إيران تحت النار: من باكو إلى العراق وسوريا وأصفهان

يُستبعد أن تكون أذربيجان أو أوكرانيا من استهدف بالغارات الجوّية العمق الإيراني أو موكب الميليشيات العراقية التابعة لطهران في شرقي سوريا قبل أيام. صحيح أنّ باكو (عاصمة أذربيجان) تريد الانتقام لعملية اقتحام سفارتها في طهران قبل أسبوع. وصحيح أنّ كييف تريد الردّ على المسيّرات الإيرانية التي تستخدمها القوات المسلّحة الروسية في مهاجمة الأوكرانيين في ديارهم. لكنّ المسألة أبعد وأكبر من ذلك، والبراهين كثيرة:

– التوقيت واختيار الأماكن واتّساع رقعة العمليّات والأسلحة المستخدَمة والمستهدَفة.

– تعدّد الأهداف ومواصلة توجيه الرسائل إلى إيران خارج حدودها كما حدث مع ميليشيات حزب الله العراقية في البوكمال.

– أن تُهاجَم القافلة فيحضر فريق استطلاع لتفقّد المكان فيُهاجم هو الآخر.

– العناد والإصرار على قول شيء ما مختلف ومغاير لإيران هذه المرّة.

يُستبعد أن تكون أذربيجان أو أوكرانيا من استهدف بالغارات الجوّية العمق الإيراني أو موكب الميليشيات العراقية التابعة لطهران في شرقي سوريا قبل أيام

ممّن الهديّة: تل أبيب أم واشنطن؟

يقال إنّ بغداد سألت قوات التحالف الدولي هل كانت تقف وراء الهجوم على القافلة العسكرية التي دخلت الأراضي السورية، فلم تحصل بغداد على أيّ ردّ بعد. ويُقال أيضاً إنّ المهاجمين انتظروا دخول الموكب الإيراني – العراقي الأراضي السورية، ثمّ هاجموه منعاً لحدوث أزمة سياسية مع العراق. ومن هي الجهة التي لا تريد التورّط في أزمة سياسية مع بغداد؟ ومن الذي يطالب الآخر بتفسيرات لِما كانت تفعله قافلة ميليشيات حزب الله العراقي داخل الأراضي السورية، وباسم من كانت تتحرّك هناك؟

من يستطيع إغضاب طهران أو استفزازها ويعلم مسبقاً أنّها لن تردّ وستكتفي بما أعلنه وزير خارجيّتها حسين أمير عبد اللهيان من عدم تحميل أيّ جهة “مسؤوليّة هذا العمل الجبان”. من يفعل هذا يملك الكثير من المعلومات والتفاصيل والإحداثيّات من الداخل الإيراني والعراقي والسوري. لكنّ مشكلة الدعم اللوجستي المحلّي هي التي تقلق طهران قلقاً شديداً، وتحرج بغداد بسبب ورطة مساءلتها الرسمية من الأطراف الغربية والإقليمية عن السماح للميليشيات الإيرانية بعبور الأراضي العراقية في اتجاه الداخل السوري، وعمّا ينقله الموكب العسكري. ويتوجّب على بغداد إيضاح ذلك للجانب الأميركي المفترَض أنّه ينسّق معها أمنيّاً وسياسياً، ويراقب كلّ شاردة وواردة في مناطق الحدود العراقية – السورية.

لا أحد يعلم بعدُ من الذي أهدى الآخر الهجوم على العمق الإيراني: تل أبيب أم واشنطن؟

هناك توقيت زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إسرائيل، وإعلانه بحضور رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو أنّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن “تتّفق مع إسرائيل بشأن أهميّة منع إيران من أن تصبح نووية”، وهذه رسائل لا يمكن فصلها عن توقيت تحريك المسيّرات ضدّ مواقع عسكرية إيرانية استراتيجية. لكنّ الأسئلة الأهمّ التي تنتظر الإجابة هي:

– هل زوّد أحدهم في بغداد القيادة العسكرية الأميركية بالمعلومات والتفاصيل المتعلّقة بالتحرّكات الإيرانية الأمنيّة والعسكرية في العراق قبل أيّام؟

– أوليس من ينفّذ هذه الضربات على هذا النحو يعلن أنّ المسألة لم تعد حرباً بالوكالة بل مواجهة مباشرة مع طهران، وتتجاوز استهداف العلماء الإيرانيين ودعم حراك التمرّد الشعبي في المدن الإيرانية؟

– ألا يعلن المنفّذ بهذه العمليّة تغيير استراتيجية قواعد الاشتباك وجعلها أكثر علنيّة وصداميّة؟

لا حاجة هنا إلى الإطالة أكثر من ذلك. فواشنطن وتل أبيب تعلمان كلّ شيء، وطهران تعلم أنّهما تعلمان كلّ شيء.

ليس مستبعداً أن تكون المقايضة التركية – الأميركية الأخيرة، بعد زيارة وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو واشنطن، قد شملت إسقاط مخطّط إيران القديم

قيادة إيرانيّة في الصحراء

سفينة إيران في الإقليم جاهزة للانطلاق، لكنّ مشكلتها هي عدم ظهور القبطان المناسب القادر على ضمانة سلامة الإبحار بين الألغام والجزر الصخرية المنتشرة بكثافة، والتي تختفي لساعات ثمّ تعود إلى الظهور فجأة معرّضة السفينة وحمولتها للخطر. لا تختلف وضعيّة القيادة الإيرانية اليوم كثيراً عن حال فريق تنقيب عن الآثار تاه في الصحراء، إذ بمقدوره السير، لكنّه فقد البوصلة التي تقوده في الاتّجاه الصحيح.

سُجّلت العمليّة في إيران وفي الداخل السوري ضدّ مجهولين. فعلى من ستردّ طهران؟

تعتقد إيران أنّها قادرة على مقاومة العاصفة الإسرائيلية، لكن ما ينتظرها هو الإعصار الإقليمي. ومن يريد التطوّع بعد الآن لتقديم الخدمات الميدانية إلى إيران في المنطقة، فسيكون عليه أن يأخذ في الاعتبار مصير مصالحه وسط لعبة الكرّ والفرّ الجديدة.

تقع الجغرافيا الإيرانية اليوم في قلب بؤر التوتّر الإقليمي الذاهب نحو التصعيد السياسي والعسكري. ليس السبب فقط الحراك الشعبي المتزايد في الداخل الإيراني، بل علاقات إيران بجيرانها التي تقوم على متلازمة “أنا أو لا أحد”.

لا تريد القيادات الإيرانية التعامل بجدّيّة مع عقدة: لماذا لا يحبّوننا في الإقليم؟ الطرح البديل الذي تقدّمه هو متلازمة “هوبريس” التي اكتشفها الطبيب والسياسي البريطاني ديفيد أوين والتي تجمع العوامل التالية:

– الثقة الزائدة بالنفس.

– إنكارالواقع المحيط.

– التصرّف بلا حسبان العواقب.

– الظنّ أنّ تغيير الآخرين هو الحلّ الأنسب للخروج من المحنة، بدل مراجعة السلوك والأسلوب والشعارات التي يدافع عنها المريض.

القوقاز والشرق الأوسط

ليس اندفاع القيادة الإيرانية الواضح إلى الانحياز لموسكو في حربها على أوكرانيا، ومحاولتها الضغط على أنقرة كي لا تتجاهل دورها ونفوذها في أيّ تسوية سوريّة، سوى قنابل صوتية تهدف إيران من ورائها إثبات وجودها والتذكير بما تستطيع فعله إذا ما أراد أحدهم الالتفاف على مصالحها.

يدعو إردوغان إلى إشراك طهران في المفاوضات التي تجري مع نظام دمشق. وهذا موقف سياسي تركي لافت يتزامن مع إعلان أنقرة أنّها تواصل دعم جهود منظمة “حظر الأسلحة الكيمياوية” الرامية إلى ضمان المساءلة عن استخدام تلك الأسلحة في سوريا، ولا سيّما مجزرة دوما التي تحمّل أنقرة النظام السوري مسؤوليّة ارتكابها. ويعلم إردوغان أنّ الحوار مع دمشق يتقدّم بصعوبة لأنّ أميركا لن تدعمه في أيّ حال من الأحوال. يريد القول لطهران إنّه ليس هو العقبة أمام حضورها جلسات المفاوضات بل أميركا.

ليس مستبعداً أن تكون المقايضة التركية – الأميركية الأخيرة، بعد زيارة وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو واشنطن، قد شملت إسقاط مخطّط إيران القديم: وصولها إلى مياه شرق المتوسّط عبر الأراضي السورية، بعد فشلها في تحقيق ذلك في المياه اللبنانية.

تضييق الخناق على إيران في القوقاز سببه الردّ على سياساتها التصعيدية التي تتبنّاها هناك

الردّ على إيران في باكو

تشعل إيران عدّة جبهات في الشرق الأوسط، ومنها منطقة القوقاز التي تغطّي سحب الدخان سماءها، والتي تُعتبر حديقتها الخلفيّة ومركز ثقلها الجغرافي الاستراتيجي المهدّد بالتمدّد التركي والأذري والإسرائيلي، وتحديداً في هذه الآونة. ما يدور داخل إيران ومن حولها يدفع أكثر من لاعب محلّي وإقليمي إلى مراجعة تموضعه في القوقاز. فمعضلة “جنوب أذربيجان” قديمة جدّاً في مجرى العلاقات بين طهران وباكو. لكنّ هذه المعضلة شهدت تحوّلات إقليمية جذرية بعد دخول أكثر من لاعب إقليمي على الخطّ مثل روسيا وتركيا وإسرائيل لقلب المعادلات وتغيير مسار الحسابات والرهانات.

تضييق الخناق على إيران في القوقاز سببه الردّ على سياساتها التصعيدية التي تتبنّاها هناك. تحاول طهران مقاومة ما هو محتّم عبر بناء تحالفات جديدة مع روسيا والصين، لكنّ مشكلتها تبقى في أنّها تقدّم لروسيا أكثر ممّا تأخذه منها، خصوصاً أنّ موسكو لا تريد التفريط بعلاقاتها مع أنقرة وباكو وتل أبيب.

من أين انطلقت المسيّرات لاستهداف أصفهان؟

على إيران أن توسّع دائرة تساؤلاتها وبحثها. فهل تذهب في اتجاه معرفة أين ومع من أخطات؟ أم تتمسّك بمتلازمة “هوبريس” التي تركتها وحيدة بلا حلفاء وشركاء حقيقيّين؟

إقرأ أيضاً: هجوم أصفهان: أميركا ترفع العصا في وجه إيران

لن تفتح باكو مجالها الجوّي أمام تل أبيب لتسهيل ضربات جوّية في مناطق استراتيجية داخل العمق الإيراني. لكنّ سيناريوهات سوداوية من هذا النوع ليست مستبعدة في حال تمسّك طهران بسياسة التصعيد والتحدّي في جنوب القوقاز، ومواصلة مناوراتها العسكرية الضخمة على حدودها مع أذربيجان.

إقرأ أيضاً

وريقة صغيرة من نتنياهو إلى بايدن: إلزاميّ واختياريّان!

لم يتصرّف نتنياهو حيال الردّ الإيراني الصاروخي، كما لو أنّ ما حصل مجرّد تمثيلية، مثلما عمّم وروّج خصوم طهران. ولم يقتنع بأنّ حصيلة ليل السبت…

بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات…

لبنان ما زال في بوسطة عين الرمّانة!

مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون…

لبنان بعد الردّ الإسرائيلي على إيران؟

لا يمكن الاستسهال في التعاطي مع الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. بمجرّد اتّخاذ قرار الردّ وتوجيه الصواريخ والمسيّرات باتجاه إسرائيل، فإنّ ذلك يعني…