر “الرئيس القويّ” إلّا على تعطيل الجمهوريّة وإفشال عهده. فكان عهد الانهيار الكبير لـ “لبنان الكبير”. إنّهم أيضاً مرضى الانقسامات والخلافات فيما بينهم والصراع على “الكرسي”. وهي لا تهدأ ولا تستكين حتى أمام الأخطار التي لا تتهدّد “الكرسي” فحسب، بل جماعة بني مارون بوجودها الديمغرافي وحضورها المجتمعيّ وأدوارها على تنوّعها.

في عام 1982 أغلق مصحّ العصفوريّة أبوابه حين كانت أبواب جحيم الحروب مفتوحة في لبنان وكان جنون الشعوب اللبنانيّة في أوجه فكان يقاتل بعضها بعضاً وكانت تتقاتل فيما بينها بالسلاح

وبعض “الشيعة” مرضى عقدة المظلوميّة. فهي تعود إلى تأسيس “لبنان الكبير”. يتصرّفون وكأنّهم يريدون الانتقام من “جمهوريّة الميثاق المارونيّ – السنّيّ”. فما إن سيطروا عليها بقوّة السلاح والزبائنية السياسيّة، حتى راحوا يمعنون في تدمير دستورها ونظامها ومؤسّساتها وأجهزتها وإداراتها.

وبعض “السُّنّة” مرضى عقدة الأكثريّة في المنطقة والتواصل مع المحيط العربيّ. عقدة بدأت مع انهيار السلطنة العثمانية وبروز الكيان اللبنانيّ. فقد وجدوا أنفسهم جزءاً من “أقلّيّات” الوطن الجديد. ناضلوا من أجل إصلاحات دستوريّة. حصلوا عليها في اتفاق الطائف. لكنّ الهيمنة الشيعيّة، بقوّة الدعم السوري – الإيرانيّ، أفرغتها من محتواها. حاول الشهيد رفيق الحريري الموازنة بقوّة علاقاته الإقليميّة والدوليّة، فكان السلاح الذي اغتاله أقوى.

أمّا بعض “الدروز” فلا يزالون مرضى عقدة خسارة جبل لبنان، المعقل التاريخيّ لهم. بدأت هذه العقدة مع بدء “الموارنة” مقاسمتهم السلطة في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى القرن العشرين حين وجدوا جماعتهم أقلّيّة صغيرة في “لبنان الكبير”.

أمراض الشعوب اللبنانيّة

استمرار الجماعات اللبنانيّة في أمراضها أنتج حالات مرَضية لدى “الشعوب اللبنانيّة”. فهذه مريضة بالطائفيّة، وتلك بالخوف من الآخر، وهذه بالزبائنيّة السياسيّة، وتلك  بالتبعيّة للزعيم، ومبايعته في كلّ ما يفعل لدرجة تأليهه، ومبايعة وريثه، سواء كان ابناً أو صهراً أو زوجةً…

هذه الأمراض هي السبب الرئيسيّ لفشل انتفاضة 17 تشرين. وهي التي تمنع “الشعوب اللبنانيّة” اليوم من الاجتماع مجدّداً في ثورة حقيقيّة ضدّ زعمائهم الذين حوّلوهم متسوّلين في بلدهم، ومستعطين لتأشيرات على أبواب السفارات، ومشرّدين في أصقاع الأرض. وما من خلاص للبنان من كلّ ما يعيشه إلّا بتغلّب “الشعوب اللبنانيّة” على أمراضها، واجتماعها في شعب واحد.

إقرأ أيضاً: “بيروت الكبرى”… ردّاً على “الفدرالية”

في عام 1982 أغلق مصحّ العصفوريّة أبوابه حين كانت أبواب جحيم الحروب مفتوحة في لبنان وكان جنون الشعوب اللبنانيّة في أوجه فكان يقاتل بعضها بعضاً وكانت تتقاتل فيما بينها بالسلاح. بهذا الفعل دمّرت الجمهوريّة الأولى والدولة والمؤسّسات، واليوم تُكمل قتالها وتدمّر الجمهوريّة الثانية وما بقي من دولة ومؤسّسات.

فهل تعود إلى السلاح؟

أتمنّى ألّا تفعل.

*أستاذ في الجامعة اللبنانية

لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@

إقرأ أيضاً

نقابة المهندسين: باسيل فاز.. جعجع انتصر.. المسلمون حسموا

انتهت انتخابات نقابة المهندسين. فاز المهندس العوني فادي حنّا بمركز نقيب المهندسين، وفازت لائحته التي يدعمها التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي وجمعية المشاريع. لكنّ المعركة…

العرب لا يثقون بأميركا… وينتظرون “حلّ الدولتين”؟

كان مجال اهتمامنا في ترقّب ضربة إيران ضدّ إسرائيل، هو القدرة والضرر الذي تُحدثه. بيد أنّ الأميركيين والأوروبيين، الذين كانوا يعرفون حدود القوّة الإيرانية المحدودة،…

الحرب قد تدوم سنةً والفوضى الإقليميّة والترانسفير قادمان؟

المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران فصل من فصول الحرب الإقليمية الدائرة انطلاقاً من غزة، التي تنتظر بدورها مصير رفح… ويتوقّع بعض المتشائمين أن تستمرّ الحرب…

إردوغان يحمل ملفّ غزّة إلى البيت الأبيض: “الحركة” بلا سلاحها

كان غريباً انكفاء تركيا النسبي عن لعب دور نشط في المرحلة التي تلت مباشرة عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في 7 أكتوبر (تشرين…